تاريخ الإسلام معقد، وتاريخه السياسي أكثر تعقيدًا. وبوصفي أحد الذين ألّفوا حول علاقة الإسلام بالدولة، أوصي هنا بثلاثة كتب أخرى لمن يرغب في التعمّق في هذا الموضوع المتشابك.
1- علي عبد الرازق، “الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام”
ثمة اعتقاد شائع بأن الإسلام يرفض بطبيعته الفصل بين الدين والدولة، في حين أن المسيحية تحتضنه. وقد ساهمت في ترسيخ هذا التصور كتابات لمؤلفين مسلمين وغربيين على حد سواء.
ويحتل مفهوم الخلافة موقعًا محوريًا في هذا التصور، إذ يُفهم منه نظام تتوحد فيه السلطة الدينية والسياسية تحت قيادة حاكم واحد. قلما تتحدى الكتب هذا الفهم كما فعل كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”، الذي نُشر عام 1925.
كان عبدالرازق (1888- 1966)، خريج جامعة الأزهر وقاضيًا في المحاكم الشرعية في مصر، وقد جادل في كتابه بأن الإسلام يركز على الأخلاق لا على النظام السياسي.
وقد ذهب إلى أن النبي محمد -ﷺ- ترك للبشرية رسالة دينية، لا مشروعًا سياسيًا. ولو كان المقصود هو إقامة نظام سياسي، لكان النبي قد عيّن خليفة له صراحة.
ومن خلال تحليله لتاريخ الخلافتين الأموية والعباسية، أبرز عبدالرازق كيف أن إستراتيجياتهما كانت براغماتية في جوهرها، لا دينية بطبيعتها. واستخلص أن الخلافة ما هي إلا مؤسسة بشرية، وليست تكليفًا إلهيًا.
وقد كان لجرأة هذه الأطروحة ثمن. إذ قامت لجنة من علماء الأزهر بسحب شهادته العلمية منه، وعُزل من منصبه القضائي، مما جعله بلا عمل.
2- ابن خلدون، “المقدمة”
ومن المفكرين الذين تناولوا بعمق ديناميكيات السلطة في العالم الإسلامي، المؤرخ ابن خلدون (1332- 1406). ويُعدّ عمله الأشهر “المقدمة” تمهيدًا لتاريخه العالمي ذي المجلدات المتعددة.
وقد صرح ابن خلدون صراحة بأنه ليس فيلسوفًا ولا متكلمًا، بل هو مؤسسٌ لمجال جديد- ما نعرفه اليوم باسم العلوم الاجتماعية. ومن أشهر أقواله: “من أراد معرفة الحكم الشرعي في مسألة العلاقة بين الإسلام والدولة، فليقرأ كتب الماوردي”، في إشارة إلى الفقيه المسلم في القرن الحادي عشر. أما هو، فيوضح أن غرض دراسته هو “العمران البشري والاجتماع الإنساني”. ولهذا السبب، يُعدّ ابن خلدون أول عالم اجتماع في التاريخ.
في صلب تحليله، يبرز ابن خلدون العلاقة الجدلية بين مجموعتين من البشر: أهل الحضر المستقرين، وأهل البادية الرحّل. ولكل منهما خصائصه ومكامن قوته وضعفه:
فالمجتمعات الحضرية تُعنى بالفنون والعلوم والفلسفة، فتُصبح مراكز للحضارة، لكنها تميل كذلك إلى الترف والأنانية والاعتماد على الجيوش النظامية في الدفاع. وإذا انهزمت هذه الجيوش، عجزت عن حماية نفسها.
أما المجتمعات البدوية، فهي تفتقر إلى الرقي الثقافي والفكري، لكنها تملك شجاعة نادرة واستقلالية في العيش. وتتمتع بما أسماه ابن خلدون بـ”العصبية”، أي روح الجماعة القوية، مما يجعلها قادرة على الصمود والإطاحة بالنخب الحضرية.
ويصف ابن خلدون دورةً تاريخية متكررة: يغزو البدو المدن، فيستقرون بها، ويتحولون إلى حياة الحضر، ويفقدون عصبيتهم، فيغدو من السهل إسقاطهم من قِبَل قبائل بدوية جديدة. وهذه الدورة، في رأيه، تفسر صعود الدول وسقوطها.
ويتجاوز ابن خلدون النظرية السياسية إلى رؤى اقتصادية أيضًا، إذ يحذر الحكام من التدخل المفرط في الاقتصاد، لأن ذلك يفضي إلى الفساد والجمود.
وقد أثرت أفكاره في عدد من المفكرين والسياسيين المعاصرين. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما استشهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان بمقولة ابن خلدون: “في بداية الدولة تكون الضرائب قليلة والإيرادات كثيرة، وفي نهايتها تكون الضرائب مرتفعة والإيرادات قليلة“.
ولا تزال أطروحاته تحتفظ براهنيتها حتى اليوم. فإطاره التحليلي يساعد في فهم قضايا معاصرة مثل أنماط الهجرة العالمية وصعود حركات التمرد.
3- “مغامرة الإسلام: إمبراطوريات البارود والعصور الحديثة – المجلد الثالث”
الكتاب للمؤلف مارشال هودجسون. بعد قرن من زمن ابن خلدون، برزت الإمبراطوريات العثمانية والصفوية والمغولية باعتبارها قوى مهيمنة على رقعة واسعة تمتد من البلقان حتى البنغال بين القرنين السادس عشر والثامن عشر الميلاديين.
ومن أبرز التحليلات لتاريخ الإسلام، كتاب “مغامرة الإسلام” للمؤرخ الأميركي مارشال هودجسون (1922-1968). وقد نُقل هذا العمل إلى اللغة العربية مؤخرًا من قبل الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
وفي المجلد الثالث والأخير، يركز هودجسون على الإمبراطوريات الثلاث، واصفًا إياها بـ”إمبراطوريات البارود” نظرًا لاعتمادها على الأسلحة النارية والتقنيات العسكرية.
يميل بعض المسلمين إلى الافتخار بهذه الإمبراطوريات لقوتها العسكرية وتفوقها في استخدام البارود. أما أنا، فأرى الأمر من زاوية مغايرة. ففي الوقت الذي انشغلت فيه الإمبراطوريات الإسلامية بالتوسع العسكري، كانت الدول الأوروبية تشهد ثورات معرفية: ثورة الطباعة، والاكتشافات الجغرافية، والثورة العلمية. وقد نجح الأوروبيون في تطوير ثلاثة اختراعات صينية رئيسية: الطباعة، والبوصلة البحرية، والبارود.
لكن المسلمين لم يتبنوا إلا البارود، وهو ما شدد عليه هودجسون كثيرًا.
وهذا شكّل نقطة انعطاف في مسار التطور العالمي. ففي الفترة بين القرنين الثامن والحادي عشر، شهد العالم الإسلامي عصرًا ذهبيًا في العلوم والاقتصاد، بينما كانت أوروبا متخلفة. فقد برع المسلمون في صناعة الورق، وأنشؤوا مكتبات ضخمة تضم مئات الآلاف من الكتب، في حين كانت المكتبات الأوروبية شحيحة ومتواضعة.
بيدَ أنه بحلول القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، انعكس الوضع تمامًا. إذ طبع الأوروبيون مئات الملايين من الكتب، مما أطلق ثورة معرفية وعلمية. أما العالم الإسلامي، فلم يشهد مطبعة واحدة طوال أكثر من ثلاثة قرون- من منتصف القرن الخامس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر.
وهذا التحول الجذري، وما تبعه من جمود فكري في العالم الإسلامي، يشكل محورًا أساسيًا في كتابي الخاص.
4- “الإسلام والسلطوية والتأخر: مقارنة عالمية وتاريخية”
الكتاب للدكتور أحمد طه كورو، الذي صدر بالإنجليزية عن دار نشر جامعة كامبريدج، تُرجم إلى العربية أيضًا من قبل الشبكة العربية للأبحاث والنشر في عام 2021.
ويتناول التحديات المستمرة التي تواجهها خمسون دولة ذات غالبية مسلمة، على صعيدَي السلطوية والتأخر التنموي.
كثيرًا ما يُنسب سبب هذه التحديات إلى الإسلام نفسه. لكنني أرفض هذا التفسير. فالتاريخ يبيّن أنه بين القرنين الثامن والثاني عشر، كانت المجتمعات الإسلامية أكثر تقدمًا فكريًا واقتصاديًا من نظيرتها في أوروبا الغربية. وفي تلك الحقبة الذهبية، أنجبت الأمة الإسلامية فلاسفة وعلماء وتجارًا مرموقين، في حين كانت أوروبا غارقة في سلطة الكنيسة والحكم العسكري.
لكن نقطة التحول وقعت في القرن الحادي عشر، حين بدأ تحالف بين العلماء التقليديين (الفقهاء) والدول العسكرية يتبلور. ومع مرور الوقت، أدى هذا التحالف إلى خنق الإبداع الفكري والتجاري، وتهميش العلماء والمفكرين والتجار.
وقد بدأ هذا التحالف هيمنته في آسيا الوسطى وإيران والعراق في القرن الثاني عشر، ثم امتد إلى الشام ومصر ومناطق أخرى من العالم الإسلامي في القرون اللاحقة.
وبحلول زمن ابن خلدون في القرن الرابع عشر، كانت مصر خاضعة لحكم المماليك، الذين كان تحالف العلماء والدولة فيهم شديدًا. ثم جاء العثمانيون ليُقننوا هذا التحالف ويُحكِموا قبضتهم من خلاله، مما عمّق تهميش العلماء والتجار. فلم تنتج الدولة العثمانية فلاسفة على مستوى ابن سينا، وتأخرت في تبني تقنيات الطباعة، وغرقت في سبات علمي طويل.
بعض المثقفين المعاصرين- في الغرب والعالم الإسلامي على حد سواء- ينكرون حدوث تراجع علمي لدى المسلمين. ويصفون من يتحدث عن “الانحطاط” بأنهم مستشرقون أو متأثرون بالاستشراق.
لكن التاريخ لا يُنكر. فقد أقرّ كبار مفكري الأمة، مثل ابن خلدون في القرن الرابع عشر، وكاتب جلبي العثماني في القرن السابع عشر، بوجود هذا الجمود والانحدار الفكري. وإن عقدنا مقارنة بين القرون 8-11 (وهي ذروة الإبداع العلمي) والقرون 16-19 (وهي فترة الركود الفكري)، فسنجد أن الانحدار لا يُمكن إنكاره.
رغم ذلك، يظل العصر الذهبي الإسلامي مصدر إلهام كبير للنهضة المستقبلية، سواء في ميادين العلم أو الاقتصاد. فقد كانت المجتمعات الإسلامية الأولى منفتحة وحيوية ومتنوعة. وإن أراد المسلمون اليوم نهضة حقيقية، فعليهم إحياء هذه القيم التاريخية. ولسنا بحاجة إلى تقليد النماذج الغربية في التنمية والديمقراطية؛ إذ يكفي أن نستلهم من تاريخنا نفسه، ولهذا فإن قراءة كتب التاريخ أمرٌ بالغ الأهمية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.