“بالنسبة لي، الأمر بسيط، العالم يتكون من آكلي الأعشاب وآكلي اللحوم. إذا قررنا أن نبقى آكلي أعشاب، فسوف ينتصر آكلو اللحوم وسنكون سوقا لهم”.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
برقيات دبلوماسية وآمال مشتركة بالعمل على الأمن والرخاء والسلم، كلمات خشبية منمقة لا تكاد تصمد أمام حالة الاضطراب التي تكتنف أوروبا والوضع الحرج الجديد الذي ينتظرها، فدونالد ترامب الذي خرج قبل 4 سنوات من البيت الأبيض بما يشبه معجزة، عاد مرة أخرى بأصوات الناخبين الأميركيين الذين اختاروه ملقين وراء ظهورهم كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي ونائبة الرئيس جو بايدن، التي أثقلها الحكم وفرض عليها ضريبته قبل حتى أن تخوضه منفردة.
لم يكن الخبر سارا للأوروبيين، ولم يكونوا يخفون ذلك حتى قبل بداية المعركة الانتخابية، وها هي ألسنتهم تُبدي القلق الذي يسكن القلوب بسبب وصول الرئيس الجمهوري، الذي اختبروا توجهاته سابقا، إلى قمة هرم أقوى دولة في العالم. ظهر أول أصوات التوجس من بودابست، العاصمة المجرية، في قمة المجموعة السياسية الأوروبية الخميس الماضي، فخلال هذا المجمع استغل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفرصة للحديث عن ضرورة أخذ الأوروبيين قضايا أمنهم الداخلي على محمل الجد بعيدا عن تعهدات الأميركيين وتقلباتهم المفاجئة.
اعتبر ماكرون في مستهل القمة أن اللحظة الحالية هي لحظة فارقة وحاسمة بالنسبة للأوروبيين، فالحرب التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شرقي القارة، والانتخابات الأميركية، والخيارات الصينية على صعيد التكنولوجيا، تعطي القارة العجوز فرصة كتابة التاريخ بدل مشاهدة أطراف أخرى تكتبه كما تُمليه عليها مصالحها. في الكلمة نفسها سيتساءل الرئيس الفرنسي عمن سيدافع عن اختيارات الأوروبيين إن كان الأميركيون قد اختاروا مَن يدافع عن مصالحهم.
مَن سيدافع عن الأميركيين حسب قصد إيمانويل ماكرون لن يكون سوى الرئيس الأميركي القديم الجديد دونالد ترامب، الرجل الذي -على أقل تقدير- لا يُبدي حماسا كبيرا ولا محبة واضحة للأوروبيين ليس الآن فقط، بل حتى قبل أن يرتقي سدة الحكم في ولايته الأولى. فخلال مقابلة مع صحيفتَي “التايمز” البريطانية “وبيلد” الألمانية في يناير/كانون الثاني 2017، وقبل أيام من ولايته الأولى، خرج ترامب بتصريحات أثارت الكثير من الجدل، صوّب فيها رصاص كلماته نحو أوروبا وحلف الناتو معا. في هذه المقابلة، قال ترامب إن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ارتكبت خطأ “كارثيا” بعد أن أغرقت أوروبا باللاجئين عقب فتحها الحدود أمام الفارين من نيران الحروب في الشرق الأوسط.
اعتبر ترامب أن على ألمانيا الاستثمار في إنشاء مناطق حظر طيران في سوريا لحماية الشعب السوري من القصف عوضا عن استضافة اللاجئين. لم يقف هجوم الرئيس المنتخب عند هذا الحد، بل اعتبر أن الاتحاد الأوروبي برُمَّته ما هو إلا أداة لألمانيا، لذلك فإنه دعم قرار بريطانيا بالانسحاب من هذا الاتحاد، معتبرا أن هذا القرار يصب في صالح البريطانيين، ومُعربا حينها عن رغبته في عقد اتفاق تجاري مع لندن بسرعة. تصريح ترامب هذا يختلف جملة وتفصيلا عن تصريح سابق لسلفه الديمقراطي باراك أوباما، الذي قال إن بريطانيا إن هي غادرت الاتحاد الأوروبي فيجب عليها أن تقبل مكانها في آخر الصف حتى تتمكن من توقيع اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة الأميركية.
لم يقف ترامب عند هذا الحد، فبعد وصلة من المديح في حب بريطانيا التي تنحدر منها والدته الأسكتلندية، أعرب عن تنبؤ مثير للجدل خاصة أنه صدر من الحليف الأكبر لأوروبا، مؤكدا أن الاتحاد الأوروبي مصيره إلى الانهيار، والسبب أن دولا أخرى ستنضم إلى قافلة الخروج التي بدأتها لندن بسبب سياسة الهجرة التي تنتهجها القارة العجوز.
لم يكن ترامب إذن مطَمْئنا للأوروبيين في عام 2017، ولا يمكن وصفه بحال بالمطَمْئن حتى اليوم، فالرئيس الأميركي العائد مجددا لحكم أميركا في يناير/كانون الثاني المقبل بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأميركية مطلع الشهر الحالي، يملك خطة غامضة ومثيرة للقلق لوقف الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، حسب قوله، وفكرة لا تقل غموضا تتعلق بإنهاء الصراع مع الصين، وهو لم يُعطِ نبذة عن هذه الأفكار التي يمكن التنبؤ بأنها لن تعجب لا كييف ولا باريس ولا برلين.
نظرة “الازدراء” الأميركي لأوروبا تعود إلى ما قبل ترامب بكثير. في الحقيقة، لقد عبَّر العديد من الرؤساء الأميركيين -بطرق أكثر دبلوماسية ربما- عن امتعاضهم من عدم إنفاق الأوروبيين، وبالخصوص الألمان، على تسليح جيوشهم بشكل كافٍ والاعتماد على الولايات المتحدة، إلى أن جاء ترامب ونزع قناع الدبلوماسية الخشبي وقال في أوروبا ما لم يقله مالك في الخمر، واعتبر الاتحاد الأوروبي الأخطر على بلاده بعد الصين، مستحضرا بذلك تاريخا من التوترات أخفاه الزمن خلف مشهد التوافق الظاهري بين الحلفيْن الواقعين على ضفتي الأطلسي.
عائلة مستَعمِرة ممتدّة
عادة ما يضع الناظرون الخارجيون أميركا وأوروبا في سلة واحدة تحت مسمى “الغرب”، على أساس أن هذا الغرب شيء واحد، شعوب موحدة، لديها النظرة والأهداف نفسها، تملك الماضي نفسه، وتترقب المستقبل بالهواجس والتوقعات ذاتها. لكن التاريخ والحاضر يُخبراننا أن الغربيين قد لا يكونون دائما على قلب رجل واحد، وأن علاقاتهم قد تكون في أحيان كثيرة براغماتية محضة، فإذا انتفت المنافع المشتركة، ظهر التنافس وتجلت معه الانشقاقات والاختلافات، التي بلغت في أحيان درجة الحرب.
لا شيء أدل على ذلك من الطريقة التي تأسست بها العلاقات بين الحليفين وفق قواعد استعمارية بحتة. ففي عام 1607، أقامت بريطانيا أعمدتها في أول مستعمرة في جيمستاون بفيرجينيا، حيث أسس البريطانيون مزارعهم على طول خليج تشيزبيك بعد اكتشاف التبغ. أعقب ذلك انطلاق أطول حقبة هجرة من أوروبا استمرت لمدة قرنين تقريبا. خلال تلك الفترة، قَدِم المهاجرون الأوروبيون الباحثون عن الفرص من ألمانيا وهولندا، لكنْ ظل البريطانيون الأكثر قدوما للولايات المتحدة الأميركية، حيث عملت الغالبية الساحقة منهم مزارعين.
لم تكن الأرض الجديدة تُقدِّم النعيم الكامل للأوروبيين البيض، رغم أنه لا يمكن بحال مقارنة ما كانوا يعيشونه بالجحيم المقيم الذي عاشه السود الذين جلبهم المستعمرون البيض إلى الأرض الجديدة. وبمجرد وصول المهاجرين إلى القارة المكتشفة حديثا، كانوا يعملون بعقود مؤقتة يحصلون من خلالها على الطعام والمسكن والملبس دون تقاضي أي راتب لعدة سنوات، بعدها يصبح العامل حرا في الزواج والانطلاق في تأسيس حياة جديدة تبدأ بإنشاء مزرعة خاصة.
لم تكن الهجرات القادمة من بريطانيا نحو الولايات المتحدة الأميركية اقتصادية فقط، بل كان لها بعض الدواعي الدينية أيضا، فقد عرفت بعض المناطق كماريلاند ونيويورك وبنسلفانيا هجرات دينية من قبيل استيطان جمعية الأصدقاء الدينية البريطانية بعض هذه المناطق، والتحق بهم بعد ذلك مجموعات من أيرلندا الشمالية وطوائف بروتستانتية ألمانية جاءت من أجل التبشير برؤيتها للدين المسيحي.
في أعقاب حرب الاستقلال الأميركية (1775-1783) تم قطع الحبل السري الذي جمع الأرض الجديدة بمستعمريها الأوائل، ومع ذلك، ظل التقارب خيارا إستراتيجيا لا غنى عنه للطرفين، مع هيمنة سياسية لأوروبا على العالم الجديد، لكن تلك الهيمنة بدأت طريقها نحو الزوال مطلع القرن التاسع عشر مع قيام الحرب العالمية الأولى. في البداية، اتخذت الولايات المتحدة موقفا محايدا يضمن لها تعاملا اقتصاديا مع الأطراف المتحاربة، فكانت تمد الجميع بالسلع الغذائية والمعدات الحربية والمواد الأولية، رغم بعض الصعوبات التي لاقتها في تزويد ألمانيا بسبب الحصار البحري الذي كانت تضربه فرنسا وبريطانيا على برلين، ثم بعد ذلك رد فعل ألمانيا نفسها عبر غواصاتها التي كانت تستهدف العديد من السفن الأميركية، ومن بينها سفينة الركاب “لويزيانا” التي أغرقتها القوات الألمانية وكان على متنها 198 مواطنا أميركيا.
واصلت أميركا سياسة ضبط النفس رغم كل ما حدث، خصوصا أن عدد الأميركيين من أصول ألمانية كان يتجاوز 4 ملايين مواطن. بيد أن عدة متغيرات دفعت واشنطن إلى تعديل موقفها، أولها البرقية الألمانية إلى المكسيك التي اعترضها الأميركيون، والتي كشفت أن الحكومة الألمانية أبدت استعدادها لمساعدة المكسيك على استعادة عدد من الولايات الأميركية هي ولايات تكساس ونيومكسيكو وأريزونا، إضافة إلى نية ألمانيا إنشاء قواعد عسكرية لها في فناء واشنطن الخلفي في أميركا اللاتينية، بجانب زيادة وجودها العسكري في الشرق الأقصى. أدركت الإدارة الأميركية وقتها أن الحياد لم يعد مجديا، وأن الوقت قد حان للدخول في الحرب إلى جانب بريطانيا.
ستدخل الولايات المتحدة الحرب على مرحلتين، مرحلة أولى أعلن خلالها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في الثالث من فبراير/شباط 1917 عن قطع العلاقات الدبلوماسية بين بلده وألمانيا، أما المرحلة الثانية فكانت إعلان الحرب على ألمانيا رسميا في السادس من أبريل/نيسان من العام نفسه، بعد أن أقدمت الغواصات الألمانية على إغراق سفن تجارية أخرى متسببة في خسائر مادية وبشرية جديدة.
قلَبَ دخول واشنطن معترك الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بطلب ألمانيا من أميركا التوسط لدى الحلفاء للتفاوض لإنهاء القتال، فتم توقيع الهدنة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918. خلال أشهر الحرب القليلة التي شاركت فيها الولايات المتحدة الأميركية، تمكنت من تحقيق العديد من المكاسب، فقد كانت الدائنة الأولى لأوروبا قبل الحرب وخلالها، كما تمكنت من الاستيلاء على ممتلكات الألمان ومصانعهم، خصوصا تلك الناشطة في إنتاج الكيميائيات، مراكمة بذلك مكاسب اقتصادية وصناعية كبيرة جدا. والأهم من كل ذلك، أثبتت أوروبا عدم قدرتها على إيجاد صيغ واضحة لحسم خلافاتها، مما دفع الرئيس الأميركي ويلسون لتأكيد ضرورة تغيير شكل الدبلوماسية المتبعة في العالم حينذاك.
بعبارة أكثر وضوحا، غيّرت الحرب موازين القوى عبر الأطلسي، ومنحت أميركا اليد العليا في علاقتها بأوروبا للمرة الأولى، إذ بدأت الدول الأوروبية الاعتماد على أميركا في حاجياتها العسكرية وحتى في تسيير أمورها الاقتصادية بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها أوروبا كلها، بمنتصريها ومنهزميها. لقد بدأت أميركا تسلق سلم مجد السيطرة العالمية على ظهر الأوروبيين أنفسهم، لكن التربع الكامل على عرش العالم لم يتم بعد، بل كان يحتاج إلى صفحة ثانية، فيها الكثير من الخراب والعديد من الدماء.
انتقال القيادة
في نسخة طبق الأصل تقريبا من الحرب العالمية الأولى، انطلقت الحرب العالمية الثانية مع تغيير طفيف على مستوى اللاعبين. بدأت طبول الحرب تدق من بعيد بسبب جندي ألماني سابق قاتل في الحرب العالمية الأولى، لم يرضَ عن الشروط والظروف ونتائج الحرب، فأراد إعادة توزيع الأوراق عن طريق جولة جديدة من النيران الألمانية التي ستجتاح أوروبا، كان هذا الجندي ذو الأصول النمساوية يُدعى: أدولف هتلر.
لم يلبث هتلر أن أعلن الحرب بضم أراضي جيرانه عنوة، ولم يتأخر كثيرا ليأخذ صورة تذكارية أمام برج إيفل، معلنا وصول النازية إلى قلب باريس. في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تأخذ موقفا طبق الأصل من موقفها خلال الحرب العالمية الأولى، حياد في البداية، ثم اشتباك ضروري حين بلغت الأمور مبلغا لا يمكن معه التزام الحياد.
في السابع من ديسمبر/كانون الأول 1941، تعرض الأسطول الأميركي لهجوم من طرف القوات الجوية والبحرية اليابانية في جزر هاواي بعد أن قررت واشنطن قطع إمدادات الوقود عن اليابان، مما دفع أميركا للحرب رغما عنها. وقد شكل دخول واشنطن إلى الحرب حدثا لا يقل أهمية عن اندلاع الحرب نفسها، حيث رجحت كفة الحلفاء الذين كانوا يعانون سابقا من تحالف الفاشية مع النازية، لكن الأهم بالنسبة لواشنطن لم يكن الانتصار في الحرب، بل كان ما سيأتي بعد الحرب، التي انتهت بالقائمة ذاتها تقريبا من المنتصرين والمنهزمين خلال الحرب العالمية الأولى، مع ارتقاء واشنطن كقوة عظمى عالمية.
لكن هذا الارتقاء لم يخل من منافس أفسد على الأميركيين هيمنتهم من بين قائمة المنتصرين في الحرب، وهو الاتحاد السوفياتي الذي قاده “جوزيف فيساريونوفيتش ستالين”، وهو رجل رأت أميركا أنه لا يقل خطورة عن هتلر. في النهاية، قسمت أوروبا بين الأميركيين والسوفيات بـ”ستار حديدي”، وفق تعبير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وينستون تشرشل، شطر شرقي هيمن عليه السوفيات، وشق غربي تحالف مع الولايات المتحدة.
شعر الأميركيون بالخوف من أن يسبقهم الشرق الشيوعي إلى أوروبا المنهكة المدمرة، لذا عقدوا العزم على تقديم دعم برّاق جدا لأوروبا، دعم اقتصادي على المقاس يمنح القارة العجوز قُبلة الحياة. بدأ هذا الدعم عبر ما سُمي بـ”مبدأ ترومان”، الذي أخذ اسمه من الرئيس الأميركي هاري ترومان، وهو التزام أميركي بدعم الديمقراطيات (حلفاء أميركا) في وجه الأنظمة الاستبدادية (حلفاء السوفيات)، انتهى بأهم مشروع اقتصادي عرفته أوروبا بعد حربين منهكتين؛ مشروع مارشال.
كان الأوروبيون عاجزين تماما عن مساعدة أنفسهم على بناء ما دمرته نيران الخلاف بينهم. لذا، طلب الجنرال “جورج كاتليت مارشال” من “جورج فورست كينان”، مخطط السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، وضع خطة مساعدة اقتصادية لأوروبا، وكان لهذا المشروع هدفان أساسيان، مساعدة الحليف الأوروبي، ومنعه من السقوط بين يدي الاتحاد السوفياتي. لن يكون هذا السقوط عسكريا بالتأكيد، حسب ما كان يرى كاتليت، بل الخوف كل الخوف كان استغلال الأحزاب الشيوعية الأوروبية لحالة السخط الاقتصادي لتمرير أفكارها داخل المجتمعات الغربية.
كانت نتيجة خطة مارشال أن قدمت 17 مليار دولار من المساعدات لأوروبا على مدى 4 سنوات (تعادل أكثر من 200 مليار دولار بحسابات اليوم)، وُزِّعت على 16 دولة. ساعد مشروع مارشال أوروبا على النمو والاستثمار، وساعد في تحديث الصناعات والبنى التحتية الأوروبية، لكن ختم على تبعية أوروبا الاقتصادية لأميركا، تماما كما فعل حلف الناتو الذي أطلقته واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون بعد حصار السوفيات لبرلين عام 1949، ليسمح بانتشار قوات أميركا وأسلحتها بطول أوروبا الغربية وعرضها، فارضا الهيمنة العسكرية الأميركية على القارة.
نتج حلف الناتو في البداية عن رغبة فرنسية وبريطانية بعد الحرب العالمية الثانية. خلال تلك الفترة لم يكن الروس قد خرجوا من الأراضي التي سيطروا عليها، وهو ما كان يُشكِّل خطرا بالنسبة للأوروبيين الذين كانوا متوجسين من فكرة عدم خروج روسيا من الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها. ولكن بعد اندلاع الحرب الكورية التي ستسفر عن كوريتين متناقضتين، سارعت هذه الدول إلى إنشاء هيكل عسكري متكامل للناتو، وكان دور هذا التحالف هو “إبقاء الروس في الخارج، والأميركيين في الداخل، والألمان تحت الوصاية”، كما يقول الأمين العام الأول للحلف اللورد هاستينغز إسماي.
الإخوة الأعداء
استمرت الهيمنة الأميركية على التحالف الأطلسي طول الحرب الباردة، مدفوعا بمخاوف أوروبا من التمدد الشيوعي القادم من الشرق، بيد أن هذه الهيمنة ظهر لها من ينازعها في فرنسا معقل التمرد الأطلسي. بدأ الأمر خلال الحرب الهندية الصينية الأولى، المعروفة أيضا بالحرب الفيتنامية الفرنسية والتي أظهرت الخلافات الأولى بين واشنطن وباريس، خلافات تفاقمت مع عودة رسول الجمهورية الفرنسية الخامسة، الجنرال ديغول، إلى رأس السلطة في فرنسا نهاية الخمسينيات، مُبديا رغبته الواضحة في شق خط ثالث لا يقترب بالضرورة من موسكو، لكنه لا يخضع بخنوع للبيت الأبيض.
طالب ديغول بتقاسم القيادة في حلف الناتو بين أميركا وأوروبا، ولما رفضت واشنطن مطالبه سارع لخفض عضوية بلاده في حلف الناتو، منسحبا من القيادة العسكرية للحلف الأطلسي. يذكر أن تلك الرغبة “الاستقلالية” لم تكن حكرا على ديغول، وإن كان أبرز مَن نادى بها، فقد انتشرت هذه الدعوات في العديد من المناطق الأوروبية، دون نسيان بث الدسائس الذي أقدمت عليه فرنسا وبريطانيا بين السوفيات والولايات المتحدة الأميركية في الستينيات، لكن هذه الأمور غالبا ما كان يتم احتواؤها سريعا لصالح المصالح الأهم بين الطرفين.
في السبعينيات توسعت الهوة بين حلفاء الأطلسي أكثر فأكثر. اقتصاديا، تسببت صدمة نيكسون (1971) وفك الارتباط بين الدولار والذهب في ركود كبير في أوروبا، مع فقدان الثقة في أميركا التي وجهت ضربة كبيرة للعملات الأوروبية دون أدنى تردد. أما عسكريا وسياسيا، فقد انشغلت الولايات المتحدة بالحرب في فيتنام، ومبادرة نيكسون وكيسنجر الخاصة للتقارب مع الصين، مما دفع أوروبا إلى أسفل قائمة الاهتمامات الأميركية.
وجاءت أحداث مثل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 والصدمة النفطية التي ضربت أوروبا بسببها والغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، لتقطع حبال الوفاق الأميركي الأوروبي. ورغم هدوء العلاقات نسبيا في الثمانينيات، فإن بعض مبادرات الرئيس الأميركي ريغان، مثل برنامج حرب النجوم وقصف ليبيا (1984)، أشعلت خلافات مكتومة بين حلفاء الأطلسي، ومع ذلك ظل التحالف قائما مزدهرا بسبب بقاء التهديد الشيوعي الذي كان السبب في نشوئه بالأساس.
ولكن مع دخول “ماكدونالدز” إلى موسكو مطلع التسعينيات، واصطفاف الروس جماعات وفرادى أمام المطعم في انتظار وجبة “البيغ ماك”، كان جليا أن الإمبراطورية الشيوعية تهاوت تماما، وأن أميركا حققت انتصارا كبيرا لربما يفوق انتصارها في الحربين العالميتين، مطيحة فيه بقوة كبيرة كانت تقتسم معها كل شبر في العالم، ومفتتحة بذلك صفحة جديدة بوصفها بطلا وحيدا وأساسيا للمشهد.
ومع استتباب القيادة الأميركية، بدأت واشنطن في فك ارتباطها التدريجي بأوروبا عبر إغلاق العديد من قواعدها العسكرية، لكنها شرعت في صناعة توازن جديد للقوى في أوروبا لخدمة مصالحها عبر دعم صعود ألمانيا الموحدة لمنافسة فرنسا المتمردة على القيادة. على الجهة الأخرى، شرعت أوروبا الجديدة في محاولة الاعتماد على نفسها من خلال تأسيس الاتحاد الأوروبي واعتماد مشروع العملة الأوروبية الموحدة، وتدشين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بديلا جزئيا للناتو، حتى جاءت ضربات مركز التجارة يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتغيّر كل الخطط وتبعثر جميع الأوراق.
سيُفعِّل الناتو للمرة الأولى في تاريخه المادة 5 من معاهدة واشنطن التي تنص على أن جميع أعضاء الحلف يجب أن يساعدوا أي عضو تعرض للهجوم. استفادت أميركا من دعم الحلف في أفغانستان، لكن أوروبا (باستثناء بريطانيا) بدأت تظهر ضيقها حين أيقنت أن حرب المحافظين الجديد لن تقف عند حدود كابل، وأن جورج بوش وديك تشيني ورفاقهما كانوا يريدون بطاقة خضراء للتدخل في أي مكان يريدونه وبأي الطرق شاؤوا لمحاربة كل ما يصمونه “إرهابا”، مما دفعهم نحو مغامرة مدمرة أخرى في العراق.
تحسنت العلاقات الأطلسية نسبيا خلال سنوات أوباما الأولى، مع تخفيف حدة الحرب على الإرهاب والانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، لكن تلك الحقبة لم تخل من المنغصات، وأهمها قرار أميركا التركيز على آسيا الذي رأته أوروبا تهميشا لمنطقة الأطلسي، خصوصا مع سحب واشنطن أكثر من 10 آلاف جندي من أوروبا خلال ولاية أوباما الثانية، رغم إثبات روسيا تهديدها لأوروبا عمليا بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا عام 2014.
أميركا أولا
لم تضرب العلاقات الأوروبية الأميركية عبر تاريخها كما ضربت على يد دونالد ترامب، الرجل الذي صعد إلى البيت الأبيض مطلع عام 2017 رافعا شعار “أميركا أولا”، معيدا بلاده إلى عصور “الانعزال” ما قبل الحربين العالميتين. ازدرى ترامب التحالف مع أوروبا كما لم يفعل أي رئيس أميركي عبر التاريخ، حيث عاير الأوروبيين بالحماية الأميركية، وطالبهم بدفع ثمنها، وهاجم ألمانيا -أهم دول الاتحاد الأوروبي- قائلا إنها بنت مدنا واقتصادا مزدهرا معتمدة على القوات الأميركية. والأهم أنه سحب 12 ألف جندي أميركي من ألمانيا، تاركا أقل عدد من الجنود الأميركيين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم ذلك، لا يوجد مثال يمكن أن يوضح تردي العلاقات الأوروبية الأميركية زمان ترامب، بطريقة غير أخلاقية ربما، أكثر من حقبة انتشار وباء كورونا عام 2020، حين اندلعت النزاعات عبر الأطلسي ليس على الأسلحة أو الأموال، بل على الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي. خلال هذه الفترة، أعلنت السلطات الألمانية رسميا احتجاجها على “سطو” الولايات المتحدة الأميركية على مئتي ألف كمامة طبية كانت برلين قد اشترتها لمواجهة الوباء. الأمر نفسه سيحدث بين أميركا وفرنسا، حينما قالت فاليري بيكريس، رئيسة إقليم “إيل دو فرانس” إن الأميركيين حصلوا في الأنفاس الأخيرة على شحنة من الكمامات من المفترض أن يحصل عليها الفرنسيون بعدما ضاعفت واشنطن العرض المالي للجهة المصنعة.
لم يكن من الغريب أن أعادت واشنطن الكرة مع عدد من الأقاليم الفرنسية الأخرى، لدرجة أنها استولت على إحدى الشحنات من مدرج مطار صيني كان من المفترض أن تصل بعد ساعات من ذلك إلى الأراضي الفرنسية، رغم نفي المسؤولين الأميركيين ذلك. كان هذا نموذجا لما يشبه صراعات البقاء في عصور ما قبل الحضارة، غير أنه تم جلبه إلى الزمن الحاضر من قبل زعماء العالم الحر، حين تعارضت مصالحهم بشكل جوهري.
لم تفلح حقبة جو بايدن في معالجة آثار حقبة ترامب، رغم أن الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022 أنعشت مؤقتا التحالف الأطلسي، بعد أن دفعت أميركا لإرسال آلاف الجنود إلى أوروبا، فضلا عن أكثر من 175 مليار دولار من النفقات العسكرية والمساعدات الاقتصادية الأميركية بسبب الحرب. ففي خضم مشهد الوحدة الأطلسية المصطنع، كان الشركاء الغربيون يضعون أجساد بعضهم خلف الكواليس، بعد أزاحت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا -شريكتها قبل البريكست وبعده- الستار عن أكبر صفقة غواصات إلى أستراليا، في إطار اتفاقية “أوكوس” الدفاعية، التي ستُمكِّن الأستراليين من الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية.
وخلال حفل التقديم، التي حضرها بجانب رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز كلٌّ من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك، كُشِفَ عن تفاصيل الصفقة التي ستتراوح قيمتها بين 268 و368 مليار دولار، وتهدف إلى انضمام أستراليا إلى أميركا وبريطانيا لمراقبة الصين في المحيط الهادي. وقد خلقت هذه الصفقة مشكلات كبيرة، ليست للصين المستهدفة الأساسية من الغواصات حسب الأجندة المعلنة، ولكن لفرنسا الطرف الذي أُبعِد من هذا الاتفاق عنوة.
فعلى خلفية الصفقة الأميركية البريطانية، قررت أستراليا إلغاء صفقة غواصات كانت قد اتفقت فيها مع فرنسا، مما تسبب في غضب باريس، إذ استدعى ماكرون سفيره على وجه السرعة، وألغت فرنسا اجتماعا كان من المفترض أن يجمع بين وزارة دفاعها مع وزارة دفاع بريطانيا العظمى. في تصريح يخرج تماما عن اللباقة الدبلوماسية، اتهم الرئيس الفرنسي ماكرون رئيس وزراء أستراليا علنا بالكذب أمام الشاشات، كما صرح وزير الخارجية الفرنسي السابق جون إيف لودريان بأن بلاده استدعت سفيرَيْها في كانبيرا وواشنطن لإعادة تقييم الأوضاع، في نقطة انحدار غير مسبوقة للعلاقات.
أظهرت صفقة الغواصات بنوع من الوضوح تلك العلاقة المتوترة التي تُخفيها الابتسامات الدبلوماسية التي تُوزَّع في المحافل الرسمية بين الغربيين أنفسهم، خصوصا تلك العلاقة المتوترة تماما التي تربط فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية. ومع إعادة انتخاب ترامب لرئاسة أميركا، يتعين على الأوروبيين أن يواجهوا كابوسا جديدا، كان آخر ما ينتظرون مواجهته بينما يضرب الروس قلب أوروبا.
تعبيرا عن ذلك، قال وزير الخارجية الألماني السابق هايكو ماس إن شعار “أميركا أولا” الذي يرفعه ترامب يجب أن يكون أمامه شعار لا يقل وضوحا يقول “أوروبا أولا”. ففوز ترامب يجب أن يقود الأوروبيين لتوحيد صفوفهم أكثر بسبب تحول الحليف عن موقفه السابق، لكن هذا التوحيد لن يكون سهلا أبدا، فالدول الأكثر هشاشة في الجوار الروسي ستكون أكثر تحمسا لتوقيع اتفاقيات مع ترامب، أكثر من برلين أو باريس أو حتى المفوضية الأوروبية.
من وجهة نظر أوروبية، يُشكِّل ترامب تهديدا وجوديا، لكنه ليس الخطر الوحيد، فالقارة العجوز تعيش الكثير من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دون نسيان صعود تيارات أقصى اليمين، العدو الأول للاتحاد الأوروبي، والذي يُبدي موقفا معاديا لأميركا ويَعِد بالسيادة الوطنية وعدم التبعية لأي طرف آخر، ولو كان هذا الطرف هو واشنطن وبيتها الأبيض، مما يعني أن الفراق الأطلسي ربما يتحول إلى رغبة متبادلة لطرفيه في نهاية المطاف.