لا يمكن قراءة ما جرى في سوريا من أحداث لم يستغرق فيها سقوط نظام بأكمله أكثر من عشرة، أيام خارج سياق التحولات الجيوستراتيجية التي شهدتها، وما تزال تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط بغداد في العام 2003، مرورًا بإسقاط ليبيا الدولة، وليس معمر القذافي وحده، بجانب ما يجري في السودان من تدمير ممنهج للدولة وبنيتها الاجتماعية، ثم عبورًا بطوفان الأقصى الذي جرى فيه تدمير قطاع غزة بإنسانه وعمرانه بالكامل.
يضاف إلى ذلك العدوان على لبنان تحت دعوى محاربة حزب الله، بيدَ أن الآلة العسكرية التي استخدمت لم تميز بين المقاتلين والمدنيين الأبرياء في عمل أشبه بالعقاب الجماعي لدولة بأكملها وليس للضاحية الجنوبية فقط، فضلًا عن اليمن وما يدور فيه من أحداث منذ أمد بعيد.
فالترابط بين هذه الوقائع المختلفة، مكانًا وزمانًا، يبدو حاضرًا في ذهن كل محلل سياسي يستخدم قدرًا من النظرة النقدية القائمة على التعاطي مع الصورة الكلية وليس التفاصيل الصغيرة التي من بينها سقوط بشار الأسد بهذه الطريقة الدراماتيكية.
فالمقال معني هنا في إطار مقاربته لهذا الكل المركب بمخاطبة جزئية محددة تتصل بالإستراتيجية الأميركية في سوريا، إن وجدت، ودورها فيما جرى من خلال الإجابة عن جملة من التساؤلات يأتي في مقدمتها، ما هي الإستراتيجية الأميركية في سوريا، وكيف تغيرت مع تطور الأزمة وتعاقب الرؤساء؟ وما هو حجم وطبيعة الدور الذي لعبته واشنطن في سقوط بشار الأسد؟ وما هو تأثير هذه الإستراتيجية على توازن القوى الإقليمي، وعلى الأمن في المنطقة على المدى الطويل؟
الإستراتيجية الأميركية في سوريا
تاريخيًا تشكل التصور الأميركي عن سوريا بتأثير عدد من المتغيرات:
- المتغير الأول كان أمنيًا يتعلق بالصراع بين القوتين العظميين فيما عرف في أدبيات السياسة الدولية بالحرب الباردة، فقد طرحت واشنطن مشروع حلف بغداد كواحد من المصدات الأمنية للوقوف في وجه النفوذ السوفياتي المتمدد وقتها، وكما هو معلوم أن سوريا لم تكن جزءًا من ذلك الحلف، وبالتالي عندما تعمقت العلاقة بين دمشق وموسكو ظهر ما عُرف بمبدأ أيزنهاور في العام 1957؛ لتعزيز الجهود الرامية لمحاصرة النفوذ الشيوعي في المنطقة، وذاك يعني أن واشنطن منذ ذلك الوقت كانت، وما تزال، تنظر لسوريا (قبل سقوط بشار) كأحد محاور الممانعة التي تحول دون إنفاذ المشروعات الغربية، وتحديدًا الأميركية منها.
- المتغير الثاني في سياق الرؤية الأميركية لسوريا، يتعلق بالخطر الذي تُشكله دمشق لأمن حلفاء واشنطن في المنطقة، ويأتي على رأسهم إسرائيل. فوجود نظام سياسي بتوجهات معادية لا تربطه علاقات ودية مع الغرب، ويتمتع بميزة القرب الجغرافي من تل أبيب، يُمثلُ خطرًا من المنظور الإستراتيجي لأمن إسرائيل، ويتعاظم هذا الخطر من وجهة نظر الولايات المتحدة إذا اقترن بشبكة تحالفات عسكرية وأمنية مع دول عظمى سابقًا وكُبرى حاليًا كروسيا، والتي أُضيفت لها إيران في فترات متأخرة. فمتغير أمن إسرائيل تعززه التجربة التاريخية لمجمل الحروب والمواجهات التي تم خوضها ضد تل أبيب، والتي تمت بجبهتين؛ إحداهما جنوبية من مصر، وأخرى شمالية من سوريا.
- المتغير الثالث في إطار تصور أميركا لسوريا، ارتبط بعامل محاربة الإرهاب ممثلًا في تنظيم الدولة الإسلامية، حيث بدأ هذا التنظيم عملية الاستيلاء على الأراضي في وسط وشمال شرق سوريا في عام 2013. وكما هو معلوم أن التنظيم نجح في تنظيم سلسلة من الهجمات الموجهة ضد عدد من الدول الأوروبية في العام 2015، الأمر الذي حدا بواشنطن وحلفائها الأوروبيين والعرب بجانب تركيا لتشكيل تحالف لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، وقد تم تنفيذ أكثر من أحد عشر ألف ضربة جوية ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا وحدها، بينما واصل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة دعمه للعمليات البرية التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا.
ومن المنظور التحليلي يمكن القول إن مرتكزات إستراتيجية واشنطن الحالية تجاه سوريا تعتمد على أربعة عناصر رئيسية، هي:
- إبعاد النفوذ الروسي من سوريا كخطوة ضرورية لإضعاف محور المقاومة الذي تُعد دمشق حلقة الوصل الرئيسية فيه
- إخراج إيران من المسرح السوري الذي تتخذه كواحد من أهم ركائز أمنها القومي في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
- إضعاف النظام السوري كقوة مناوئة لإسرائيل عبر القضاء على شبكة علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية ممثلة في طهران وموسكو
- محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية وتفرعاته، عبر دعم بعض القوى المقاتلة السورية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.
وقد استخدمت واشنطن مختلف الآليات العسكرية وغير العسكرية لتحقيق إستراتيجيتها في سوريا.
أدوات واشنطن في إنفاذ إستراتيجيتها
لقد سعت الولايات المتحدة منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 لفرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري؛ بهدف حرمانه من الموارد اللازمة التي تمكنه من إلحاق الضرر بالمدنيين، ومحاولة الضغط عليه للسماح بانتقال ديمقراطي. واستخدمت الإدارات الأميركية المختلفة بدءًا من الرئيس أوباما، دونالد ترامب وجو بايدن عقب تفجر الثورة السورية، أوامر تنفيذية متنوعة، ولكنها تتفق في مضمونها من حيث تجميد أصول المسؤولين المتورطين بانتهاكات حقوق الإنسان، بمن فيهم الرئيس المخلوع بشار الأسد. وقد شمل نطاق العقوبات حظر الاستثمارات الأجنبية من قبل المواطنين الأميركيين، وتصدير الخدمات، واستيراد النفط السوري، والمعاملات المتعلقة به.
وقد شملت العقوبات المؤسسات الأمنية والعسكرية، قطاع الطاقة، قطاع المصارف، المؤسسات المالية، ومؤسسات وأصحاب أعمال دوليين لديهم علاقات مع الحكومة السورية. ويلاحظ من العقوبات التي فرضتها واشنطن أنها تستهدف المقومات الأساسية للاقتصاد السوري.
وشهدت هذه المرحلة محاولة أميركا الحد من أنشطة شبكات الأعمال الدولية المرتبطة بأنشطة مع الحكومة السورية، باستخدام تدابير عقابية، مثل قانون قيصر، وغيرها من الأوامر التنفيذية. ولعل اللافت للنظر في نطاق تأثير العقوبات الاقتصادية كإحدى الأدوات التي استخدمتها واشنطن، أنها نجحت في الحد من الموارد المالية للنظام، وإضعاف قدرته في إجراء المعاملات التجارية والنقدية الخارجية.
ولم تكتفِ واشنطن باستخدام الأدوات الاقتصادية وحدها، بل استخدمت وسيلة أخرى أكثر تأثيرًا لجهة إضعاف النظام، وهي المساعداتُ العسكرية غير المحدودة لإسرائيل، وإعطاؤها الضوء الأخضر في المضي قدمًا في محاصرة النظام السوري، وذلك بضرب شبكة تحالفاته العسكرية ممثلة في الأطراف المقاومة كحركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان.
فتدمير القوة الصلبة لحزب الله من خلال تدمير بنيته القيادية التي كان على رأس ضحاياها الأمين العام السابق للحزب حسن نصر الله، وقائمة من القيادات الميدانية المحيطة به، قد كان لذلك الأثر الأكبر في جعل ظهر النظام مكشوفًا في الأيام الأخيرة قبل سقوطه، وبالتالي عدم قدرته على صد تحرك المعارضة المسلحة التي دخلت دمشق بلا عناء. الأمر الذي يثير تساؤلًا مشروعًا حول علاقة الإستراتيجية الأميركية بسقوط النظام السوري، مقرونًا بتقاطعات البيئة الإقليمية والدولية التي أنتجتها تحركات واشنطن على الصعيدين: الإقليمي والدولي.
علاقة سقوط النظام بإستراتيجية واشنطن
مُخطئ من يظن أن النظام سقط خلال تحرك عسكري لم يتجاوز العشرة أيام، والصواب من وجهة نظر تحليلية هو أن النظام سقط بهذه السهولة، لأن النظام قد تمت محاربته من مختلف الكيانات المدنية والعسكرية السورية التي استفادت بشكل مباشر من الضغط الإقليمي والدولي لمدة تقرب من الأربعة عشر عامًا. وهذا المنطق التحليلي لا يسلب الشعب السوري وقواه الحية شرف إسقاط بشار الأسد، لأنهم أصحاب القضية الأساسية، وبدونهم لا يمكن أن يتحقق مشهد دخولهم دمشق منتصرين على نظام عقائدي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود.
بيدَ أن ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار في هذا الجانب هو علاقة الإستراتيجية الأميركية التي تم تنفيذها وسقوط نظام الأسد، دون أن يعني ذلك إغفال الأدوار التي قامت بها كل من تركيا، وبعض دول المنطقة، ولكن كما هو معلوم فإن المقال معني بالتركيز على الإستراتيجية الأميركية.
فالنظرة الفاحصة تقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار دور الإنهاك الاقتصادي والعسكري الذي تم لروسيا – كأحد الحلفاء الإستراتيجيين لدمشق – في أوكرانيا لمدة تقرب من ثلاث سنوات منذ الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 2022. وقد أسهم هذا الاستنزاف لروسيا بشكل رئيسي في جعلها غير قادرة على تقديم الدعم اللازم لبشار، رغم وجود منظور تحليلي يرجح وجود صفقة ما جعلت الروس يحجمون عن مساعدة الأسد، هذا فضلًا عن بعض تحفظاتهم عليه، ولكن الراجح هو أن موسكو منهكة، وإن كانت هناك تفاهمات بينها وبين واشنطن.
الأمر الآخر في إطار علاقة إستراتيجية واشنطن بسقوط نظام الأسد بهذه الطريقة، هو التضييق الذي تم تنفيذه على إيران وحلفائها في المنطقة، والذي يشمل حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحزب الله، بجانب بعض الجماعات الإيرانية المقاتلة داخل سوريا، والتي كانت هدفًا لعديد من الغارات الجوية الإسرائيلية.
والإشارة لتل أبيب في أي تحرك يعني واشنطن، وذلك من واقع أن إسرائيل لا تستطيع التحرك بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة كضامن لأمنها الإستراتيجي. فتحركات نتنياهو وحكومته اليمينية ارتكزت على قطع الطريق أمام طهران في سياق مساعيها لإنجاز ما يسمى بالهلال الشيعي الممتد من العراق، مرورًا بسوريا وانتهاءً بلبنان. وتعرض هذا المشروع للبتر الكامل، خاصة بعد سقوط الأسد. فحزب الله لم يكن قادرًا على تقديم المساعدة؛ بسبب تداعيات حربه مع إسرائيل، وبالتالي لم يكن قادرًا على المساعدة كما كان في السابق، لتقود كل هذه العوامل لفتح سوريا على تحديات غير مألوفة.
الخلاصة:
تُعد إستراتيجية واشنطن التي تمت الإشارة إليها ضمن أهم المتغيرات المفسرة لسقوط نظام الأسد بالطريقة التي تمت الإشارة إليها، وبالتالي فإن تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب التي قال فيها “إن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في الصراع في سوريا” تُعد لا قيمة لها من المنظور الإستراتيجي، ولا تعدو كونها ذرًا للرماد في العيون، فالتحرك الأميركي المباشر المقرون بتحرك عسكري إسرائيلي، تم بتناغم كامل وتنسيق مسبق لتحقيق هدف واحد يتمثل في إعادة رسم شرق أوسط جديد، تكون فيه الغلبة لإسرائيل، ولا مجال فيه لنفوذ أي قوة إقليمية أو دولية خارج التصور الأميركي للشرق الأوسط الجديد.
ولعل أكبر المخاوف القادمة ستأتي من إسرائيل واستهدافها الممنهج للبنية الدفاعية والأمنية للدولة السورية، والخشية تكمن في أن يجد السوريون بعد إكمال فرحتهم بسقوط الأسد، أن تل أبيب قد قضت على الأخضر واليابس الذي كان سيقيهم حر وصيف المؤامرات الإقليمية والدولية.
وفي جانب آخر، يُمثل سقوط نظام بشار الأسد في الوقت الراهن تحديًا كبيرًا للشعب السوري بكل قواه الحية، وبغض النظر عن الطريقة التي تم بها التغيير سواء كان بدعم دولي أو إقليمي، فإن قدرة سوريا الجديدة على تجاوز الانقسام الطائفي، المذهبي، الإثني والديني، ستحدد وبشكل كبير قدرتها على بناء تجربة مستقلة تتجاوز بها سنوات الظلم والقهر، فضلًا عن حماية السيادة الوطنية من تدخلات جيش عريض من القوى الإقليمية والدولية التي أسهمت في الإطاحة بالأسد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.