غزة تلهم شعراء العربية ببطولات المقاومة، ودماء الشهداء وإصرار الغزيين على النهوض من تحت الركام وعشقهم الحياة، “على أرض غزة ما يستحق الحياة”، ومن هنا احتوى ديوان “أناشيد النصر”، الصادر عن دار الخليج للنشر والتوزيع في عمان، قصائد مسكونة بتعاطف وعاطفة تجاه فلسطين والمقاومة بهدف إعادة الأمل ومساندة شعار الأهل “لن نرحل”.
وجاء في الإهداء:
“إلى من علّم الكون كيف تكون التضحية من أجل الأوطان.. إلى من بذلوا أرواحهم صونا لكرامة أمتهم وتراب وطنهم.. إلى الثكالى والآباء والأمهات الذين صبروا في وجه الاستكبار العالمي.. إلى عشاق الحرية في كل زمان ومكان.. إلى النصر الذي أبهر.. إلى الثّرى الطاهر في غزة الذي تضمّخ بعطر الشهادة والشهداء.. إلى كل مقدسات فلسطين التي تنتظر الفرج والحرية بعيون الشوق”.
الديوان الذي أعده وحرره وأشرف عليه وزير الثقافة الأسبق، الدكتور صلاح جرار والشاعر سعيد يعقوب، في 220 صفحة من القطع الكبير، تضمن 100 قصيدة من النمط العمودي لشعراء من 13 دولة عربية، هي العراق ولبنان وسلطنة عمان والجزائر ولبنان ومصر وفلسطين وسوريا والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، إضافة إلى الأردن، وفق بحور شعرية أبرزها البسيط والطويل والمتوافر والكامل الأكثر تأثيرا في الذائقة الشعرية بواقع 11 بيتا شعريا على الأقل.
وتمثل القصائد صرخة غضب وإدانة للصمت العربي والإسلامي على جرائم المحتل في غزة، وبلغة شعرية جزلة تخاطب العقل والوجدان وتبرز التصدي الأسطوري لأبطال المقاومة وتضحياتهم، وتستنسخ شخصية البطل الذي يمتلك إيمانا عميقا ويهاجم العدو الصهيوني من مسافة الصفر، كما يتضمن رثاء للشهيدين محمد الضيف ويحيى السنوار، باعتبارهما قدوة في التضحية والعطاء ومنارات نضالية للأجيال المقبلة.
فالشاعر جواد أبو هليل ” فلسطين” ومن قصيدته “سيد الطوفان” نقتطف بتصرف:
آن لنا أن نجعل السنوارا .. أيقونة النضال لا جيفارا
فما عرفنا منه مناضلا .. من النسيم يصنع الإعصارا
قالوا مغامر فقل لا يصنع .. التاريخ من لا يركب الأخطارا
ألا ترى أن كرم أمتي .. يبايعون الضيف والسنوارا
وقال وزير الثقافة الأسبق، الدكتور صلاح جرار، إن قصائد ديوان “أناشيد النصر” تطرح موضوعين أساسيين، هما الاحتفاء بانتصار المقاومة وثباتها واستشراف النصر والأمل، وهما حالة انفعالية عالية الدرجة، لكنها ذات رسالة عقلانية أيضا، لأنها لا تغفل عن انتقاد الواقع العربي والإسلامي والدعوة إلى إصلاحه.
وغالبية الشعراء المشاركين، هم من أصحاب المساهمات الفكرية العميقة والآراء السديدة من أقطار الوطن العربي المختلفة، وانفعالهم الشعري انفعال عاطفي وعقلاني “إنهم يرون الحقيقة أكثر ممّا يراها غيرهم لأنهم مسلحون بالمعرفة والوعي والعقل والحدس، ولذلك تجد في قصائدهم عمقا فكريا وصدقا عاطفيا وقدرة على تقييم الماضي ونقد الحاضر واستشراف المستقبل”.
شعراء يسكنهم الألم
وفي حديث خاص “للجزيرة نت” يرى جرار، أن جوهر الفن الشعري ومادته هي المشاعر وانطباع الشاعر إزاء أحداث أو وقائع أو أشخاص أو صور تمثّل موقفه ممّا يحيط به، وكلّما كان الحدث جللا كان الشعر أكثر إحساسا به وتعبيرا عنه. وأيّا كانت المشاعر التي تحملها القصيدة فإنها تعبر عن مواقف وأفكار وحالات ذهنية. فلا يمكن للشاعر أن يغضب أو يحزن أو يتألم لاستشهاد قائد من المقاومة إلا إذا كان مؤيدا لها، أو يبتهج لتدمير دبّابة صهيونية إلا إذا كان موقفه معارضا للاحتلال ومساندا للمقاومة.
وأضاف: أن المتأمل في قصائد “أناشيد النصر” وهو الرابع بعد “رباعيات جنين” و”طوفان الأقصى” و”سلام على الشهداء” يكتشف بسهولة، أن الشعراء مسكونون بالألم والوجع لأنهم أكثر الناس إحساسا بوجع أمتهم، فقصائدهم تخرج من أعماق الروح حيث موطن الوجع ومنبت المشاعر، لكنهم يتصدون بسلاح الأمل في المستقبل وإعلان الفرح في مقاومة الحزن والقلق وهذه هي اللياقة الروحية الحقيقية عندما يصنعون بشعرهم الحلم الذي يريدون تحقيقه لأنهم يدركون أن الحلم هو الطريق إلى الحقيقة “كل حقيقة بدأت حلما”.
وقال: “إن أهم وظائف الشعر العربي في حالات مواجهة الأخطار والتحديات هي الاستنهاض والتثوير والتجييش وإثارة الحماسة والمحافظة على الأمل دون تعارض أو تناقض مع التوعية والتنوير”.
وعن دور النهضويين، يرى أن النهضويين العرب شأنهم شأن المثقفين العرب، عموما سقطوا في امتحان المواجهة لأنهم كانوا ولا يزالون يفتقرون إلى إستراتيجية نهضوية واضحة “عقائدهم الفكرية هشة” وقد فوجئوا بحجم العدوان الصهيوني والإعداد المسبق له.
ففي الوقت الذي كان فيه الصهاينة يهيئون أنفسهم لتنفيذ مخططهم التوسعي والاستعماري، كان المثقف العربي منهمكا في تعزيز نزعاته القطرية والاستماتة في الدفاع عنها، بينما أمضى فريق آخر من دعاة النهضة الترويج للثقافة الغربية ممّا أدى إلى تصادم بين التيارات وتفكك الوطن العربي وتحامل كل تيار على الآخر والوقوف إلى جانب المستعمر والمحتل، وقد نبّه طوفان الأقصى أصحاب هذه التيارات من غفلتهم.
ومن قصيدته بعنوان “الفرحة الكبرى” نقتطف بتصرف:
أعدوا بيوت الحي للفرحة الكبرى .. فقد حقق الأبطال للأمة النصرا
وقد هزم الأحزاب شر هزيمة .. بملحمة الطوفان وانقلبوا نكرا
وهبت رياح النصر تعبق بالمنى .. وقد ذكرت حطين بل جددت بدرا
أما الشاعر سعيد يعقوب، فيرى أن قصائد ديوان “أناشيد النصر” تصور في مضامينها الصمود والتمسك بالأرض وتمجد الشهداء والبطولات وتتحدث عن العدوان الصارخ الذي يتعرض له الأهل في غزة الذي يرقى إلى جرائم الإبادة والتطهير العرقي بهدف تهجير سكان غزة وتصفية القضية الفلسطينية، كما تشكل موقفا قوميا للشعراء العرب في انحيازهم المطلق للشعب الفلسطيني ودعم صموده ونصرة قضيته العادلة.
ثورية.. وتبشير بالحق الفلسطيني
ووفق يعقوب، فإن الأهداف المبتغاة، هي خلق حالة ثورية لدى الشعراء العرب تنعكس على أشعارهم لبث الأمل بالنصر والتفاؤل بالتغيير والتبشير بالحق والعدل والسلام القائم على حصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ومن الرسائل المهمة، حسب يعقوب توحيد المشاعر القومية العربية لدى الشعراء من أجل التعبير عن موقفهم تجاه ما يجري، ويعكس بالضرورة موقف شعوبهم العربية في مناصرة الشعب الفلسطيني ودعمه، ويعبر عن المشاعر والعواطف التي تطلب الوحدة والكرامة والعدل للأمة العربية، إضافة إلى تقديم الشعر العربي الملتزم على جناح الإبداع والفن ونشر نصوص شعرية عالية الجودة تسهم في رقيّ الذائقة الأدبية والفنية وتوجيه الأجيال القادمة إلى نماذج رفيعة من الشعر العربي الرفيع.

الشعراء طليعة المتنورين.. وحملة المشاعل
وأكد الشاعر سعيد يعقوب في حديثه لـ”للجزيرة نت”، أن الشعراء هم طليعة المتنورين في مجتمعاتهم وقادة الرأي وحملة المشاعل، يتقدمون الصفوف في تشكيل الوعي الجمعي وبناء العقل الكلي للأمة، ولذلك نراهم في الديوان تحديدا والشعر المقاوم عموما ينشرون الأمل بالنصر والحماسة والتحرير وروح التفاؤل في أوقات اليأس والإحباط، ويفجرون طاقات المقاومة بالتعبير بالكلمة الشاعرة الهادفة الملتزمة من أجل عالم أفضل وغد أجمل تسوده العدالة ويغمره السلام دفاعا عن القيم الإنسانية النبيلة والمثل والمبادئ الأخلاقية الأصيلة، فهو منسجم مع مقولة درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
وعن دور المرأة الفلسطينية قال، إنها تحملت عبئا كبيرا وقامت بدورها في الحرب الظالمة على أهل غزة، وكانت موضع استهداف جنود الاحتلال قتلا وتشريدا، لأنهم يعلمون الدور الذي تؤديه، فهي أم وأخت وابنة المقاومين والمنجبة التي تلقّى المقاومون على يديها حب الوطن والتضحية من أجله والقيم والأخلاق والمثل السامية التي تدعوهم إلى التمسك بالأرض والدفاع عن العرض ورفض المهانة والذل.
ولذلك تناولت بعض القصائد المرأة الفلسطينية، أم الشهداء، بالتمجيد والإشادة والحديث عن مكانتها الرفيعة في المجتمع، وهي تؤدي دورها البطولي، وقد اتخذت لها قدوة نساء من التاريخ العربي والإسلامي، مثل الخنساء وصفية بنت عبد المطلب وخولة بنت الأزور وغيرهن من النساء اللواتي يشكلن علامة فارقة في التاريخ.
فالشاعرة وردة سعيد أردنية، تطرقت في قصيدتها “خنساء غزة” بتصرف إلى رثاء عدد من قادة المقاومة، كمحمد الضيف ويحيى السنوار باعتبارهما مثلا يحتذى في التضحية والبذل والعطاء ولتخليد ذكراهما ليبقيا منارات للأجيال القادمة.
هنا الجنة دنت والجنة أزلفت .. مسافة الصفر فوق الكاف والوصف
بها النجوم هواد للمسير ضحى .. من الجنين إلى السنوار والضيف
وأم “يامن” إذ فازت بأربعة .. فاز البيان بأسرار من الكشف
ما أوجع الشعر حيث السيف يطلبنا .. إذ ليس في الشعر ما يغني عن السيف
القصيدة المقاومة ليست ترفا
وأكد سعيد يعقوب، أن القصيدة المقاومة الملتزمة، تمثل وجهة نظر غير قابلة للتغيير ورأيا عقديا وموقفا ثوريا والتزاما أخلاقيا بالدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة ودعوة صريحة لرفض الظلم، ومحاربة القبح بأشكاله ولا سيما احتلال أراضي الغير، واستعباد الشعوب وهضم الحقوق ولذلك تكتسب القصيدة المقاومة أهميتها وقيمتها من هذا الدور الذي تؤديه.
ولعل قصائد الديوان التي اتخذت النمط العمودي، هي إشارة إلى التمسك بالجذور والعودة إلى التراث العربي الغني والثري والتأكيد على الأصالة والاحتفاظ بالموروث للحفاظ على أهم السمات الثقافية للهوية العربية، وهي القصيدة العربية الأصيلة ذات الشطرين في ظل المحاولات الرامية إلى العبث بهذه الهوية واستلابها، فكانت في أغلبها قصيدة تراثية الشكل، ولكنها حداثية المضمون حملت الصور الشعرية ولغة العصر واستفادت من المنجز النقدي الحديث.
ويرى، أن القصيدة المقاومة ليست ترفا فكريا ولا لعبة لغوية ولا استعراضا للعضلات اللغوية والبيانية، وإنما هي تعبير عن موقف وفكر ثابت مؤمن بهذه الأمة ومبادئها وقيمها وريادتها الحضارية وأصالتها الفكرية التي تحمل رسالة العدل والخير والحق للإنسانية.
ومن قصيدته “النصر الأعظم” نقتطف:
النصر ما غبطت به الأعداء .. وتكدرت من صفوة الجبناء
الخصم معترف بشر هزيمة .. فعلام ينكر نصرنا السفهاء
إن لم يكن هذا انتصارا ساحقا .. قولوا لنا ما النصر يا فصحاء

القصيدة وسيلة إعلام المثقف
الشاعر والناقد الأكاديمي اليمني، الدكتور إبراهيم محمد طلحة، وصف ديوان “أناشيد النصر” بأنه يمثل بادرة مسؤولة من بوادر الحراك الأدبي والثقافي ونموذجا منشودا من نماذج تراص البنيان بين أبناء الجسد الواحد، وقال إنه يضيف نصرا معنويا لما حققته المقاومة في غزة التي قدمت صورة ناصعة لمعاني العزة والكرامة، كادت أن تغيب عنّا بسبب ما تعرضت له الأمة من أشكال الغزو والاحتلال.
وقال “للجزيرة نت”، إن القصائد المنشورة لها الخصوصية النابعة من المواكبة القومية لأحداث أمتنا وسماتها الفنية والمعنوية، لذا جاءت على أوزان بحور الشعر العربي ذات الجرس القوي لتوصل صوت الشعوب العربية، إضافة إلى الألفاظ الجزلة التي استخدمها شعراء، معظمهم أساتذة كبار ومثقفون معروفون كما أنها “أي القصائد” مزدانة بالقيم الكبرى وتحمل المسؤولية بأوجاع الأمة وحب الوطن باعتباره ذاتا وهوية وأرضا وإنسانا في ترابط وجداني.
ويرى، أن القصيدة وسيلة إعلام المثقف “لسان حال المجتمع”، وهي سلاح بيد الشاعر ذي الرسالة الوطنية والقومية والإنسانية وقال: إن فن توجيه الخطاب الأدبي والثقافي في زمن العولمة أمر مهم للانتصار لقضايا الأمة العادلة.
وختم حديثه: لقد نجح الشعراء العرب في التعبير عن المعاني الجليلة بكلمات جميلة رغم أن بعض النقاد يزعم أن الشعر “المناسباتي” لا يكون جيدا غير أن تأثير الحدث في الوجدان العربي استدعى لغة عالية استطاع الشعراء بها أن يجمعوا بين الحقائق الخبرية والمجازات الشعرية.
ومن قصيدة للشاعر حيدر محمود بعنوان” نشيد غزة” نقتطف:
لك المجد يا أرض الشهادة وانفضي .. غبار الأسى عن هذه الأنفس التعبى
ويا غزّة الأحرار فجرك قادم .. قريبا فإنّ الله خصّك بالعقبى
وعلى صعيد متصل قالت الشاعرة، عائشة الحطاب، من الأردن، إن الكلمة سلاح الشاعر أينما وجد، ويشاهد مواقف على جميع الأصعدة، ورأت في حديثها “للجزيرة نت” أن الشاعر صاحب موقف رصين يمثل هويته الإنسانية لأنه مرتبط بنسيج مجتمعه وأمته ولا بد وأن يرفض القتل والتنكيل الذي يمارسه المحتل على شعبنا.
وحسب نظرها، فالشاعر خلق ليكون رسولا، يحمل رسالة أخلاقية مستمدة من هويته ومن هنا جاءت مشاركتها في “أناشيد النصر” بقصيدة عن غزة المكلومة والمنكوبة من العدو وانضمامها إلى كوكبة من الشعراء الذين يتسلحون بالكلمة في مواجهة الرصاصة.
ومن قصيدتها “شوكة الأرض” نقتطف:
النار تنفث في المدينة حقدها .. يا نار كوني للمدينة بردها
هي خيمة هي ثورة هي دولة .. هي قصة والشعر يحسن سردها