يُعدُّ كلٌ من بايدن وترامب شخصيتين سياسيتين مكروهتين تاريخيًا – وبايدن نفسه هو الرئيس الحديث الأقل شعبية – وغالبية استطلاعات الرأي تُظهر أنهما لا يستوفيان شروط القبول العام، وأن المقعد الرئاسي أكبر من حجمهما بكثير، وظل هذا الشعور حاضرًا، حتى قبيل أن يُخلي بايدن مكانه لنائبته كامالا هاريس.
ووفقًا لأحدث استطلاع أجرته شبكة PBS News، قال ما يقرب من ثلثي الأميركيين إن بايدن لا يتمتع باللياقة العقلية اللازمة للعمل كرئيس، بينما شكك حوالي نصفهم في قدرة ترامب، وقال غالبية الأميركيين إن ترامب لا يتمتع بالشخصية التي تؤهله لتولي منصب الرئيس.
وفي الأسبوع الأخير من شهر يونيو/حزيران الماضي، كشف استطلاع لـ”مجلة إيكونوميست” (The Economist) – والذي سأل عن معدلات الموافقة لترامب وبايدن وهاريس – أن ترامب مكروهٌ من قبل 57% من الأميركيين، ويحبه 39%، وينظر إلى بايدن بشكل مماثل: فهو لا يحبه 58% من الجمهور، ويحبه 39%.
وبالنسبة لهاريس فإن أرقامَ تأييدها وقبولها بشكلٍ عام لم تكن الأقوى؛ فقد حصل بايدن، بحسب موقع تحليل استطلاعات الرأي FiveThirtyEight، على موافقة بنسبة 37% من جميع الناخبين الأميركيين، بينما حصلت هاريس على 38%، وسيُنظر إليها على أنها استمرارٌ لإدارة بايدن، مما يعني أنه يمكن – ببساطة – أن تُعتبر “أكثر قليلًا من نفس الشيء” من قبل الناخبين الذين ليسوا راضين عن السياسات أو المواقف التي تمثلها.
خاصة أن استطلاعات الرأي التي أجريت في العام الماضي تُظهر أن الناخبين مهتمون بالتغيير وأعربوا عن استيائهم من الوضع الراهن، فيما يشكل التمييز الجنسي والعنصرية اللذان يستبطنهما الناخبون مصدرَ قلقٍ رئيسيًا، أشار إليه بعض الديمقراطيين. يقول كارتر: “لا أعلم أنَّ الكثيرَ من الناس يريدون الاعتراف بذلك، لكن أعتقد أنَّ هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يشعرون بالارتياح تجاه تولي امرأة سوداء منصب الرئيس”.
وتُظهر مجاميع استطلاعات تصنيفات الأفضلية شيئًا مشابهًا، وذلك في متوسط Real Clear Politics – وهو موقع إخباري سياسي أميركي ومجمع بيانات الاقتراع – حيث حصلت هاريس على تصنيفٍ يتطابق تقريبًا مع بايدن.
وقال سون تشنغهاو، زميل ورئيس مركز الأبحاث الأميركي؛ إن “هاريس لا تمتلك نفس المستوى من القدرة القيادية التي يتمتع بها بايدن لتوحيد أعضاء الحزب”. وأضاف: “علاوة على ذلك، فإنّ سجلها العام كنائبة للرئيس لم يكن مثيرًا للإعجاب بشكلٍ خاص، ولم تحقق نتائج مرضية، واستدل على ذلك بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لعام 2020، حيث كان أداءُ هاريس متوسطًا، وانسحبت من الانتخابات التمهيدية في مرحلةٍ مبكرة، مما يشير إلى أن تأثيرها داخل الحزب محدودٌ نسبيًا”.
السياسة الأميركية وحلم التجديد
الآراءُ أو الأرقامُ – هنا – مهمةٌ، وتأملها أو فحصها، يشير إلى أنَّ هذا الثالوث: بايدن، هاريس، وترامب، ليسوا أفضلَ الخيارات، بل بلغت حد الإدعاء أن ليس من بينهم من يستحق أن يكونَ سيدَ البيتِ الأبيض، فلِمَ – إذن – لا يتصدر المشهد “بدائل” جديدة وبكر وشابة وغير “مستخدمة” بلغة سوق البالة؟!
فهل فقدت الولايات المتحدة قدرتها على تجديد نخبها السياسية المؤهلة للحكم والرئاسة؟! ولِمَ لا يتناوب على العرش البيضاوي غير الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما “لا شريك لهما” منذ خمسينيات القرن التاسع عشر؟!
يُوجد – بالتأكيد – العديد من الأحزاب الصغيرة أو ما يسمى بـ “الأحزاب الثالثة”، مثل: الإصلاح، والليبرتارية، والاشتراكية، والقانون الطبيعي، والدستور، والخضر، ولكنها أحزابٌ مهمشة ولا دورَ لها غير “جر شكل” مرشحي الحزبين العملاقين (الديمقراطي والجمهوري) أثناء عملية الاقتراع على من يكون الرئيس، وذلك على نحو ما حدث في انتخابات 2016 إذ امتصت التذاكر الأقوى لحزب الليبرتاريين وحزب الخضر بقيادة حاكم ولاية نيو مكسيكو السابق غاري جونسون وجيل ستاين، على التوالي، دعم هيلاري كلينتون وساعدت في انتخاب ترامب.
بالإضافة إلى هذه الأحزاب الصغيرة، يوجد المستقلون (مرشحون وناخبون)، وعلى الرغم من استخدام مصطلح “مستقل” كمرادف لمصطلح “معتدل” أو “وسطي” أو “ناخب متأرجح” للإشارة إلى سياسي أو ناخب لديه وجهات نظر تتضمن جوانب من الأيديولوجيات الليبرالية والمحافظة على حدٍ سواء، فإن معظم من يصفون أنفسهم بالمستقلين يؤيدون، على نحوٍ مستمر، أحدَ الحزبين الرئيسيين عندما يحين وقت التصويت.
على سبيل المثال، فإن المرشح المستقل، روبرت كينيدي جونيور ليس لديه فرصة كبيرة للفوز بالرئاسة – فهو مؤهل حتى الآن ليكون على بطاقة الاقتراع في سبع ولايات فقط – لكن استطلاعات الرأي تظهر أنه ربما يسحب الدعم من كل من هاريس وترامب، وقال خلال تجمع حاشد في فيلادلفيا: “الديمقراطيون خائفون من أنني سأفسد الانتخابات لصالح الرئيس بايدن. والجمهوريون خائفون من أنني سأفسدها للرئيس ترامب”.
وهو ذات الدور – التأثير على النتائج النهائية – الذي بوسع جيل ستاين “حزب الخضر”، وكورنيل ويست “مستقل”، وتشيس أوليفر”الحزب الليبرالي”، القيام به لاحقًا في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم.
وفي السياق، أظهر استطلاع أجرته جامعة ماركيت – في فبراير/ شباط – أنه في المنافسة المباشرة، حصل ترامب على 51% مقابل 49% لبايدن، وعندما أضيف كينيدي وويست وستاين من حزب الخضر إلى السؤال، تغيرت الأمور، وكان ترامب لا يزال في المقدمة بنسبة 42%، وبايدن حصل على 39%، وكينيدي على 15%، وويست على 3%، وستاين على 2%:
لقد سحب كينيدي المزيدَ من الدعم من الجمهوريين في ذلك الاستطلاع، بينما سحب ويست وستاين المزيد من الدعم من الديمقراطيين، وحافظ ترامب على نسبة أعلى من المستقلين مقارنة ببايدن عندما تم تضمين المستقلين.
لا شك في أنه يوجد بالتأكيد من بين الديمقراطيين عدة بدائل “واعدة”، وهي بدائل أغلبها شابة وغير مسنة أو عجوزة، مثل: حاكم جافين نيوسوم من ولاية كاليفورنيا (56 عامًا)، وحاكم ولاية إلينوي جي بي بريتزكر (59 عامًا)، وحاكم ولاية كنتاكي آندي بشير (46 عامًا)، وحاكم ولاية ميريلاند ويس مور (45 عامًا)، ووزير النقل بيت بوتيجيج (42 عامًا)، وحاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو (51 عامًا)، والسيناتور رافائيل وارنوك من جورجيا (54 عامًا)، وأخيرًا حاكم ولاية كولورادو جاريد بوليس (49 عامًا).
وفي الجانب الجمهوري يوجد بدائل لترامب، مثل: السيناتور تيم سكوت، وسفيرة الأمم المتحدة السابقة نيكي هيلي، ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي، وحاكم ولاية نيو جيرسي السابق كريس كريستي.
ومع ذلك، يظل السؤال حاضرًا، بشأن المراوحة عند نقطة إعادة تدوير الأسماء المستعملة: بايدن، هاريس من جهة، وترامب من جهة أخرى، فلِمَ – إذن – لا يطفو على “وش القفص” إلا تجريب المجرب وحسب! لماذا لا نرى مرشحين جدد يتمتعون بقدر لا بأس به من الفرص بجوار هذه الأسماء؟
هذا يطرح سؤالًا آخر بشأن مَنْ له سلطة صناعة النجوم السياسيين: الناخب أم شيء آخر، له من النفوذ والسيطرة والتفوق على أوعية وقنوات الاختيار الحر عبر عملية سياسية نظيفة وعادلة؟!
المال والانتخابات
منذ أكثر من مائة عام، قال السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو “مارك هانا” عن السياسة الأميركية: “هناك شيئان مهمان في السياسة، الأول هو المال، ولا أستطيع تذكر الثاني”، ولقد مرت أكثر من مائة عام، ولا يزال المال “العملة الأقوى” في توجيه السياسات الأميركية وحسب، بل أصبح أيضًا عنصرًا لا غنى عنه.
وعلى سبيل المثال، في عام 2020، تم إنفاق ما يقرب من 14 مليار دولار على الحملات الانتخابية الفدرالية، مما يجعلها الحملة الأكثر تكلفة في تاريخها وأكثر من ضعف ما تم إنفاقه في انتخابات عام 2016، بل بات الرئيس المنتخب في “جيب الأثرياء” بعد حزمة قرارات المحكمة العليا (Citizens United v. FEC) والتي وصفت بالتاريخية لسنها تشريعات، تمنع الحكومة من تقييد النفقات المستقلة للحملات السياسية وتسمح للأثرياء جدًا بإنفاق مبالغ غير محدودة على الحملات من خلال لجان العمل السياسي، وتمنع الناخبين من معرفة منْ يحاول التأثير عليهم، أي “المال المُظلم” الذي يُخفي هويةَ المتبرع به، ما حمل مركز برينان للعدالة على القول إن “الأموال الكبيرة تهيمن على الحملات السياسية الأميركية إلى درجة لم نشهدها منذ عقود” وأنها “تطغى على أصوات الأميركيين العاديين”.
في مارس/ آذار 2020، نشر روبرت رايش، أستاذ السياسة العامة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي ووزير العمل السابق، كتابًا بعنوان “النظام، مَنْ تلاعب به، كيف نصلحه” (The System: Who Rigged It, How We Fix It). ووفقًا له، تم اختطاف النظام السياسي الأميركي من قبل أقلية صغيرة على مدى العقود الأربعة الماضية، ويكاد يُنظر إلى التبرعات السياسية على أنها “رشوة مشروعة”، فهي تمكن الأغنياءَ من الحصول على المزيد من النفوذ السياسي.
ويقول الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة هارفارد ماثيو ستيفنسون؛ إن الولايات المتحدة ليست بأيِّ حالٍ من الأحوال الرائدة عالميًا في الحكومة النظيفة، وأنَّ بعضَ الممارسات المتعلقة بالضغط وتمويل الحملات التي قد تعتبرها الدول الأخرى فاسدةً، هي ليست مسموحًا بها فحسب، بل محمية دستوريًا في الولايات المتحدة.
فيما خلصت دراسة حديثة، أعدها البروفيسور مارتن غيلينز من جامعة برينستون والبروفيسور بنيامين آي بيغ من جامعة نورث وسترن، إلى أن الأثرياء القلائل هم من يحركون السياسة، في حين أن المواطن الأميركي العادي لا يملك سوى القليلِ من السلطة.
وقالت إن الأميركيين يتمتعون بالعديد من السمات الأساسية للحكم الديمقراطي، مثل: الانتخابات المنتظمة، وحرية التعبير وتكوين الجمعيات، والانتخاب واسع النطاق، غير أن عملية صنع القرار السياسي خاضعةٌ لهيمنة منظمات الأعمال القوية وعددٍ صغيرٍ من الأميركيين الأثرياء.
لم يعد خافيًا – إذن – على المراقبين، دور المال السياسي والموجه، بتغوله وتوحشه، في تقرير هوية البيت الأبيض، وأن المرشحين الأوفر حظًا بدخوله، هم في واقع الحال الأبناء الشرعيون لهذا المال، بما فيه “المال المظلم” – الدولة الموازية – التي تحرك مسرحَ العرائس الأميركي، وأحالت الرئيس المنتخب إلى “مندوب علاقات عامة” لكبار الممولين لحملته.
فهل اقتضت مصالحُ وأشواقُ وأحلامُ القوى المالية، وجودَ رئيسٍ مسنٍ وعجوز؟ فإذا كان بايدن وترامب في العقد الثامن من العمر، فإن هاريس – التي ينظر إليها على أنها الأكثرُ شبابًا منهما – باتت على مشارف العقد السابع هي أيضًا. أم أن الدولة “السوبر” في العالم باتت تجري عليها سنن الحياة، وأن “الميكبَ الديمقراطي” لم يعدْ بوسعِه إخفاءَ تجاعيد الشيخوخة التي اتسعت لتشمل ولاياتها الخمسين بلا استثناء؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.