مقدمة للترجمة
تتسم الرياضيات بالبساطة والتناظر، فإذا تعاملنا معها باعتبارها لغة، فستُعتَبر أفضل طريقة ممكنة لوصف العالم، ويتمتع البشر بالقدرة على اختراق أدغال الرياضيات العجيبة وشق سبيلهم عبر هذه الأشجار الكثيفة. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: من أين تأتي هذه القدرة؟ ولماذا طورناها؟ وما الغرض منها؟ تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الخوض في أحد أهم النقاشات العلمية وأكثرها احتدامًا في علم الأعصاب، كما يجب علينا أيضًا إعادة التفكير في ماهية الرياضيات نفسها.
نص الترجمة
ترى مريم ميرزاخاني، عالمة الرياضيات الإيرانية، وهي أول امرأة تفوز بجائزة فيلدز (وهي جائزة مرموقة تُمنح في مجال الرياضيات، وتُعتبر أعلى تكريم رياضي عالمي*) أن الرياضيات غالبًا ما تبعث في نفسها “شعورًا أشبه بالتيه وسط غابة كثيفة، حيث يتحتم على المرء استخدام كل ما لديه من معرفة لسبر أغوار بعض الحيل الجديدة، وبقليل من الحظ، قد يجد سبيلًا للخروج”.
غاصتْ ميرزاخاني، التي تُوفيت في الرابع عشر من يوليو/تموز 2017 عن عمر يناهز 40 عامًا، في غابة الرياضيات بدرجة أعمق من أغلب الناس الذين قضوا وقتًا طويلًا على حدودها لتصور شكل تضاريسها فقط. تبدو القدرة على التفكير الرياضي العميق ميزة فريدة للبشر مقارنة بالحيوانات الأخرى، إذ يتمتع البشر بالقدرة على اختراق هذه الأدغال وشق سبيلهم عبر هذه الأشجار الكثيفة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: من أين تأتي هذه القدرة؟ ولماذا طورناها؟ وما الغرض منها؟ تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الخوض في أحد أهم النقاشات العلمية وأكثرها احتدامًا في علم الأعصاب، كما يجب علينا أيضًا إعادة التفكير في ماهية الرياضيات نفسها.
إن العالم الطبيعي مكان مُعقد ويصعب التنبؤ بمجرى أحداثه، إذ تتغير مواطن الكائنات، وتهاجم الحيوانات المفترسة الكائنات الأخرى، وفي أي وقت قد ينفد الطعام. وتعتمد نجاة الكائن الحي على قدرته على فهم محيطه، سواء من خلال حساب الوقت الباقي حتى حلول الظلام، أو تحديد أسرع طريقة للهروب من الخطر، أو تقييم الأماكن الأكثر احتمالًا لوجود الطعام. ومن جانبه، يقول كارل فريستون، عالم الأعصاب الحاسوبي والفيزيائي بجامعة لندن: “تحتاج هذه القدرات إلى إجراء حسابات رياضية”.
ويضيف فريستون: “تتسم الرياضيات بالبساطة والتناظر، فإذا تعاملنا معها باعتبارها لغة، فستُعتَبر أفضل طريقة ممكنة لوصف العالم”. فمن الدلافين إلى العفن الغروي، يبدو أن معظم الكائنات الحية تستخدم نوعا من الرياضيات لفهم العالم من حولها، وذلك من خلال تحليل أنماطه وفك رموزه لتبقى قادرة على النجاة والتكيف.
يطرح فريستون فكرة أن أي نظام ذاتي التنظيم (أي كائن حي أو نظام قادر على التكيف مع بيئته) يحتاج إلى نموذج داخلي ضمني عن البيئة المحيطة به ليعمل بكفاءة. وتعود هذه الفكرة إلى سبعينيات القرن الماضي بعدما طُورتْ ضمن نظرية “المنظم الجيد”.
كان أحد رواد هذا المفهوم هو روس آشبي، الذي أسس علم السايبرنيتيك (وهو علم يهتم بدراسة التنظيم الذاتي والأنظمة المعقدة*). وفقًا للنظرية، لكي يتمكن الروبوت من التحكم بفعالية، لا بد أن يمتلك نموذجًا داخليًّا لجسده الميكانيكي وبيئته.
يوضح فريستون أن هذا المبدأ أصبح أكثر وضوحًا ودقة اليوم مع تطور التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن دماغ الحيوان أيضًا يعمل بالطريقة ذاتها، أي أنه لا بد له أن يكوّن نموذجًا داخليًّا لجسده والبيئة التي يتحرك فيها.

لا حاجة إلى جهد ذهني
الأمر المذهل هو أن جميع الكائنات التي “تصمم نماذج” للعالم من حولها لا تدرك ذلك بوعي، والأمر ذاته ينطبق علينا نحن البشر. فعلى سبيل المثال، عندما نركض لالتقاط كرة أو نتحرك بسرعة وسط زحام المرور، فإن عقولنا تُجري عمليات رياضية معقدة دون وعي منا.
وفقًا للنظرية، يستخدم كل دماغ نموذجًا داخليًّا للتنبؤ بما سيحدث، كما يُجري تحديثًا على هذا النموذج باستمرار من خلال مقارنة التوقعات مع ما يحدث بالفعل على أرض الواقع.
في السياق ذاته، يقول آندي كلارك، الفيلسوف الإدراكي بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة، إن هذه العمليات الرياضية تُحسَب بلا شك بواسطة أجزاء مُحددة من الدماغ. لكن هذا لا يعني وجود وحدات متخصصة في الدماغ تعمل مثل أزرار الآلة الحاسبة، بضغطة زر واحدة يمكنها إجراء عمليات حسابية. ويؤكد كلارك على ذلك بقوله: “ليس لدينا قدرة مباشرة على إدارة هذه الحسابات لأنها تحدث تلقائيًّا وبطريقة غير واعية”.
على الرغم من أن النماذج العقلية التي يبنيها الدماغ تهدف إلى ضمان بقائنا في عالم مُعقد تحكمه قوانين الفيزياء، فإن تركيزها الشديد على إبقائنا على قيد الحياة قد يُفضي أحيانًا إلى تجاوز المنطق، بمعنى أن الدماغ يُفضّل أحيانًا اتخاذ قرارات سريعة تساعدنا على البقاء، حتى لو لم تكن دقيقة أو منطقية تمامًا.
خذ على سبيل المثال، مغالطة المقامر، وهي الاعتقاد الخاطئ بأنه إذا سقطت كرة الروليت على اللون الأحمر عدة مرات متتالية، فإن المراهنة على الأسود ستكون الخيار الأفضل. لكن في الحقيقة، تُعتبر كل دورة مستقلة عن الأخرى، وبالتالي فإن احتمالات ظهور الأحمر أو الأسود تظل متساوية.
إذن، لماذا يقع الدماغ في مثل هذا الخطأ؟ تنص النظرية على أن أدمغتنا طورت هذه النماذج لتساعد أجدادنا على اتخاذ قرارات مصيرية، مثل معرفة متى يجب مغادرة منطقة أصبحت جدباء ولم تعد توفر طعاما. لكن قد يعتمد الدماغ على تجاربه السابقة أو غرائزه في اتخاذ القرارات؛ مما يجعله يتجاهل أو يخطئ في فهم الحقائق الإحصائية الواضحة.
أو لنأخذ على سبيل المثال تأثير ويبر-فيشنر، وهو مبدأ في علم النفس يفسر كيف نستجيب للمحفزات الخارجية، ويوضح كيف يصبح من الصعب ملاحظة الفروق بين الأشياء كلما زادت قوتها أو شدتها. فبينما يُمكن بسهولة تمييز وزن كيلوغرام واحد عن وزن كيلوغرامين، يصعب التمييز بين وزني 21 كيلوغرامًا و22 كيلوغرامًا. وينطبق الأمر نفسه على الحواس الأخرى، ففي الوقت الذي يمكننا فيه تمييز الفرق بين ضوء خافت وآخر أقوى، فإنه عند مستويات السطوع العالية، يغدو من الصعب التمييز بين درجتين متقاربتين من الضوء. وينطبق الأمر ذاته على الأضواء، وشدة الأصوات، وحتى عدد الأشياء التي تستطيع رؤيتها (وبالتالي، كلما زادت شدة المحفزات، أصبح من الصعب ملاحظة الفروق بينها*).
وعلى الرغم من أن عقول البشر ترتكب نفس الأخطاء الإدراكية التي تقع فيها عقول الحيوانات، فقد طورنا القدرة على تحديد بعض هذه الأخطاء والتغلب عليها، مثل اختراعنا للأرقام التي تُعتبر نظاما ترميزيا يسمح لنا بإجراء الحسابات بدقة، كإدراك أن الفرق بين 1 و2 هو نفسه الفرق بين 21 و22. فابتكار هذه اللغة الرمزية المعقدة للرياضيات لم يسمح لنا بتجاوز بعض القيود التي يفرضها عقلنا الباطن فحسب، بل مكّننا من استكشاف المفاهيم المجردة بعمق ونقلها إلى الآخرين. لكن يبقى السؤال الأساسي: “كيف طوّرنا الأدوات اللازمة لفهم ما تفعله أجسادنا غريزيًّا؟”.

قدرة فطرية على فهم الأعداد
تنص إحدى الأفكار القديمة الراسخة على أننا نولد بحسٍّ واعٍ للأرقام بالطريقة ذاتها التي ندرك بها الألوان. في كتابه “الإدراك العددي” الصادر عام 1997، افترض عالم الأعصاب الفرنسي ستانيسلاس ديهاين من وحدة التصوير العصبي الإدراكي التابعة للمعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية في جيف سور إيفيت بفرنسا، أن البشر والحيوانات الأخرى يتمتعون بقدرة فطرية على الإدراك الفوري للأعداد.
بعبارة أخرى، عندما يرى الإنسان ثلاث كرات زجاجية حمراء، فإن عقله يدرك العدد 3 بالطريقة ذاتها التي يدرك بها اللون الأحمر، دون الحاجة إلى العدّ. ورأى ديهاين أن هذه القدرة العددية تتميز بدقة عالية فيما يخص الأرقام الأقل من 4، إلا أنها سرعان ما تفقد دقتها بزيادة هذه الأعداد، ولكنها مع ذلك تُمثل قدرة مدمجة في الدماغ بالفطرة. وستساعدنا هذه القدرة الفطرية في شق طريقنا عبر الغابة الرياضية (أو بمعنى آخر عبر تعقيدات الحسابات الرياضية*).
سرعان ما بدأت الأدلة تتراكم لدعم هذه النظرية الفطرية (التي تفترض أن إدراك الأعداد ليس مكتسبًا، بل قدرة يولد بها الإنسان*). أظهرت إليزابيث سبيلكي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وزملاؤها أن الأطفال بعمر 6 أشهر يمكنهم التمييز بين مجموعة تحتوي على 8 نقاط وأخرى تحتوي على 16 نقطة.
كما أفاد ديهاين وزملاؤه أن أفراد قبيلة الموندوروكو في الأمازون البرازيلية، لا يمتلكون كلمات تعبر عن أرقام تزيد على خمسة، ورغم ذلك، فهم قادرون على التمييز بين كميات أكبر بكثير، وهو ما يؤكد على أن الإحساس العددي موجود بغض النظر عن الثقافة أو اللغة.
وذلك في حين أشارت دراسات أخرى إلى أن البشر يميلون تلقائيا إلى تصور الأرقام مرتبة على خط متصاعد، تزداد فيه الأرقام تدريجيا. كما بزغت أدلة تشير إلى أن الحيوانات تمتلك أيضًا حسًّا عدديًّا، وتنص هذه الدراسات على أن إحساسنا بالأعداد هو قدرة فطرية، لكنها تطورت عبر آلاف السنين بفضل الثقافة.
لكن بعد فترة من الزمن، ساور بعض الباحثين شعور بعدم الارتياح إزاء نتائج هذه الدراسات، وبدؤوا التساؤل عمّا إذا كان المشاركون في الدراسات يميزون بين مجموعتين من النقاط بناءً على عددها فعلًا، أم أنهم يعتمدون على عوامل أخرى، مثل التوزيع المكاني للنقاط (كيف تتوزع النقاط في الصورة*)، أو المساحة التي تغطيها النقاط.
وعن ذلك، تقول الباحثة في علم الأعصاب الإدراكي تالي ليبوفيتش: “هذه إشارات مرتبطة عادةً بالعدد، لذلك من المنطقي أن يعتمد عليها الدماغ”. فمثلًا إذا كنت حيوانًا في البرية وتحتاج إلى صيد شيء ما بسرعة، فغالبا ما ستحتاج إلى استخدام جميع الإشارات المتاحة لكَ، وليس مجرد العدد فقط.
عند إجراء المزيد من الدراسات، تبين أن البشر لا يعتمدون فقط على الأعداد، بل يستخدمون أيضًا إشارات غير عددية. ومع ذلك، أدى هذا الاكتشاف إلى ظهور فرضية جديدة: ربما لم نولد بحس فطري بالأعداد، بل بحس فطري للكميات بصورة عامة مثل حجم الأشياء وكثافتها، إذ إن الكميات غالبًا ما ترتبط بعددها. وتوضح ليبوفيتش أن تطوير هذا الإدراك وفهم العلاقة بين الكمية والعدد يتطلب وقتًا وخبرة.
كما تشير الاختبارات الإدراكية الأكثر دقة التي أُجريت على الأطفال إلى دعم هذه الفرضية الجديدة. فمثلا، لا يستطيع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 4 سنوات إدراك أن خمس برتقالات وخمس بطيخات تشترك في شيء واحد، وهو العدد 5. بالنسبة لهؤلاء الأطفال، تبدو مجموعة البطيخ وكأنها “كمية أكبر” مقارنة بالعدد ذاته من البرتقال، لأنهم يعتمدون على الحجم والإحساس بالكثرة بدلًا من العدد الفعلي.
في حين يؤكد عالم النفس التطوري دانيال أنصاري من جامعة ويسترن أونتاريو في كندا أن تعليم الأطفال الصغار كيفية ترتيب الأرقام والعد لا يعني بالضرورة أنهم يفهمون معناها الفعلي على الفور. فبدلًا من ذلك، يحدث هذا الفهم بصورة غير مباشرة عبر التعرض الطويل والتدريجي للأرقام في الحياة اليومية، من خلال التفاعل مع الوالدين والأشقاء. ويشير أنصاري إلى أن الثقافة تؤدي دورًا قويًّا في تعلم التمثيلات الدقيقة للأعداد (وهو ما يعني أن إدراك الأرقام ليس فطريًّا بالكامل، بل يتشكل تدريجيًّا بفعل الممارسات الثقافية والتجربة المستمرة*).
ويعتقد أنصاري أن دراسة تأثير الثقافة في فهم الأعداد كانت منحازة، لأن معظم الأبحاث ركزت على المجتمعات الصناعية ولم تهتم كثيرًا بالثقافات الأخرى. لهذا السبب، قد يكون الاعتقاد بأن إحساس البشر بالأعداد هو أمر فطري غير دقيق، لأن الثقافة والتجربة تؤديان دورًا كبيرًا في تعلم الأرقام.
خذ على سبيل المثال شعب اليوبنو في بابوا غينيا الجديدة. اكتشف رافاييل نونيز من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو أن هذا الشعب لا يستخدم خط الأعداد العقلي الذي يُفترض أنه عالمي. فضلا عن أن لغتهم لا تحتوي على كلمات للمقارنة مثل “أكبر” أو “أصغر”.
وهذا لا يعني أن لغة اليوبنو بدائية، بل على العكس تمامًا. في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، توجد أربع كلمات فقط للإشارة إلى الأشياء بناءً على قربها أو بعدها. أما لغة اليوبنو، فتتمتع بكلمات أكثر دقة وتعقيدًا، حيث يمكنهم التعبير ليس فقط عن قرب أو بعد الشيء، بل أيضًا عن مدى هذا البعد أو القرب. والأكثر إثارة للاهتمام، أن لغتهم تتضمن كلمات تحدد ما إذا كان الشيء أعلى أو أسفل منهم في الارتفاع، وهو ما يتماشى مع الطبيعة الجبلية التي يعيشون فيها.
ليس شعب اليوبنو وحده من يمتلك لغة لا تركز كثيرًا على الأعداد. فمثلا، يشير نونيز إلى دراسة شملت 189 لغة من لغات السكان الأصليين في أستراليا، وتبين أن ثلاثة أرباعها لا تحتوي على كلمات للأرقام التي تتجاوز 3 أو 4، وأن 21 لغة أخرى لا تتجاوز الرقم 5. يرى نونيز أن هذا دليل على أن الإحساس الدقيق بالأعداد ليس فطريًّا، بل سمة ثقافية تنشأ عندما تتطلبها الظروف، مثل الزراعة والتجارة. ويضيف أن هناك مئات الآلاف من البشر الذين يمتلكون لغات معقدة ومتطورة، ولكنهم لا يمتلكون مهارة تحديد الكميات بدقة.
حتى اللغات التي تتضمن نظامًا عدديًّا متطورًا، مثل الإنجليزية والفرنسية، لها حدودها في فهم الرياضيات. في دراسة حديثة، قرر عالم الأعصاب الفرنسي ستانيسلاس ديهاين وطالبته ماري أمالريك فحص أدمغة 15 عالم رياضيات محترفًا، و15 شخصًا آخر من نفس المستوى الأكاديمي لكن دون تخصص في الرياضيات.
أظهرت النتائج أن ثمة شبكة من المناطق الدماغية تنشط عندما يفكر علماء الرياضيات في مسائل مثل الجبر والهندسة والطوبولوجيا، لكنها لا تعمل عند التفكير في أمور غير رياضية. أما الأكاديميون غير المتخصصين في الرياضيات، فلم يظهر لديهم أي تمييز واضح في النشاط الدماغي. والأمر الأهم هو أن هذه “الشبكة الرياضية” في الدماغ لا تتداخل مع المناطق المسؤولة عن اللغة (وهو ما يشير إلى أن الرياضيات تعتمد على عمليات إدراكية مختلفة عن تلك التي تعتمد عليها اللغة*).
تشير هذه النتائج إلى أنه بمجرد أن يتقن علماء الرياضيات اللغة الرمزية للرياضيات، فإنهم يبدؤون التفكير بطرق لا تعتمد على اللغة العادية (بل ينتقلون إلى مستوى أعمق من الفهم المجرد*). يصف كارل فريستون، عالم الأعصاب الحاسوبي والفيزيائي بجامعة لندن هذه الظاهرة بطريقة مثيرة، قائلًا: “قد يبدو الأمر غريبًا، لكنه يشبه إلى حد ما القدرة على تحميل حدسٍ معين إلى عَالَم آخر، وهو عالَم الرياضيات، ولا تجد أمامك سوى التراجع ومراقبة كيف يتكشف هذا الحدس داخل هذا العالم، وتركه يتفاعل معك من تلقاء نفسه”.
يبدو أن بعض جوانب اللغة الرياضية المتقدمة تتطور بالفعل من إحساسنا الفطري بالأعداد أو الكميات، حتى لو كان هذا الإحساس غير دقيق عند الولادة. ورغم ذلك، لا تعتمد الرياضيات على هذا الإحساس الفطري فقط، بل تستند أيضًا إلى مجموعة من القدرات الأخرى، مثل اللغة لنقل وتبادل الأفكار الرياضية، والذاكرة العاملة للاحتفاظ بالمفاهيم الرياضية ومعالجتها أثناء التفكير، وحتى التحكم الإدراكي لتجاوز التحيزات الفكرية، مثل مغالطة المقامر، التي تجعلنا نعتقد خطأً أن بعض النتائج أكثر احتمالًا بناءً على أنماط غير حقيقية.
الثورة المضادة
لا يزال من غير الواضح متى قامت الثقافة بتحويل الغرائز العددية الفطرية لدينا إلى قدرة رياضية حقيقية. ومع ذلك، توجد أدلة مبكرة تشير إلى تعامل البشر مع الأعداد منذ آلاف السنين. في كهف بوردر بسلسلة جبال ليبومبو في جنوب أفريقيا، عثر علماء الآثار على عظام عمرها 44,000 عام، تحتوي على شقوق منحوتة، من بينها عظمة شظية لقرد البابون تحمل 29 علامة. يعتقد علماء الأنثروبولوجيا أن هذه العظام كانت تُستخدم كعصي لحساب الأعداد، مما يشير إلى بداية فهم رمزي للأرقام، حيث بدأ البشر في تمثيل الأعداد والتلاعب بها بوعي، بدلًا من مجرد الإحساس الفطري بالكميات.
بلغ فن العدّ والقياس مرحلة متقدمة حوالي الألفية الرابعة قبل الميلاد في حضارة بلاد الرافدين المزدهرة، التي قامت في وادي دجلة والفرات. ترى إليانور روبسون من جامعة أكسفورد أن الرياضيات في بلاد الرافدين كانت اختراعًا ثقافيًّا نشأ من الحاجة إلى تسجيل الأيام والشهور والسنوات، وقياس الأراضي والمحاصيل، وربما حتى الأوزان. ومع توسع البشر في الإبحار واستكشاف السماء، بدؤوا في تطوير رياضيات أكثر تقدمًا للملاحة وتتبع الأجرام السماوية.
لكن في بداياتها، لم تكن الرياضيات سوى استجابة لحاجات عملية في المجتمع. وإذا كان البعض يعتقد أن الرياضيات المرتبطة بالتجارة أصبحت شيئًا من الماضي، فالأمر ليس كذلك، فقد تطورت اليوم أكثر النماذج الرياضية تعقيدًا في أسواق المال، مثل وول ستريت، حيث تُستخدم لحساب تداول الأسهم والسندات بدقة مذهلة.
بفضل الأدوات الرياضية الأساسية، تمكن البشر من بناء صرح هائل من المعرفة الرياضية توسّع على مدى 5000 عام ليشمل مجالات أكثر تجريدًا، تبدو للوهلة الأولى منفصلة عن العالم الواقعي. ومع ذلك، كلما تعلمنا المزيد عن أسرار الكون، زاد ارتباط هذه الابتكارات الرياضية بوصف الظواهر التي نلاحظها.
أقرب مثال على ذلك هو ديفيد هيلبرت، الذي طوّر جبرًا مجردًا يعمل في عدد لا نهائي من الأبعاد، بعيدًا عن الأبعاد الثلاثة المألوفة للفضاء. لم يكن أحد ليتوقع حينها أن لهذا المفهوم أي تطبيق عملي، لكن مع ظهور ميكانيكا الكم، اتضح أن أفضل طريقة لوصف حالة نظام كمي هي عبر “فضاء هيلبرت”. وهكذا، تبقى الرياضيات هي حجر الأساس لفهم العالم الكمي.
أدى الانتشار الواسع للعلاقة العميقة بين الرياضيات والفيزياء إلى تعليق الفيزيائي يوجين ويغنر على ما أسماه “الفعالية غير المنطقية للرياضيات” في وصف العالم الطبيعي. يرى العديد من الفيزيائيين اليوم أن نجاح الرياضيات بوصفها لغة علمية يشير إلى أهميتها الجوهرية في بنية وتنظيم الكون نفسه.
يُعدُّ ماكس تيغمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أحد أبرز المؤيدين لهذه الفكرة، إذ يرى أن الكون عبارة عن بنية رياضية بحتة، أي أنه يتكون فقط من خصائص رياضية، ويتمحور دورنا حول الكشف عن هذه البنية ببطء، ونفض الغبار عنها لاستكشاف النظريات والبراهين التي تُشكِّل أساس الواقع.
ويؤكد تيغمارك أن النظرة التقليدية كانت تعتبر أن هناك أشياء محدودة فقط في الطبيعة يمكن وصفها بالرياضيات، أما اليوم، فمن الأسهل حصر الأشياء التي لا يمكن وصفها رياضيًّا. حتى علم الأحياء، الذي طالما بدا عصيًّا على التوصيف الرياضي، بدأ يخضع له ببطء، كما يظهر في الرياضيات المستخدمة في علم الجينوم وعلم الأعصاب الحاسوبي.
انطلاقا من هذا المنظور، تُعدُّ الرياضيات اكتشافًا وليست اختراعًا. لكن بالنسبة للباحثين مثل نونيز، فإن هذا يُعتبر تبسيطا مفرطا للمسألة. فهو يرى أن السؤال المتعلِّق بما إذا كانت الرياضيات مُخترعة أم مُكتشفة يفترض وجود تناقض بين الخيارين، بمعنى أنها إذا كانت مُخترعة، فهي ليست مُكتشفة، والعكس صحيح. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ يعتقد نونيز أن الرياضيات مزيج معقد من الاختراع والاكتشاف، وليست مجرد اختيار بين أحدهما.
فكّر في كتاب “العناصر” الذي جمعه عالم الرياضيات الإغريقي إقليدس، حيث وحد كل المعرفة الرياضية اليونانية آنذاك ووضع أسس الهندسة. استند إقليدس في عمله إلى مجموعة من القواعد أو المسلّمات، ومن أشهرها أن “الخطوط المتوازية لا تلتقي أبدًا”. وبمرور الوقت، بدأ علماء الرياضيات في استكشاف الأنماط والعلاقات التي ظهرت من هذه المسلّمات، وأثبتوا العديد من النظريات بناءً عليها. لكن بعد آلاف السنين، قرر علماء رياضيات آخرون البدء بمسلّمات تتناقض مع مسلّمات إقليدس.
فمثلًا، تعتمد الهندسة الريمانية، التي تُنسب لعالم الرياضيات الألماني برنارد ريمان، بوضوح على فكرة أن الخطوط المتوازية يمكن أن تلتقي، وهو ما يتناقض مع مسلّمات إقليدس. وقد قاد هذا الافتراض غير التقليدي إلى اكتشاف فرع جديد تمامًا من الرياضيات، استخدمه أينشتاين لاحقًا في صياغة نظريته العامة في النسبية لوصف انحناء الزمكان.
وكما يقول آندي كلارك، الفيلسوف الإدراكي بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة: “يزخر العالم من حولنا بالأنماط والتكرارات والسلوكيات المنتظمة، وأي كائن يبني نظامًا رياضيًّا سيضطر إلى تأسيسه بناءً على هذه الأنماط التي تحكم تصرفات الأشياء التي يواجهها”.
لكن بغض النظر عن المسلّمات التي ننطلق منها، قد لا تكون الرياضيات نظامًا فكريًّا كاملًا كما نحب أن نعتقد. ويعود الفضل في هذا الإدراك إلى عالم المنطق النمساوي كورت غودل ونظريته في عدم الاكتمال. فقد أثبت غودل أنه داخل أي نظام رياضي قائم على مجموعة من المسلّمات والبديهيات، يمكننا صياغة عبارات لا يمكن إثبات صحتها أو خطئها باستخدام هذا النظام نفسه. بمعنى آخر، هناك أسئلة تستطيع الرياضيات طرحها، لكنها لن تملك الأدوات الكافية للإجابة عنها أبدًا.
في هذه الحالة، ربما يكون من المبكر جدًّا القول بأن الرياضيات هي الحقيقة المطلقة. فكيف لنا أن نجزم بأن زاويتنا الصغيرة من الكون تعكس الصورة الكاملة؟! ومع ذلك، لا يزال الفيزيائيون مثل تيغمارك متفائلين. فبالنسبة له، تكمن العقبة الكبرى أمام تطوير نظرية رياضية شاملة لكل شيء في فهم الوعي، وهو الأساس الذي نشأت منه قدرتنا على التعامل مع الأرقام. فهل يمكن للرياضيات أن تفسر أصلها بنفسها؟ يرى تيغمارك أن هذا سيكون الاختبار النهائي لفرضية أن كل شيء في الكون متعلِّق بالرياضيات.

ما هي الرياضيات؟
بالنسبة لمعظمنا، تعني الرياضيات الأرقام، وهذا ليس خطأ. فالقدرة على فهم الأرقام ومعالجتها بصورة تجريدية (مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة) هي الأساس الذي بُني عليه صرحٌ عظيم.
وبصورة عامة، تستند هذه المنظومة إلى ثلاثة أعمدة رئيسية: الهندسة، والتحليل، والجبر. الهندسة هي على الأرجح الفرع الأكثر شيوعا لدينا. فهي تنطلق من إحساسنا بالمكان، لقدرتها على وصف كيفية ارتباط الأشياء الثابتة في الفضاء ببعضها، مثل العلاقة بين أضلاع المثلث.
لكن عندما ننتقل إلى دراسة الأشياء التي تتحرك أو تتغير بمرور الوقت، نصل إلى التحليل الرياضي، وهو مجال يشمل التفاضل والتكامل بجميع أنواعه. أما الجبر فهو الفرع الذي يسمح لنا بمعالجة المعرفة باستخدام الأرقام والرموز والمعادلات، وهو الركيزة الأساسية للرياضيات.
يشمل الجبر مجالات متخصصة مثل نظرية المجموعات والعلاقات بين عناصرها وفق خصائص معينة، إضافة إلى نظرية الرسوم البيانية التي تبحث في كيفية ترابط الأشياء والعلاقات بينها.
أما الطوبولوجيا، فهي فرع من فروع الرياضيات يدرس الأشكال والسطوح التي يمكن تشويهها أو تغيير شكلها باستمرار دون تمزيقها أو إعادة ربطها.
قبل ظهور الثقافة البشرية
لطالما استُخدمت الدراسات في الحيوانات بوصفها دليلًا في النقاش حول ما إذا كان الإحساس بالأعداد فطريًّا أم مكتسبًا. فإذا امتلكت الحيوانات قدرات رياضية معينة، فقد يشير ذلك إلى أن هذه القدرة موجودة قبل ظهور الثقافة البشرية.
وبالفعل، أظهرتْ بعض الحيوانات مهارات عددية مذهلة. فقد تمكن أليكس، الببغاء الرمادي الأفريقي الذي دربته العالمة إيرين بيبرغ، من تحديد مجموعات تتراوح بين جسمين وستة أجسام بدقة تصل إلى 80% من الحالات. كما أظهر آي، الشمبانزي الذي دربه عالم الرئيسيات الياباني تيتسورو ماتسوزاوا، قدرة مماثلة على التمييز العددي.
لكن رافاييل نونيز من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو يرى أن هناك تركيزًا مفرطًا على الأبحاث التي تشمل الحيوانات، وذلك على حساب البيانات المستمدة من الثقافات البشرية التي تمتلك لغات متطورة ولكنها لا تظهر فهمًا دقيقًا للأعداد.
يعتقد نونيز أن الحيوانات لا تفهم المعنى الرمزي للأرقام، بل تتعلم ربطها بالأشياء من خلال التدريب المتكرر بعد آلاف الاختبارات. ويشبه ذلك تدريب الحيوانات على القيام بأفعال لا تؤديها عادةً في البرية. فمثلًا: “هل تستطيع الفيلة الوقوف على ساق واحدة على مقعد صغير وهي ترتدي قبعة مضحكة؟” الإجابة هي نعم، ولكن إذا دربتها مدة طويلة.
لكن توجد أدلة متزايدة تشير إلى أن بعض الحيوانات تمتلك قدرات قريبة من الفهم العددي في بيئاتها الطبيعية. في أوائل التسعينيات، أظهرت الدراسات أن الأسود يمكنها التمييز بين تسجيل لصوت أسد واحد وثلاثة أسود تزأر معًا. وفي فبراير/شباط، خلال اجتماع الجمعية الملكية في لندن، أفاد الباحثون بأن بعض أنواع الضفادع يمكنها الاستماع إلى نداءات الضفادع المنافسة، ثم تقليد عدد هذه النداءات أو حتى زيادتها بنداء إضافي.
يعتقد برايان باتروورث من كلية لندن الجامعية أن هذه الاكتشافات تدل على أن الحيوانات قادرة على التمييز اعتمادًا فقط على المعلومات العددية. ويقول: “نحن نشترك في هذه القدرة مع العديد من الكائنات الأخرى”. ومع ذلك، لا تزال هذه الادعاءات محل جدل، فليس الجميع متفقًا على أن هذه النتائج تثبت أن الحيوانات تمتلك غريزة فطرية للأعداد.
لماذا يكره الناس الرياضيات؟
يكتب عالم الرياضيات ديفيد بيرلينسكي في كتابه “واحد، اثنان، ثلاثة”: “من المألوف لأي شخص يكتب عن الرياضيات (أو يُدَرِّسها) أن يجد من لا يحب هذا الموضوع كثيرًا”.
هذا النفور، بل وحتى الخوف من الرياضيات، أمر شائع، ومعظمنا يعلم هذا الشعور. يرى بيرلينسكي أن السبب في ذلك يعود إلى استخدامها للرموز الغامضة. فالرموز تبدو غريبة، واستخدامها في شكل نظريات وبراهين يتطلب تركيزًا عاليا، كما أن الفائدة منها ليست واضحة دائمًا (هل سبق لك أن تساءلت: “كيف سيساعدني تعلم الجبر في حياتي اليومية؟”). وللإجابة عن ذلك، يكتب بيرلينسكي: “في الرياضيات، يجب بذل جهد واستثمار وقت قبل تحقيق أي فائدة، ولكن ما يُكتَسب لا يكون دائمًا ملموسًا أو واضحًا بقدر ما يتم استثماره”.
في النهاية، يشير قلق الرياضيات إلى ميل بعض الأشخاص إلى الشعور بالذعر عند مواجهة مسائل رياضية، وهو أمر حقيقي بالفعل. ومع ذلك، فإن دراسته أمر صعب للغاية وفقًا لعالم النفس التنموي دانيال أنصاري من جامعة ويسترن أونتاريو في كندا. فعندما يُظهِر طفل هذا القلق في المدرسة، لا يكون من الواضح ما إذا كان ذلك ناتجًا عن نفوره من الرموز الرياضية، أو عن صعوبة في استخدام اللغة للتعبير عن المفاهيم الرياضية، أو بسبب عوامل اجتماعية مثل الضغط الذي يمارسه أحد الوالدين.
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت