لعلنا ندرك أن المنظومة البيئية الحيوية ترتكز على روابط أساسية لضمان استقرارها وديمومتها، مثل تبادل المواد الغذائية وانتقال البذور وعمليات التلقيح، وهو النهج التقليدي الذي يسلكه العلماء لدراسة التكامل والتكافل بين الكائنات الحية.
غير أن ما كشفت عنه دراسة جديدة يظهر أن ثمّة ضوابط أخرى أعمق من ذلك وهو تواصل الكائنات الحية مع بعضها البعض، وكيف يسهم هذا التواصل في رسم ملامح العلاقات البيئية وتعقيداتها.
وتستحدث الدراسة الحديثة المنشورة في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن” مصطلحا جديدا يُعنى بطبيعة هذا الأمر، “إنترنت الطبيعة” أو “شبكة الطبيعة”، وهو مصطلح لا يقتصر على رصد تدفق المادة والطاقة بين الأنواع الحية فحسب، بل يسلط الضوء أيضا على تبادل المعلومات الحيوية التي تؤثر في سلوك الكائنات وتفاعلاتها وديناميكيات النظام البيئي ككل.
ويُشبّه الدكتور أولريش بروزي من “المركز الألماني للبحث في التنوع البيولوجي” إغفال دور تبادل المعلومات بين الكائنات الحية في النظم البيئية بمحاولة فهم الاقتصاد البشري من دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير الإنترنت، موضحا أن المعلومات التي تتبادلها الكائنات من خلال الإشارات الحسية والبيئية تُعد عنصرا محوريا في تنظيم سلوكها وتفاعلاتها، تماما كما يُعد الإنترنت جزءا أساسيا لا يمكن تجاهله لفهم آليات الاقتصاد الحديث.
فالتواصل بين الأنواع الحية يمثل بُنية خفية، لكنها أساسية، لفهم كيفية انتشار الاضطرابات في النظام البيئي، وكيفية مقاومة المجتمعات الحيوية لها أو تعافيها منها. ومن هذا المنطلق، يجمع هذا النموذج الجديد بين تدفق المعلومات والمفاهيم التقليدية مثل شبكات الغذاء، ليقدم تصورا أكثر شمولا للنظم البيئية.
3 طبقات من تدفق المعلومات
وقد صنف الباحثون في دراستهم تدفق المعلومات داخل النظم البيئية إلى 3 طبقات/أنماط رئيسة، لكل منها دور محدد في صياغة تفاعلات الكائنات الحية:
- روابط المعلومات الغذائية: وهي الإشارات المتبادلة بين المفترسات وفرائسها، فعلى سبيل المثال، تعتمد الذئاب على المسارات والملاحظات البصرية لتتبع الأيائل، بينما تستجيب الأيائل بوسائل دفاعية، مثل التكتل في مجموعات أو التواري في الغطاء النباتي الكثيف.
- روابط المعلومات النقية: وتشير إلى التفاعلات التي لا ترتبط مباشرة بالغذاء، مثال على ذلك حين يلاحظ الضبع طائرا جارحا يحلق في دائرة، فيفسر سلوكه على أنه مؤشر لوجود جثة قريبة. هذا النوع من التواصل يعكس البعد المعلوماتي الذي يؤثر على قرارات الكائنات وتحركاتها.
- روابط المعلومات البيئية: وتسمح هذه الروابط للكائنات بتعديل سلوكها استجابة لإشارات من محيطها، مثل تغيّر درجات الحرارة أو الضوء. من أمثلتها استجابة الفراشة للضوء في الليل، أو تفضيل العناكب بناء شباكها بالقرب من مصادر الإضاءة الاصطناعية.
لا تعمل هذه الطبقات الثلاث بمعزل عن بعضها، بل تشكل شبكة متداخلة ومعقدة من المعلومات، تسهم في توجيه السلوك الفردي والجماعي للكائنات، وتُعزز من فهم العلماء للترابطات الدقيقة التي تقوم عليها النظم البيئية.
تأثير الأنشطة البشرية على التواصل البيئي
مع تنامي تأثير الأنشطة البشرية على النظم البيئية، تتناول الدراسة أبعادا جديدة لتأثير الإنسان على الطبيعة، مركّزة على ما يُعرف بـ”التلوث الحسي” الناتج عن الضوء الصناعي والضوضاء والروائح. فهذه الملوثات لا تقتصر على تغيير البيئات المادية، بل تمتد لتشويه “هيئة المعلومات” التي تعتمد عليها الكائنات الحية في تواصلها وتفاعلها داخل النظام البيئي.
وتوضح الدكتورة مريم هيرت، المؤلفة المشاركة في الدراسة، أن الضجيج الناتج عن حركة المرور أو الصناعات يؤثر سلبا على قدرة الأنواع على تبادل الإشارات الطبيعية. فعلى سبيل المثال، يعتمد النمل على اهتزازات دقيقة للتنسيق في مهامه اليومية، ويؤدي اختلال هذه الإشارات إلى تعطيل أنشطته الحيوية مثل البحث عن الطعام والتكاثر والتفاعلات الاجتماعية.
ويُظهر هذا أن التلوث الحسي ليس مجرد مفهوم نظري، بل له تداعيات مباشرة على بقاء الأنواع الحية واستقرار الأنظمة البيئية. إذ إن تشويش قنوات التواصل يمكن أن يؤدي إلى ارتباك، وسوء فهم بين الكائنات، وقد يصل في بعض الحالات إلى انهيار العمليات البيئية الجوهرية.
كما تؤكد هيرت أن “التلوث الحسي قادر على تعطيل التواصل الاهتزازي والفيرموني الضروري لتكاثر الحشرات وتغذيتها وتماسكها الاجتماعي”. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تبنّي رؤية بيئية شاملة تتجاوز مجرد الحفاظ على المواطن الطبيعية، لتشمل صون شبكات المعلومات الدقيقة التي تحافظ على توازن النظم البيئية.
مستقبل البحث البيئي.. محاولة لإنقاذ الكوكب
تدعو الدراسة إلى إعادة توجيه الجهود البحثية نحو استكشاف شبكات تدفق المعلومات داخل النظم البيئية، لما لذلك من أثر كبير على تطوير النظرية البيئية وأساليب الحماية التطبيقية. ويحث الباحثون على تعميق الفهم لطبيعة التبادلات المعلوماتية، عبر تتبع مصادر الإشارات ومتلقيها، وتحليل القدرات الحسية للكائنات، وتحديد مدى تدهور هذه الإشارات بفعل الزمن أو التأثيرات البشرية.
وفي هذا السياق، يوضح الدكتور بروزي أن إدراج مفهوم “إنترنت الطبيعة” سيحدث نقلة نوعية في فهم العلاقات بين الكائنات، إذ ينقلنا من تصور تقليدي للكائنات الحية كمجرد جزيئات منفعلة تتحرك ضمن قوانين فيزيائية أو كيميائية، إلى رؤية ديناميكية تعتبر الكائنات منتجة ومستقبِلة للمعلومات. ويضيف: “سيسهم هذا التحول في تعديل الأساليب التي نعتمدها في حماية التنوع البيولوجي، في وقت يتسم باضطرابات بيئية متزايدة”.
ومع اتضاح أن النظم البيئية تقوم على شبكات تواصل معقدة، لم يعد من الممكن حصر جهود الحماية في صون المواطن والأنواع فقط، بل ينبغي أن تمتد هذه الجهود إلى حماية “بُنى المعلومات” التي تشكل العمود الفقري للتفاعلات البيئية. ويشمل ذلك إدارة مصادر الضوضاء، والتقليل من التلوث الضوئي، ومواجهة مختلف أشكال التلوث الحسي التي تهدد هذه الشبكات الحساسة.