تشجيع الأسرى الفلسطينيين على رواية قصصهم وسيلةٌ مهمّةٌ للكفاح ضد الظلم، ومقاومة استخدام القوّة الغاشمة في قهر الإنسان، وهذه الروايات يمكن أن تزيد وعي الأمّة العربية بطبيعة العدوّ، وتزيد قدرتها على مواجهته.
والنموذج الذي أقدمه اليوم هو قصة الأسيرة الفلسطينية عائشة عودة، حيث شعرتُ بألم يمزق صدري، وأنا أقرأ أهوال ما تعرضت له من تعذيب؛ فما بالك بشعور فتاة عاشت تلك الأهوال؟.
شعرتُ بعد قراءة روايتها أيضًا بالامتنان لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي كان أوّل مطالبها بعد معركة “طوفان الأقصى” هو تحرير الأسيرات والأطفال أولًا، لما يبرهن عليه ذلك من نبل أخلاقي، ولمست في المقابل زيف الشّعارات الغربية في حماية المرأة، إذ يتكتّم الغرب أو يقبل ممارسات جيش يزعم أنه ممثل الحضارة الغربية، وأنه لا يقهر، ولكنه يستخدم قوته الغاشمة ليعرّض فتاة عزلاء لكل أنواع الألم.
أما المحقق الإسرائيلي -الذي كان يقوم بتعذيبها- فوصفته بأنه الغول في قصص الطفولة المخيفة. وعندما صرخت من الألم، ألهبت صرختها حماسه فانهال ضربًا بكرباجه على مختلف أنحاء جسدها كمجنون، فلم يتركها إلا كومةً من رماد وجسدًا مسجى بلا حراك
وطن تحت الحصار
كانت (عائشة عودة) تتمنّى ألا ترى أمها تبكي أبدًا.. لكن اعتقالها كان سببًا في فجيعة الأم التي حاولت الدفاع عن ابنتها دون جدوى عندما جاء الجنود إلى البيت!
قبل ذلك المشهد بقليل كانت قد حسمت أمرها، فودعت كل أحلام الشباب في السفر والتجوال، واستبدلتها بأحلام البقاء في الوطن والمواجهة مع العدوّ حد الالتحام وخوض المجهول رغم الصعاب.
وبعد ذلك المشهد بقليل كانت – في السيارة الإسرائيلية التي حملتها إلى السجن – يمورُ ذهنها بذكريات الوطن وذكريات أسرتها التي واجهت مذبحة دير ياسين، فقالت لنفسها: اصمدي يا عائشة.. كوني نموذجًا للصمود، فليس الرجال أكثر صمودًا من النساء.. سأصمد وأواجه كل الاحتمالات، فالاحتلال هو الشر المطلق، وما دون ذلك فهو شر جزئيّ!
الكف ينتصر على المخرز
واجهت غرور جنود الاحتلال طوال الطريق، ثم حين وصلت مركز التحقيق لم ينجح الصفع والركل والبصق والكلمات البذيئة في أن يجعلها ذلك تنطق بكلمة، فقد شحنت إرادتها للمواجهة.
سألها المحقق: هل يستطيع الكف مواجهة المخرز؟! فردت: نعم يستطيع، وقالت لنفسها: “ها أنا الكف الذي يواجه المخرز في التحقيق، وفي مواجهة المسؤول الإسرائيلي والجنود الذين يحيطون به.. وحدي أنا بينهم، وأنا ندّ لهم.. إحساس ملأني بمسؤولية حملي لقضية شعبي.. نعم أنا الآن وحدي تعرضت للضرب ولكل الإهانات.. أقدام كثيرة بدأت تركلني.. لكنني كنت أشحن إرادة الصمود والتحدي مع كل ركلة أو صفعة مكررة في نفسي: هذا ثمن المواجهة”.
تضيف: “الإحساس بالتفوق عليهم ضخّم إحساسي بذاتي؛ فتوحدت تمامًا بقضية شعبي”.
انتظار فرج الله
استمر الضرب بقصد إلحاق أكبر قدر من الألم، واستخدم الجنود ألوانًا من التعذيب لا تعرفها البشرية.. وكانت كما قالت مثل محاصر بفيضانات عاتية، ليس لديه إلا انتظار فرج الله.
أما المحقق الإسرائيلي- الذي يقوم بتعذيبها- فوصفته بأنه الغول في قصص الطفولة المخيفة. وعندما صرخت من الألم، ألهبت صرختها حماسه فانهال ضربًا بكرباجه على مختلف أنحاء جسدها كمجنون، فلم يتركها إلا كومةً من رماد وجسدًا مسجى بلا حراك.
تقول عن تلك اللحظة: تركز تفكيري في الألم الذي كان يشتعل في جسدي كما تشتعل النار في الهشيم. الإحساس بالزمن غائب ولا حضور إلا للألم. هددها المحقق بأن يجعلها عمياء أو مشلولة أو مجنونة، فهزها الخوف، وثار في ذهنها سؤال: ماذا سيحدث لأمي لو أصبحتُ كذلك؟!
عندها تذكرت بطلة المقاومة الجزائرية جميلة بوحيرد، فقالت لنفسها: لقد عذبت جميلة لكنها لم تجن. فلماذا أجن أنا؟! اصمدي يا عائشة.. هي قضية عضّ أصابع.. ونحن على استعداد لدفع الثمن؛ لأن الاحتلال هو الشر المطلق.
تقول عائشة: كنت في دُوامة الصراع، وأصوات التعذيب من الغرفة المجاورة تأكل أعصابي كمنشار يقرض جذع شجرة.. إنه الحصار والقهر دون مفر.. إنه الجحيم بعينه.
عندما هددوها بإحضار أمها وزوجة أخيها وتعذيبهما وقف شعر رأسها هولًا. قالت لنفسها: يا للكارثة لو أحضروهما وعذبوهما، لن أستطيع تحمل ذلك.. قد أجن بلا ضرب.. يا إلهي أي نوعية من البشر هؤلاء؟ أي قسوة تختزنها عقولهم وقلوبهم؟
لحظتها قررت الاعتراف، وقالت لهم: “ألستم محتلين؛ فهل تتوقعون أن نرميكم بالورود بدلًا من القنابل.. نعم، أنا وضعت القنبلة.. إنه أقل شيء أستطيع عمله من أجل وطني وشعبي”.
الإحساس بالذنب وخيبة الأمل!
لكن الاحتلال لا يكفيه أن يعترف شخص بما فعله بنفسه.. إنه يريد كل أسرار المقاومة، لذلك تواصل التعذيب والتهديد، حتى اضطرت للاعتراف بمكان مخزن الأسلحة، وأصابها هذا الاعتراف بإحساس حادّ بالمرارة والهزيمة.
انفجر في داخلها سؤال: ما الذي فعلته؟! أردت التحدي؛ فاعترفت على مخزن الأسلحة، وسيؤدي هذا الاعتراف إلى نسف البيت، وقبل ذلك اعترفت عن عملية سأحكم عليها بالمؤبد.
وهنا بكت كما لو أنها لن تنتهي من البكاء.. الدمع كنبع تتدفق منه الأنهار.. كأنها تغتسل في بحر من الدموع.
قال لها المحقق بغطرسة: عليك أن تفكري بعبثية أعمالكم.. فماذا تستطيع أن تفعل قنبلتك في دولة إسرائيل القوية التي هزمت كل الجيوش العربية في ستة أيام؟!
ردت: صحيح أن قنبلتي وحدها لن تستطيع أن تفعل شيئًا في دولتكم القوية.. ولكن هل تستطيع دولتكم أن تتحمل قنبلة من كل واحد في شعبنا؟!
وقالت لنفسها: يعني أن معادلتي الجديدة قنبلة من كل فلسطيني لمواجهة الدولة القوية المتعجرفة.
أما أنا فقد أثارت الفكرة خيالي، وأعتقد أن كل أسير في السجون الإسرائيلية يمكن أن ينتج فكرة جديدة تسهم في تطوير الكفاح، وهذه الدولة المغرورة بقوتها وبالدعم الأميركي لن تستطيع أن تواجه شعبًا يفكر ويقاوم ويبدع ويبتكر.
الشجرة تنبت فروعًا جديدة!
في زنزانة العزل، رسمت عائشة شجرة قُطعت فروعها؛ فأنبتت فروعًا جديدة، وكتبت تحتها: “ستُنبت فروعًا يانعة ما دامت جذورها حية وعميقة في الأرض”.
وكتبت أيضًا أبياتًا لمحمود درويش:
“سدوا عليّ النور في زنزانة.. فتوهجت في القلب شمس مشاعلي.
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي.. فنما على الجدران مرج سنابل”.
توضح تجربة عائشة أن التعذيب في إسرائيل ليس مجرد وسيلة لانتزاع الاعترافات والمعلومات، ولكنه يتم بروح الانتقام، ويحقق لضباط الاحتلال متعة سادية وهم يشاهدون الأسير يتعرض للألم. لذلك سألت عائشة المحقق: “يبدو أن تعذيب الناس هواية تسعدك؟!”
لقد اعترفت، وأعطتهم كل المعلومات، وقادتهم إلى مخزن الأسلحة، ونسفوا بيتها وشردوا أهلها، لكن التعذيب استمر بأساليب جنونية، كما تهجم الوحوش على فريسة، فلا تعنيها صرخاتها وأوجاعها.
سحق الكرامة
وتقول عائشة: “إنه تم استخدام أساليب تعذيب هدفها سحق الكرامة؛ فالهزائم العربية كانت حاضرة وبقوة، رأيتها تتكثف في ذاك الوضع وتلك اللحظات؛ فتجسد في روحي رفض الهزائم العربية بإرادة مقاومة مطلقة: فإذا لم يقاوم العرب هذا الظلم؛ فإني أدشنها في هذه اللحظة بكل إرادة الكون في مواجهة الظلم، وإني أرفض الانهزام.
صرخت وكنت كذبيح ترفرف فيه إرادة الحياة قبل أن تغادره عَنوة.. غادرت روحي الجسد والمكان والزمان.. هربت روحي وانتقلت إلى العالم الآخر.. متّ، ثم فرحت بعودتي للحياة، وهتفت روحي: انتصرت إرادتي.. إنني أُولد من جديد.
أية مفارقة: إنني فرحة وهم خائفون.. هتفت في أعماقي: لقد انتصرت وقد هزموا.. نعم كانوا خائفين.. إنهم يخافون أن أغدو شهيدة”.
مع ذلك استمر التعذيب وهددوها باستخدام الكهرباء؛ فتذكرت جميلة بوحيرد التي مرت بتجربة الكهرباء، وفكرت: لست أقل منها فلأجربها، وقالت للمحقق: “إذا أرادوا موتي؛ فليأتوا بسرعة لاستخدام الكهرباء؛ فأنا راغبة في الموت.. أريد أن أموت”.
لكن بعد أيام سمعت أخبار عمليات فدائية جديدة فقالت لنفسها: ها هو شعبنا ينهض بنسائه ورجاله كمارد جبّار، وسيندم الاحتلال ويرحل.. لن يطول ليلنا وستشرق شمس حريتنا؛ ونساء فلسطين ورود حرية تتفتح وتنهض في رام الله والقدس وغزة ونابلس”.