كييف- يشكل استخدام موسكو صاروخ “أوريشنيك” لضرب مدينة دنيبرو الأوكرانية، ليلة الأربعاء الماضي، علامة فارقة في حرب روسيا على أوكرانيا، ويبدو أن صاروخا غير مسار الحرب، وأعاد أجواءها الأولى والمخاوف التي رافقتها إلى كييف.
فبعد شهور طويلة من حياة آمنة نسبيا في كييف العاصمة -المحمية أكثر من غيرها بوسائل الدفاع الجوي المتقدمة- عادت صافرات الإنذار لتخلق الهلع، وخاصة في وسط المدينة المليء بمقرات الحكم الرئيسية.
ويسارع الناس في العاصمة الأوكرانية إلى التحقق من سبب الإنذارات، فإذا كان تهديدا باستخدام صواريخ باليستية، تراهم يغلقون المحلات، ويهرعون إلى الملاجئ ومحطات المترو القريبة، ليبدو وسط المدينة وكأنه يعيش أيام الحرب الأولى.
وعززت المخاوف تحذيرات أصدرتها عدة سفارات، أولها السفارة الأميركية، التي أغلقت أبوابها الأربعاء أيضا، متحدثة عن قصف روسي نوعي وشيك.
وزاد الطين بلة حديث بعض النواب لوسائل إعلام محلية عن أنهم أُبلغوا باستهداف وشيك لمقر البرلمان، ودعوتهم إلى تجنب “الحي الحكومي”، على مدار 48 ساعة.
وألغى البرلمان جلسة كانت مقررة يوم الجمعة، وقلت أعداد الموظفين فيه، وفي مقر مجلس الوزراء المجاور ومكتب الرئاسة القريب أيضا، وبدا الأمر وكأنه حتمي الحدوث.
ومرت الساعات ولم يحدث شيء، فحمل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشدة على النواب وغيرهم وحتى السفارات، داعيا إلى الاعتماد على معلومات الاستخبارات الأوكرانية حصرا، وتجنب الخوض في “دعاية تروج لها روسيا وتخدمها”.
استنفار رسمي
ومع ذلك، تأخذ أوكرانيا هذا التطور على محمل الجد، فهي تستنفر جميع قواها السياسية والعسكرية للتعامل معه. وكان الرئيس زيلينسكي قال إن “روسيا اعترفت باتخاذ الخطوة الثانية نحو تصعيد هذه الحرب في هذا العام، باستخدام صاروخ باليستي جديد، بعد أن أشركت وحدة من قوات كورية شمالية، قوامها يبلغ نحو 11 ألف جندي”.
من جهتها، فتحت الخارجية الأوكرانية قنوات اتصال مع “الشركاء” لإطلاعهم على تفاصيل هجوم “أوريشنيك”، وقالت وزارة الدفاع إنها تبحث مع الولايات المتحدة إمكانية الحصول على أسلحة قادرة على إسقاط الصواريخ العابرة للقارات، ومنها صواريخ مُحدثة من نظام “باتريوت”، أو نظام الدفاع الصاروخي “أيجيس”، بحسب وكالة “أوكر إنفورم” الرسمية.
كما دعت كييف إلى انعقاد جلسة طارئة لمجلس “أوكرانيا-الناتو” في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، لمناقشة عواقب القصف بـ”أوريشنيك” على منشأة للصناعات الدفاعية في دنيبرو، وقال الروس إنها كانت تضم صواريخ “ستورم شادو” البريطانية بعيدة المدى، التي بدأت أوكرانيا استخدامها -إلى جانب صواريخ “أتاكمز” الأميركية- في ضرب العمق الروسي.
تهويل وتهوين
وكشفت دائرة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، على لسان رئيسها، كيريلو بودانوف، أن “أوريشنيك” هو الاسم العملي لصاروخ تم تطويره كجزء من منظومة “كيدر” الباليستية الفرط صوتية متوسطة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية.
وقال إنه تم إعداد نسختين تجريبيتين منه خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، معتبرا أن “حقيقة استخدام الروس نسخة غير نووية منه تنذر بأنهم أصيبوا بالجنون التام”، على حد قوله.
ويرى خبراء أن استخدام روسيا “أوريشنيك” جاء على الأرجح رد فعل على استخدام أوكرانيا أسلحة غربية داخل أراضي روسيا، ورسالة قوية إليها وإلى داعميها، كما قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وتكمن خطورة هذه الخطوة، بحسب القوات الجوية الأوكرانية، بأن الدفاعات الجوية الموجودة لا تستطيع التعامل مع “أوريشنيك” وأمثاله، إلا بعد انفصاله إلى 6 أجزاء قبل الاقتراب من الهدف.
ومع ذلك، ثمة أصوات أوكرانية تهون من الحدث، وترى أن هذه الصواريخ لن تكون عملية دون رؤوس نووية، لأسباب عدة، سردها للجزيرة نت، بافلو لاكيتشوك، رئيس برامج الأمن في “مركز الدراسات الإستراتيجية العالمية”.
ويقول لاكيتشوك “احتاج الروس إلى تجربة مخيفة ناجحة بعد استهداف أراضيهم، وخشوا إمكانية أن تسقط أوكرانيا صاروخهم الباليستي الجديد بنظام الدفاع الجوي باتريوت، لذلك تعمدوا ضرب دنيبرو وليس كييف”.
وتابع “دنيبرو غير محمية على غرار العاصمة، وضربها كان كفيلا بالحديث عن نجاح أكيد، لأن باتريوت قد يستطيع إسقاط “أوريشنيك”، كما فعل سابقا مع صواريخ “إسكندر إم” و”كينجال”، التي قال الروس إنه لا يمكن اعتراضها”.
مكلفة ومحدود الأثر
ويرى الخبير العسكري، بافلو ناروجني، في حديث مع الجزيرة نت، أنه “من وجهة نظر عسكرية، فإن استخدام هذا النوع من الصواريخ باهظ الثمن، ولا معنى له دون شحنة نووية”.
وأوضح أن “روسيا تسقط حاليا مئات القنابل الجوية الموجهة على مدن سومي وخاركيف وزاباروجيا، وعلى مدن الخطوط الأمامية بشكل عام. هذا يحدث كل يوم تقريبا، وهي قنابل قوتها الإجمالية أكبر بكثير، وأثرها أوسع”.
وأضاف “أما إذا تحدثنا عن المواقع البعيدة، فكل هجمة صاروخية واسعة النطاق تتم بمشاركة نحو 100 صاروخ كروز أو صاروخ باليستي نموذجي يحمل ما يصل إلى 500 كيلوغرام من المتفجرات، تخترق نسبة 10% منها الدفاعات الجوية للأسف”.
ولخص الأمر قائلا “نحن نتحدث عن 5 أطنان متفجرات تطير بصورة متفرقة نحو هدف أو عدة أهداف، فما الذي سيغيره وجود 1.2 طن من المتفجرات في أوريشنيك أو غيره. إن إطلاقه كان استعراض قوة، بهدف زيادة الضغط النفسي فقط”.
ورغم أن روسيا، أطلقت منذ بداية العام أكثر من 10 آلاف صاروخ، وأكثر من 13 ألف طائرة مسيرة خلال هذه الفترة، منفقة بذلك نحو 17 مليار دولار، بحسب وسائل إعلام محلية وعالمية؛ فإن أوريشنيك يتصدر العناوين.
وبعد إطلاقه، رأى الجنرال فاليري زالوجني، رئيس الأركان الأوكراني السابق، وسفير أوكرانيا حاليا لدى بريطانيا، أن “الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل، ما كان متوقعا لفترة طويلة بات حقيقة”.
وفي ندوة بالعاصمة البريطانية لندن، حذر زالوجني من قدرة روسيا على استنفاد كامل قدرات الدفاع الجوي الغربي خلال 2-3 أشهر؛ معتبرا أن “أوروبا ليست مستعدة للحرب”، على حد قوله.