عندما لوّحَ الرئيس الأرجنتيني المنتخب حديثًا، خافيير ميلي، خلال حملتهِ الانتخابية في أغسطس الماضي، بعدم تفعيل انضمام بلاده إلى مجموعة البريكس في 1 يناير/ كانون الثاني 2024، اعتبرَ الرأي العام وقتها، أنّ ذلك الوعد يدخل في إطار قائمة الوعود الشعبوية الكثيرة التي أعلنها المرشح.
لكن مجموعة البريكس أعلنت منذ أيام، عن خروج الأرجنتين فعلًا، بقرار من رئيسها. وإن كانت دعوة المجموعة في أغسطس الماضي للأرجنتين للانضمام، قد تمّت بطلب من الرئيس السابق ألبرتو فرنانديز، فإن دخول الانضمام حيّز التنفيذ، كان مُقيّدًا بموعد بداية هذه السنة، وهو ما أتاح للرئيس الحالي ميلي، اتخاذ القول الفصل في القرار، ومات الانضمام قبل أن يُولد!
مخاض سياسي
تعود تفاصيل التحاق الأرجنتين بالتكتل الاقتصادي المعروف بالبريكس- والذي يضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا- إلى أغسطس/ آب الماضي، في قمة جوهانسبرغ، عندما تقدّمت 23 دولة بملفاتها للانضمام، لكن التكتل أصدر ستّ دعوات فقط لإيران، ومصر، والإمارات، والسعودية، وإثيوبيا، والأرجنتين، التي قُبلت بتزكية من الرئيس البرازيلي.
وقد جاءت دعوة الأرجنتين في ذلك الوقت، مُثقلة بالتفاصيل السياسية، حيث أرجأت إدارة التكتّل دعوة فنزويلا وبوليفيا، من بين الدول اللاتينية- اللتين كانتا حريصتين جدًا على الانضمام- وعجّلت بضمّ الأرجنتين، التي كانت تمرّ بمخاض سياسي يطرح احتمال رحيل حكومة فرنانديز اليسارية، وقدوم اليميني المتطرف ميلي.
وقد جرت الرياح بما لم تشتهِ سفن المجموعة، وفاز ميلي بالرئاسة، وأبطل انضمام بلاده بشكل رسمي، بإرسال خطاب للرئيس الروسي بوتين، الذي يتولى الرئاسة الدورية للمجموعة. ورغم أن الرئيس الروسي، أعرب عن أسفه للقرار، فإن الأمر كان متوقعًا؛ نظرًا لأن الرئيس ميلي المنتخب- حديثًا- صرَّح ولا يزال يفخر بأنّ أهم شريكين لحكومته هما الولايات المتحدة، وإسرائيل.
قرارات صادمة
وقد كانت لهجته قبل تولي الرئاسة عنيفة وفجّة، حيث كان يلعن مجموعة البريكس، وينعت أعضاءها بالاشتراكيين البؤساء، لولا تدخّل وزيرة خارجيته بعد تأكد فوزه، من خلال زيارتها إلى الصين، ثم البرازيل؛ في محاولة منها لمعالجة الموقف.
في الحقيقة، لم يكن قرار رفض الانضمام إلى مجموعة البريكس أكثر القرارات دويًّا في الساحة السياسية في الأرجنتين، بل أنه يعتبر الأخفّ وسط قرارات صادمة، اتخذها الرئيس ميلي، في غضون 20 يومًا فقط في الحكم، اضطرت النقابات وأنصارها إلى التظاهر بقوة في مناسبتين؛ تنديدًا باندفاع الرئيس وقراراته التي تُنذر بولادة دكتاتور يستعجل تنفيذ خططه.
وقد طال الاستياء من أداء الرئيس بعض الشخصيات العامة، التي كانت أبواقًا له خلال حملته الانتخابية، من أبرزهم الإعلامي “أليخاندرو فانتينو”، الذي قال بعد أسبوع واحد من أداء الرئيس ميلي: “لا، لا.. صديقي، ما هكذا تبدأ مدتك الرئاسية، لايمكن أن تأتي على القطاع العام في أسبوعك الأول بهذه الوحشية، هذا مؤلم!! تصف نفسك بالأسد وتقول؛ إن حزبك “الحرية تتقدم”، وأنا أنتقدك وسأواصل نقدك، أنت لست أسدًا، ولست حرًّا!”.
دكتاتورية وليدة
وقبل عرض قرارات الرئيس ميلي المُدوّية- حسب وصف الإعلام الدولي- استعادت المعارضة، بتهكّم، مقطعًا من المناظرة التي سبقت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سُئلت فيها المرشحة اليمينية باتريسيا بولريتش عمّا ستفعل في حال رفض البرلمان تمرير برنامجها، فقالت: إنها ستعتمد أسلوب المراسيم الرئاسية، وإذا استمر رفض البرلمان، فإنها ستطرح استفتاء، إلى أن ينتهي بها المطاف لتنفيذ برنامجها بأي أسلوب، فتدخّل ميلي وقتها، وقال لها: “إذن ستكونين على رأس نظام ملكي، ولن تحكمي في ظل نظام ديمقراطي يحترم الفصل بين السلطات، هذه دكتاتورية!”.
أما وقد فاز ميلي بالرئاسة، بفضل دعم أنصار بولريتش له في الجولة الثانية، ها نحن اليوم أمام رئيس قام بتعيين “حليفة الضرورة” وزيرة داخلية في حكومته، واحتلّ هو منصب الرئيس الذي سيحكم من خلال المراسيم، ويلوّح بتنظيم استفتاء قريبًا!
ولعلّ من بين أكثر تعليقات المحللين واقعية؛ قول المحلّل في قناة دي دبليو الألمانية، د. إيزكيال بيستوليتّي: إن دكتاتور البيرو فوجيموري احتاج خمس سنوات لتنفيذ ما أعلن عنه ميلي في غضون 20 يومًا فقط من توليه الرئاسة! وأشار في السياق نفسه إلى أن الرئيس ميلي لم ينجح في إخفاء الشعور بالغبطة بدور الدكتاتور الجديد، الذي عزّزه بارتدائه البذلة العسكرية في فعالية لم تكن تحتاج ذلك.
يمكن تصنيف قرارات الرئيس ميلي في خانتَين: إحداهما عاجلة، ويمكنه تنفيذها، والثانية يرتبط تنفيذها بموافقة البرلمان، ثم مجلس الشيوخ، اللذَين تملك فيهما المعارضة الكتلة الكبرى، لكنها لا ترقى إلى الأغلبية.
تتمثّل الأولى في توقيع مرسوم يمنحه حق تغيير أو حذف 360 قانونًا، دون نقاش، من أهمها: إيقاف عقود 7000 موظف بالقطاع العام، من بينهم 5000 تمّ إيقافهم رسميًا مع نهاية السنة. إضافة إلى تقليص دور الدولة في الأشغال العامة، من خلال إيقاف جميع المشاريع، وفتح الباب على مصراعَيه للقطاع الخاص، وتخفيض مستوى الخِدمات العمومية في قطاعات النقل والتعليم، والتي طالت معاشات المتقاعدين.
“العلاج بالصدمة”
كما يشمل هذا المرسوم، قانون التظاهر، الذي يمكن أن تمتدّ فيه عقوبة التظاهر إلى ست سنوات سجنًا، في حال معارضة المتظاهر أوامر قوات الأمن. وقد تداولت شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر عناصر أمن يوم المظاهرة الأخيرة، يصوّرون وجوه ركاب الحافلات الذين يرتدون قمصانًا عليها شعارات غضب على الحكومة، في سلوك غير مألوف بالمرّة في الأرجنتين.
أما الثانية فتمثّلت في طرح 11 مشروعَ قوانين على البرلمان يوم الأربعاء الماضي، وتشمل 664 فصلًا، تطلب تفويضًا من النواب للرئيس ميلي، يمنحه الصلاحيات لتغيير القوانين بشكل أحادي، دون العودة إلى السلطة التشريعية، وتشمل المجالات: الاقتصادية، والضريبية، والاجتماعية، وحتى الانتخابية؛ تحت حجّة “الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد”.
وبعيدًا عن الفصول المتعلقة بحلّ مؤسسة البنك المركزي الذي ينوي الرئيس ميلي تنفيذه، تداولت وسائل الإعلام المعارِضة فصولًا تدخل في إطار إصلاح القانون الضريبي، تمثّل تخفيضات صارخة لرجال الأعمال وللطبقة الثرية في الأرجنتين، التي بلغ فيها مستوى الفقر 40%، ومن بينها؛ تخفيض الضريبة على الممتلكات الفخمة، وضريبة شراء العَقَارات؛ وضريبة الميراث.
يبرّر الرئيس ميلي هذه القرارات بأنها ضرورية لمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في الأرجنتين، وتجسّد نظرته الاقتصادية التي اختار لها عنوان: “العلاج بالصدمة”، وشعار: “المنشار” للدلالة على القضاء على المشكلة من عروقها.
لكن أصواتًا كثيرة الآن أصبحت تتحدث عن أن الصدمة يمكن أن تطال “حلّ البرلمان”، في حال معارضته هذا العلاج!