مراسلو الجزيرة نت
تخيل أن تشترط دولة ما على بلدك إيداع نصف احتياطاته من النقد الأجنبي لديها، مقابل السماح له بإصدار عملة خاصة به. وتخيل أيضًا أن تتحكم هذه الدولة في قيمة عملتك وتمتلك حق النقض (الفيتو) على أسعار صرفها.
قد يبدو الأمر أقرب للاحتلال المالي، لكنه واقع تعيشه 14 دولة أفريقية، تودع نصف احتياطاتها لدى فرنسا –القوة الاستعمارية السابقة– التي لا تزال تفرض هيمنتها من خلال عملة تُدعى “الفرنك الأفريقي”.
ولادة الفرنك الأفريقي
أُنشئ الفرنك الأفريقي في ديسمبر/كانون الأول 1945، بمرسوم من الجنرال ديغول، عقب مصادقة فرنسا على اتفاقية بريتون وودز. ووفقًا لمؤسسة بروكينغز، أصبح الفرنك العملة الرسمية لمستعمرات فرنسا في أفريقيا.
ويُستخدم الفرنك الأفريقي اليوم في 14 دولة أفريقية جنوب الصحراء ضمن ما يُعرف بـ”منطقة الفرنك الأفريقي”، وتنقسم إلى منطقتين لكل منهما بنك مركزي:
- منطقة غرب أفريقيا: وتضم كلا من بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو. وتُشكل “الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا” (WAEMU)، وبنكها المركزي هو البنك المركزي لدول غرب أفريقيا. ويرمز لعملتها بـ”إكس أو إف” (XOF).
- منطقة وسط أفريقيا: وتضم الكاميرون، وأفريقيا الوسطى، والكونغو، والغابون، وغينيا الاستوائية، وتشاد. تُشكل “الجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا” (CEMAC)، وبنكها المركزي هو بنك دول وسط أفريقيا. يرمز لعملتها بـ”إكس إيه إف” (XAF).
القيمة والربط بالعملات
وتضمن الخزانة الفرنسية سعر صرف ثابتا للفرنك الأفريقي، وتُلزم الدول الأعضاء بإيداع 50% من احتياطاتها من النقد الأجنبي لديها، وفقًا لتقرير بثته قناة “سي إن بي سي”.
ومنذ إنشائه، رُبط الفرنك بالفرنك الفرنسي بنسبة 1:50، حتى خفضت فرنسا قيمته عام 1994 بنسبة 50%، ليصبح 1:100، مما سبب أزمات اقتصادية واسعة، وفقًا لبروكينغز.
وبعد انضمام فرنسا لمنطقة اليورو، رُبط الفرنك بالأخير بسعر صرف ثابت 1 يورو = 655.96 فرنكا أفريقيا، وفقًا لبنك فرنسا. ورغم أن كلتا العملتين منفصلة نظريًا، فإنهما متكافئتان من حيث القيمة.
نظام صارم وشروط مُقيّدة
وتُدار حسابات النقد الأجنبي من خلال حسابات مفتوحة لدى الخزانة الفرنسية، وتشمل القواعد:
- طباعة العملات تتم في فرنسا.
- على البنوك المركزية إيداع 50% من الأصول الأجنبية لدى الخزانة الفرنسية.
- الحفاظ على “غطاء نقد أجنبي” بنسبة لا تقل عن 20%.
- فرنسا تحتفظ بحق الفيتو ضد تعديل أسعار الصرف.
الاستعمار الجديد
وفي دراسة منشورة على منصة “ريسيرتش غيت”، يؤكد الباحثان فيليب لوسو وتريفور هوبر أن الاستقلال السياسي لا يُنهي الاستعمار، ما لم تبنِ الدول قاعدة اقتصادية وسياسية مستقلة.

ويُطلق على هذه الحالة اسم “الاستعمار الجديد”، حيث تستمر القوى الاستعمارية السابقة في التحكم بمؤسسات الدول المستقلة.
وتشكل دول الفرنك الأفريقي نحو 14% من سكان القارة، وتغطي مساحة 965 ألف ميل مربع، وتسهم بـ12% من الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا، بحسب صندوق النقد الدولي.
ووفقًا لمجلة “هارفارد الدولية”، لا تحتفظ هذه الدول إلا بـ30% فقط من احتياطاتها، بعد إيداع 50% في فرنسا و20% للغطاء المالي، مما يؤثر سلبًا على نمو الدخل الفردي ومعدلات الفقر.
فرنسا: شراكة أم نفوذ؟
فرنسا الرسمية نادرًا ما تُعلّق على هذا النظام بشكل مباشر، لكنها ترى فيه آلية لضمان استقرار اقتصادي ونقدي في دول تُعاني من هشاشة اقتصادية. كما تقول باريس إن دول الفرنك تستفيد من سعر صرف مستقر وتضخم منخفض مقارنة بجيرانها.
غير أن منتقدي النظام يرون في هذه الحجة تبسيطًا يتجاهل أثر القيود النقدية على التنمية، وحرمان الدول من أدوات سيادية أساسية مثل تحديد الفائدة أو إدارة التضخم وفق أولويات محلية.
أبرز التأثيرات الاقتصادية السلبية
وفقًا لدراسة للبنك الأفريقي للتنمية، فإن أبرز التأثيرات السلبية نتيجة تطبيق هذه السياسات تشمل:
- فقدان السيادة النقدية: لعدم قدرة الدول على رسم سياسات نقدية مناسبة لظروفها.
- التعرض لصدمات اقتصادية خارجية: نتيجة ربط الفرنك باليورو.
- استنزاف الموارد: نتيجة إلزام الإيداع في فرنسا.
- ضعف التصنيع: بسبب الاعتماد على استيراد السلع النهائية، مما يعوق التنمية.
آفاق المستقبل
وتواصل فرنسا التحكم بسياسة الفرنك النقدية، بهدف الحفاظ على اقتصادات تابعة تُكمل اقتصادها، كمصادر للمواد الخام وسوق للمنتجات الأوروبية، وفقًا لمنصة “شبكة العدالة الضريبية”.
بيد أن بعض الدول بدأت التمرد على هذا النظام، وأعلنت بوركينا فاسو ومالي والنيجر نيتها التخلي عن الفرنك، بعد انسحابها من “إيكواس”. وقال الرئيس البوركيني إبراهيم تراوري: “أي شيء يُبقينا في حالة عبودية.. سنكسر تلك القيود”، بحسب رويترز.
كما صرّح رئيس النيجر عمر عبد الرحمن تياني أن التخلي عن الفرنك “علامة على السيادة”، رغم صعوبة الانتقال التي تتطلب تأسيس بنك مركزي جديد ووضع سياسة نقدية مستقلة بعد عقود من التبعية.