رام الله– منذ بداية فصل الصيف الحالي، يعانى سكان مدينة الخليل -أكبر محافظات الضفة الغربية– من أزمة مياه خانقة امتدت إلى مرافقها الأساسية من مستشفيات ومراكز إصلاح وجامعات ومراكز حكومية وأهلية، وذلك بعد تقليص سلطات الاحتلال حصة المدينة من المياه بنسبة 40%.
والتقليص في المدينة التي يسكنها 300 ألف فلسطيني، جاء من شركة المياه الإسرائيلية، ولم يكن أمام سكان الخليل إلا شراء ما يعوض هذا النقص من مصادر مياه غير صالحة للشرب أو ترشيد استهلاكهم منها، كما يقول رئيس البلدية تيسير أبو سنينة، فدورية المياه (موعد ضخ المياه من قبل البلدية إلى المنازل) كانت كل 20 يوما وأصبحت بعد هذا التقليص في مدى 45 – 53 يوما.
وقال أبو سنينة للجزيرة نت، إن أزمة المياه ليست بالجديدة، كما هو الحال في باقي أنحاء الضفة الغربية، ولكن التقليص عمّق هذه الأزمة أكثر.
وبالحديث عن أسباب هذه الأزمة، يحدد أبو سنينة بدايتها مع توقيع اتفاقية أوسلو وتأجيل التفاوض بشأن ملف المياه إلى قضايا الحل النهائي التي كانت من المفترض أن تُناقش بعد 5 سنوات من الاتفاقية، وتابع “كانت جريمة بحق الفلسطينيين”.
لماذا أوسلو؟
في البداية تضمّن اتفاق “إعلان المبادئ” في سبتمبر/أيلول عام 1993 بندا بإنشاء سلطة إدارة مياه فلسطينية، إلى جانب ما جاء في الملحق 3 في البند 1 من الاتفاق، والذي ينص على “التعاون في مجال المياه وتطويرها بواسطة خبراء من الجانبين” و”الاستخدام المنصف لموارد المياه المشتركة أثناء وبعد المرحلة الانتقالية”.
وفيما بعد، جاء في نص اتفاقية أوسلو الأولى ضمن الملحق الثاني أن السلطة الفلسطينية “ستقوم بتشكيل وإدارة وتنمية كافة شبكات وموارد المياه والصرف الصحي بطريقة تحول دون حدوث أي ضرر لموارد المياه”.
و”تستمر شركة مياه ميكروت (شركة المياه الإسرائيلية) في تشغيل وإدارة شبكات المياه القائمة التي تزود المستوطنات ومنطقة المنشآت العسكرية بالمياه”، و”تتم كافة عمليات الضخ (…) وفق الكميات الحالية لمياه الشرب ومياه الري، مقابل ذلك فإن السلطة الفلسطينية لن تؤثر على الكميات بصورة سلبية”.
وخلال “اتفاقية أوسلو 2” الموقّعة عام 1995، كان الشق المتعلق بالمياه واضحا أكثر من خلال البند 40 والمتعلق بالمياه والمجاري، فقد تضمن الملحق الثاني اعترافا “بحقوق الفلسطينيين في المياه بالضفة الغربية”، وكانت المرة الأولى التي يتم الإشارة فيها إلى الحقوق الفلسطينية، ولكن تم ترحيل نقاش هذه الحقوق إلى قضايا الحل النهائي التي كانت مقررة بعد 5 سنوات من حينه وخلال ذلك تقوم لجنة مشتركة ببحث قضايا المياه.
خريطة مياه فلسطين
وبالعودة إلى خريطة توزيع المياه في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، فإن الضفة الغربية تعوم على 3 أحواض رئيسية إلى جانب الحوض الساحلي لقطاع غزة:
- ويعتبر الحوض الغربي (في مناطق طولكرم وقلقيلية وسلفيت) أكبر هذه الأحواض، حيث يتجمع فيه سنويا 365 مليون متر مكعب، ويستفيد الفلسطينيون من 25 مليون متر مكعب منها فقط.
- ثم الحوض الشمالي الشرقي، (في الأغوار والخليل وبيت لحم)، ويتجمع فيه 145 مليون متر مكعب، يستفيد الفلسطينيون من 18% منها فقط.
- ثم الحوض الشمالي (في نابلس وجنين)، ويجمع 162 مليون متر مكعب، يستخدم الفلسطينيون 50% منها.
وبينما تسمح الاتفاقية لإسرائيل بضخ المياه إلى مستوطنات الضفة الغربية، تُمنع السلطة الفلسطينية من التحكم بها، كما يقول الخبير في شؤون المياه وليد الهودلي. ويضيف “لدينا فائض من المياه في قلقيلية وطولكرم وسلفيت ولكن لا نستطيع الاستفادة منه”.
وأكثر من ذلك، بحسب الهودلي، فقد تجاوزت اتفاقية أوسلو تقسيم الضفة إلى مناطق (أ، ب، ج)، فيما يتعلق بالمياه، وأعطت إسرائيل السيطرة على مصادر المياه الواقعة ضمن المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وتابع :” تضمنت الاتفاقية تحايلا انطوى على الفلسطينيين”.
ويتحدث الهودلي عن صورتين للتحايل على حقوق الفلسطينيين في اتفاق أوسلو:
- الأولى: بالفصل بين إدارتي الخدمات ومصادر المياه، ويعني بالخدمات الشبكات وتوزيع المياه والفواتير والتي أعطي جزء كبير من إدارتها للسلطة، ولكن مصادر المياه بقيت في أيدي شركات المياه الإسرائيلية.
- والأمر الثاني هو “لجنة المياه المشتركة” التي أنشئت لمناقشة قضايا المياه التي تتعلق بالفلسطينيين ولكن أعطت للجان الإسرائيلية حق الاعتراض، مما جعلها بلا فائدة حقيقية.
أطماع تاريخية
وليس فقط في اتفاقية أوسلو، ففي مراجعة بداية الاستيطان اليهودي في فلسطين، وحتى احتلال قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس في حرب 1967، سعت الحركة الصهيونية للسيطرة على كل مصادر المياه.
وبعد شهرين فقط من احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، أصدرت إسرائيل أمرا عسكريا حمل الرقم (92) واعتبرت فيه كل المصادر المائية هي مصادر حكومية وتتبع الحكم العسكري، وألغت جميع تراخيص الآبار التي أصدرتها الحكومة الأردنية (كانت تحكم الضفة الغربية قبل الاحتلال)، واعتبرت منطقة نهر الأردن منطقة عسكرية ولم تعد للفلسطينيين أية استفادة من هذا النهر.
تبع ذلك أمران عسكريان عامي 1967 و1968 ويقضيان بـ”وضع جميع الآبار والينابيع ومشاريع المياه تحت السلطة المباشرة للحاكم العسكري الإسرائيلي”، وأن “جميع مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية أصبحت ملكا للدولة وفقا للقانون الإسرائيلي”.
وبذلك سيطرت إسرائيل على 100% من مصادر المياه، وبدأت باستغلالها لخدمة مشاريعها الاستيطانية وخاصة القائمة على الزراعة.
ومع توقيع اتفاقية أوسلو تحولت هذه السيطرة بموافقة فلسطينية، لما يحمله الاتفاق من ثغرات قبل بها الفلسطينيون، وإن كان يتضمن اعترافا صريحا بحقوقهم في المياه.
حلول قتلتها أوسلو
برأي مدير عام “معهد الأبحاث التطبيقية” جاد إسحاق، فإنه وبالرغم من الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، فإن الإسرائيليين وبالتطبيق العملي يتعاملون على أن للفلسطينيين احتياجات مائية وليست حقوقا كما نصت الاتفاقية، ومنذ ذلك الحين بقيت هذه الاحتياجات ثابتة بمقدار لا يتجاوز 15% من مجمل المياه دون الأخذ بالزيادة السكانية على مدار هذه السنوات، أو تغير نمط المعيشة.
وأضاف إسحاق للجزيرة نت “المياه الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل تزيد عن حاجتها، فسنويا لديها 500 مليون متر مكعب تقوم ببيعه للأردن والسلطة الفلسطينية”.
وعن الحلول المتاحة أمام الفلسطينيين، يقول إسحاق إنه من الممكن إعادة تكرير المياه العادمة، أو الاستفادة من مياه الأمطار ببناء السدود، ولكن كل ذلك تقيّده اتفاقية أوسلو أيضا بموافقة إسرائيلية، وتابع “إسرائيل لم تسيطر فقط على المياه بهذه الاتفاقية وإنما قيدت الفلسطينيين في إيجاد حلول للإفلات من هذه السيطرة”.