بعد أن توقّف العدوان الصهيوني على غزة عقب ما يربو على 467 يومًا من القصف اليومي المتواصل، أصبح حديث اليوم هو كيفية إعادة إعمار القطاع المهدم.
ففوق الخسائر البشرية الجسيمة وحرب الإبادة، كانت هناك خسائر مادية طالت المباني السكنية والمؤسسات الحكومية والبنى التحتية في مجالي الصحة والتعليم، حتى إن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) ذكر أن 436 ألف بناية قد دُمّرت أو تضرّرت من جراء القصف العشوائي الصهيوني، بما يشكّل، كما يقول المكتب، 92% من مباني القطاع، وليس هذا بمستغرب على حرب تحولت إلى مشروع إبادة جماعية، وكان أغلب ضحاياها من المدنيين، وأسفرت عن استشهاد نحو 47 ألفًا منهم، وإصابة 110 آلاف، إضافة إلى آلاف المفقودين، وذلك من جملة سكان القطاع البالغ 2.1 مليون نسمة وفق جهاز الإحصاء الفلسطيني.
بطبيعة الحال، تتركنا تلك الأرقام في حالة ذهول، ثم يصيبنا ذهول مضاعف من المشاهد التي ترصد الحال على الأرض عبر المحطات التلفزيونية، إذ مُسحت أحياء كاملة من الخريطة العمرانية، وسُوِّيت بالأرض مخيمات ومدن، واقتلعت الحياة الزراعية بشكل شبه كامل، ودُمرت الثروة الحيوانية، ناهيك عن كافة الخدمات المتعلقة بالمياه والاتصالات والمشافي والمدارس والمصايد والصرف الصحي والأندية والأسواق والمتاجر ووكالات الإعلام ومخافر الشرطة والمعابر… إلخ.
إزاء هذا كله، نحن أمام عدد من التحديات الكبيرة:
1- تحدٍّ نفسي
واحد من أهم التحديات التي تقف في وجه إعادة الإعمار، هو العامل النفسي المرتبط بالخشية من عودة مسلسل الإبادة الصهيوني مرة أخرى، وهو أمر وقتي على أي حال، بمعنى أنه مع مرور الوقت وتثبيت وقف إطلاق النار، سيكون على الأرجح هذا الحاجز النفسي قد رفع. لكن الأمر ليس هينًا، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه ذكر في خطاب توليه مهام منصبه أنه لا يستطيع ضمان سير اتفاق وقف إطلاق النار.
2- كمّ أنقاض مذهل
الركام أو الأنقاض هي أبرز مصاعب إعادة الإعمار، فهناك كمّ هائل يقدر بملايين الأطنان من الكتل الإسمنتية والحديدية والخشبية، يحتاج إلى إزالة. وهو ما يحتاج إلى آلات كثيرة ومتطورة.
وسيمثل هذا الركام مشكلة عند تحديد الأماكن التي سينقل إليها، لأنها ستكون خصمًا من الرقعة الأرضية المحدودة أصلًا في القطاع. البعض يرى إمكانية استخدام 20-40% من الركام في تصنيع خرسانة جديدة أو حجارة للبناء، لكن من غير المؤكد أن تنجح تلك الطريقة بسبب ضعف الإمكانات.
خلال عملية رفع الأنقاض ستكون هناك أيضًا أضرار الأتربة على صحة الإنسان، وهو أمر قد يفضي لأمراض رئوية وتنفسية، ما يتطلب توخي أقصى درجات الحذر.
3- الممولون وتكلفة التمويل
التمويل مشكلة أخرى، والمنتظر أن تشارك فيه جهات متعددة، عربية أو آسيوية أو أوروبية، وكذلك منظمات دولية وإقليمية. وسيكون لبعض الدول دور محوري في تلك القضية، وبالأخص قطر وتركيا ومصر. ولربما تشارك الولايات المتحدة الأميركية في إعادة الإعمار، لكن مشاركتها سترتبط إلى حدٍّ كبير بإرضاء إسرائيل، وبالاتفاق على وضع قطاع غزة من الناحية السياسية والإدارية قبل المشاركة في الإعمار.
يتصل بذلك حجم تكلفة إعادة الإعمار المقدر وفقًا للأمم المتحدة بـ 80 مليار دولار، ومدى زمني يصل إلى عام 2040. هنا نذكر أن وقف إسرائيل نشاط وكالة الأونروا يُعد قيدًا إضافيًا لإعادة الإعمار.
4- استقدام طواقم فنية
يرتبط بما سبق استقدام طواقم بشرية من الفنيين والمتخصصين؛ بغرض استكشاف الحاجات المادية، وكذلك البقاء مدة أطول لإعانة أهل القطاع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. هنا سيكون من الضروري إرسال طواقم طبية لإجراء عمليات جراحية، وعلاج المصابين، والعمل على نقل الحالات الحرجة للعلاج في المستشفيات خارج القطاع. كما سيكون من الملائم استقدام فنيين في مجال شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والمعابر والصرف الصحي لإعادة إصلاح المهدم.
عمل الطواقم الفنية سيتطلب الكثير من المواد المساعدة التي تعينهم على أداء مهامهم، فسيارات الإسعاف وأسِرّة علاج المرضى وتجهيز غرف العمليات وغرف العناية المركزة والأدوية والمستلزمات الطبية، كلها من اللوازم الضرورية لعمل الطواقم الفنية الطبية التي سيُطلب منها علاج الجرحى.
بموازاة ذلك ستكون مجسات التربة والأوناش واللوادر وغيرها من آلات الحفر والرفع – وقد بدأ بعضها في الوصول إلى القطاع عبر مصر- محورية في عمل الطواقم الفنية المختلفة.
5- أولويات إعادة الإعمار
ولأن الأبنية والمؤسسات قد تَهدّمت، فإن إعادة الإعمار، لا بدَّ أن تقوم على تخطيط عمراني متكامل يضمن إعادة بناء المؤسسات المجتمعية والإدارية، كالمستشفيات والمدارس بحيث تتوزع بما يناسب احتياجات كل حي.
وسيتوقف النجاح في ذلك على حجم التمويل الذي سيتم جمعه، وسرعة وروده، وكذلك رغبة المانحين الذين قد يُفضل بعضهم إعادة بناء كيان خدمي كامل على مستوى القطاع ككل، أو جزء منه، كالمشافي مثلًا.
6- صيانة القطاع الزراعي
على عكس ما قد يتخيل البعض، فإعادة إعمار القطاع الزراعي لا تقل صعوبة عن إعادة إعمار المباني والمنشآت، وذلك لما قد يتعرض له هذا القطاع تحديدًا من الجور خلال عمليات البناء، وما تحتاج إليه من نقل كميات ضخمة من الركام التي قد تخصم من الأرض الزراعية وتساهم في بوارها.
لذلك، من المهم، أملًا في الاكتفاء الذاتي من المحاصيل وعودة الصادرات الزراعية لمحصول الزيتون، ألا يجور التخطيط العمراني على الأرض الزراعية، التي تواجه بالفعل خطر الملوثات التي تعرضت لها خلال التفجيرات الصهيونية.
7- شبكة الأنفاق
ورغم أن المقصود من إعادة الإعمار هو البنايات فوق الأرض، إلا أن حركة حماس ستضع في حسبانها إبان التخطيط للبناء، صيانة الأنفاق الأرضية، وتوسيع الشبكة تحت الأرض لتكون بمثابة هيكل دفاعي حال تكرار الغزو من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، لا سيما أنه قد ثبتت حيوية تلك الأنفاق في الدفاع عن القطاع وتكبيد العدو أثمانًا كبيرة. وعلى أية حال، فإن أمر الأنفاق هو شأن أمني لم ولن يُعلن عنه على الإطلاق خلال إعادة الإعمار.
هل ستكون إسرائيل عائقًا؟
ربما تكون إسرائيل عائقًا أمام إعادة الإعمار من زاويتين:
- الأولى، ما تخلف من الدانات والذخائر التي ألقتها على غزة ولم تنفجر، والألغام التي ربما تكون قد تعمدت تركها لتُهلك النسل والحرث. هنا من الضروري توخي الحذر، واستقدام أدوات للكشف عن تلك القنابل الموقوتة، حتى لا تتسبب في المزيد من النكبات.
- الثانية، الأرجح أن تخضع إسرائيل عملية البناء لرقابتها، فتتحكم في كمّ ونوع أدوات البناء. وذلك نظرًا لقلقها من أن تستولي حماس على تلك المواد وتستخدمها لإعادة بناء بنيتها العسكرية والسياسية والأمنية.
خاتمة:
هكذا، ستكون هناك تحديات لإعادة الإعمار، لكن أكثر ما يفضي إلى إنجاز تلك المهمة الكبيرة، هو الأمل في الحياة، مع زجر إسرائيل حتى لا تعيق هذا العمل الشاق والطويل، وكذلك توفير المال الذي يحتاج عقد مؤتمر دولي عاجل أو أكثر للاكتتاب لإعادة الإعمار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.