أعلن الرئيس التركي – رئيس حزب “العدالة والتنمية” الحاكم- رجب طيب أردوغان، مرشحي حزبه للانتخابات المحلية المقبلة عن معظم المحافظات والمدن الكبرى، لكن الأنظار والاهتمام والنقاش توجهت بشكل أساسي نحو بلدية إسطنبول الكبرى، الأهم في البلاد، وذات الرمزية لأردوغان نفسه، الذي رشح لها الوزير السابق المعروف مراد كوروم.
المعارضة
في الانتخابات المحلية عام 2019، فازت المعارضة التركية- وتحديدًا حزب “الشعب الجمهوري” – ببلديتي أنقرة وإسطنبول وانتزعتهما من حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بعد زهاء ربع قرن من سيطرة الأخير، ومن قبله حزب الرفاه (المحافظ) عليهما.
كان أهم أسباب هذا الفوز توحد المعارضة خلف مرشح واحد في المدينتين، حيث دعم مرشحَيْ “الشعب الجمهوري” فيهما أحزابُ؛ “الجيد” القومي، و”السعادة” المحافظ، و”الديمقراطي” الليبيرالي بشكل رسمي، وحزب “الشعوب الديمقراطي” القومي الكردي بشكل غير رسمي، إضافة لاعتراضات بعض الشرائح على سياسات “العدالة والتنمية” في السنوات الأخيرة، فضلًا عن سوء اختيار مرشح الحزب الحاكم في حينه.
ذلك أن مرشح العدالة والتنمية حينها لبلدية إسطنبول الكبرى، كان رئيس الوزراء السابق ورئيس البرلمان السابق بن علي يلدرم، فكان غير مناسب للمنصب لا سياسيًا ولا حتى عمريًا، حيث واجه مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو الأكثر شبابًا وحيوية وقدرة على التواصل الجماهيري والإعلامي في حينها، وخصوصًا مع فئة الشباب.
اليوم – وحزب “العدالة والتنمية” مصمم على استعادة البلدية الأهم في البلاد – تبدو الصورة مختلفة جدًا عن الانتخابات السابقة. فتحالف المعارضة تشتّت، وأعلنت معظم مكوّناته انتهاءه إلى غير رجعة، وتحديدًا القوة الثانية فيه؛ أي حزب “الجيد”، الذي أعلن أنه سيخوض الانتخابات المحلية بمفرده وبمرشحيه، ولن يدعم مرشحي “الشعب الجمهوري” حتى في إسطنبول وأنقرة، كما كان الأخير يأمل.
كما أن الأحزاب المحافظة الصغيرة وحديثة التأسيس- مثل “السعادة” و”المستقبل” و”الديمقراطية” و”التقدم” – على خلاف علني مع أكبر أحزاب المعارضة، وعليه فلم يبقَ أمام الأخير إلا الدعم العلني أو الضمني لحزب “الشعوب الديمقراطي” أو باسمه الجديد حزب “مساواة وديمقراطية الشعوب”.
وعليه، فقد خسر “الشعب الجمهوري” العامل الأهم الذي ساهم في فوزه ببلدية إسطنبول الكبرى في 2019، وبقي في انتظار العوامل المرتبطة بحزب “العدالة والتنمية”، وخصوصًا اسم مرشحه وبرنامجه الانتخابي، بعد أن أعلن عن ترشيح رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو لرئاسة البلدية مجددًا.
ولذلك كان شعار “العدالة والتنمية” في الانتخابات المحلية المقبلة، والمعلن في الاحتفالية: “العدالة والتنمية مجددًا.. إسطنبول مجددًا”، في إعلان واضح على عزم الحزب استعادةَ رئاسة بلديتها وجعلها المعركة الأهمّ في الاستحقاق المقبل
المرشحون
في السابع من يناير/ كانون الثاني الجاري – وفي احتفالية كبيرة في إسطنبول- أعلن أردوغان عن مرشحي حزبه للانتخابات المحلية في 26 بلدية، منها 11 بلدية كبرى، و15 محافظة، في مقدمتهم مرشحه لبلدية إسطنبول الكبرى الذي ترك الإفصاح عن اسمه للأخير؛ تعبيرًا عن الأهمية والرمزية، بينما ترك الإعلان عن المرشح لبلدية أنقرة الكبرى ضمن بلديات أخرى للأسبوع المقبل، بما يحمل تعبيرًا ضمنيًا عن أن اختيار مرشح أنقرة تكتنفه تعقيدات أكبر وحسابات أعقد.
يخوض “العدالة والتنمية” الانتخابات المحلية المقبلة – التي ستنظم في الـ 31 من مارس/ آذار المقبل – بالتّنسيق مع حليفه الوثيق في السنوات الأخيرة حزب “الحركة القومية”؛ لأن قانون الانتخاب لا يسمح بتحالفات رسمية في الانتخابات المحلية على غرار الرئاسية والتشريعية. ويقضي التنسيق- الذي ناقشه الحزبان لمدة طويلة عبر لجان مختصة- بأن يدعم أحد الحزبين مرشحي الآخر في بعض البلديات التي يمكن للمنافسة بينهما فيها أن تجعل فرصة المعارضة في كسبها أكبر.
وعليه، فقد توصل الحزبان لفكرة التنسيق والتعاون في 59 بلدية، 30 منها بلديات كبرى، و29 منها بلديات محافظات. وفي التفاصيل، سيدعم “الحركة القومية” مرشحي “العدالة والتنمية” في 52 بلدية، بينما سيدعم الأخير مرشحي “الحركة القومية” في سبع بلديات، ويتنافس الحزبان – ضمن الأحزاب الأخرى – في 22 بلدية.
مرشحو العدالة والتنمية للبلديات الـ 26، الذين أعلن عنهم أردوغان في معظمهم أسماء معروفة وقوية، منهم 15 رؤساءُ بلديات حاليًا، جدَّدَ الحزب ترشيحهم، فضلًا عن رؤساءِ بلديات سابقين وبرلمانيين حاليين وسابقين، كما رشح الحزب برلمانيًا سابقًا عن منافسه حزب “الشعب الجمهوري” عن ببلدية موغلا التي يديرها الأخير حاليًا.
معركة إسطنبول
من بين البلديات الـ 26 المعلنة كانت إسطنبول الأهم، كيف لا وهي المدينة الكبرى في البلاد، وذات الرمزية التاريخية التي لا تُجهل أو تُتجاهل، وفيها خُمس الخزان الانتخابي في البلاد، وينظر لرئاسة بلديتها على أنها أهم من عدة وزارات، وتتخطى ميزانيتها فعلًا ميزانية العديد منها، فضلًا عن رمزيتها وأهميتها بالنسبة لأردوغان نفسه الذي بدأ منها مشواره السياسي نحو قيادة البلاد لأكثر من عقدين متتاليين من الزمان.
ولذلك كان شعار “العدالة والتنمية” – في الانتخابات المحلية المقبلة، والمعلن في الاحتفالية – “العدالة والتنمية مجددًا.. إسطنبول مجددًا”، في إعلان واضح على عزم الحزب استعادةَ رئاسة بلديتها وجعلها المعركة الأهمّ في الاستحقاق المقبل.
بل إن أردوغان وهو يعلن الوزير السابق والنائب الحالي في البرلمان مراد كوروم، مرشحًا لحزبه لإسطنبول، قال: إن المدينة ستحصل أخيرًا على “مرادها” في تلاعب لطيف بالألفاظ مقصود لذاته، لا سيما أنه قد عدَّ السنوات الخمس التي أمضتها المدينة في عهدة “الشعب الجمهوري” المعارض بمثابة حقبة “الفترة” المعروفة في الإرث الديني.
معايير كثيرة تم تداولها في الشهور الماضية، لاختيار مرشح “العدالة والتنمية” لإسطنبول، تؤدي في مجملها معنى أن يكون المرشح قويًا ومؤهلًا ومقنعًا، بحيث يمكنه الفوز على مرشح “الشعب الجمهوري” القوي رئيس البلدية الحالي إمام أوغلو، وكان كوروم منذ أشهر أحد أهم المرشحين المحتملين.
يحقق كوروم عددًا من الشروط الأولية المطلوبة في المرشح المنشود. أولها: أنه سياسي شاب وحيوي- على عكس مرشح الحزب في 2019 (بن علي يلدرم) – وذو سيرة ذاتية ناجحة، وهو يجمع العمل البيروقراطي في مؤسسات الدولة، إضافة لعمله الحزبي، كما أنه ليس من الشخصيات الجدلية المنخرطة في المناكفات الداخلية وحالة الاستقطاب القائمة، وهذا أمر مطلوب في مدينة شديدة التنوع مثل إسطنبول، فضلًا عن أنه ليس شخصية مرفوضة من الشريحة الكردية تحديدًا.
إلى ذلك، فسيرته المهنية تناسب مدينة مثل إسطنبول يشكل الزلزال الكبير المحتمل هاجسًا كبيرًا لسكانها، حيث أدار سابقًا رئاسة إدارة المباني الجماعية التابعة للحكومة، ثم وزيرًا للبيئة والتطوير العمراني والتغير المناخي لمدة ليست بالقصيرة.
وقد كان أداؤه الميداني والسياسي والإعلامي خلال فترة الزلزال المدمر جنوب البلاد بداية العام الماضي جيدًا، وحاز على رضا شعبي مقبول.
إلى ذلك، فالرجل مسقط رأسه في قونيا، المدينة المحافظة ذات الحضور القوي للتيار الإسلامي والمحافظ، ما يمكن أن يضمن له ليس فقط أصوات أنصار “العدالة والتنمية”، ولكن كذلك أنصار الأحزاب الإسلامية والمحافظة الأخرى، مثل: “السعادة” و”الرفاه مجددًا” و”المستقبل” و”الديمقراطية” و”التقدم”. ولأنه لا يحمل لونًا أيديولوجيًا فاقعًا، فقد يستطيع الحصول على ثقة أنصار الأحزاب القومية التركية والكردية على حد سواء، وهو أحد رهانات أردوغان في شخص كوروم.
بالنظر لما سبقَ، وبانتظار نشر إعلان (البرنامج) الانتخابيّ للحزب وإطلاق حملته الانتخابيّة وبعض العوامل الأخرى الأقلّ أهمية وتأثيرًا، يمكن القول بأريحية؛ إن فرص “العدالة والتنمية” باستعادة بلدية إسطنبول الكبرى بفوز مرشحه مراد كوروم تبدو عالية. بل ليس من قبيل المبالغة القول؛ إن فرصه أعلى من فرص منافسه إمام أوغلو، تحديدًا إذا ما بقيت خريطة التحالفات على شكلها الحالي، وافتقد الأخير لدعم أحزاب إضافية وازنة.