لن يعتلي الرئيس التنفيذي المنتهية رئاسته لشركة بيركشاير هاثاواي، وارن بافيت، المنصة في الاجتماع السنوي العام المقبل، حيث سيتولى هذا الدور خليفته غريغ أبيل، ليجلس بافيت مع بقية أعضاء مجلس إدارة الشركة في الصفوف الأمامية أسفل المنصة، وذلك بعد أن صوت مجلس إدارة بيركشاير على بقاء الملياردير الشهير في منصب رئيس المجلس بعد تنحيه عن منصب الرئيس التنفيذي.
وقبل أقل من شهر، أعلن بافيت عن القرار الذي اتخذه بتسليم مهام الرئيس التنفيذي في نهاية العام، لينقل مهمة قيادة التكتل الاستثماري الأسطوري، الذي يمتلك سيولة تقارب 350 مليار دولار، إلى رجل ذي تاريخ طويل، هو أيضًا في إدارة الأعمال، ومن ضمنها قيادته وحدة المرافق في بيركشاير.
بدأت قصة وارن بافيت مع شركة “بيركشاير هاثاواي” في الستينيات، وكانت الشركة متخصصة وقتها في صناعة النسيج والأقطان، عندما لاحظ أن أسهمها تُباع بأقل من قيمتها الحقيقية.
وفي عام 1962، قرر بافيت شراء أسهم الشركة بالأسعار الزهيدة التي كانت متاحة وقتها، على أمل أن تُدار يومًا ما بشكل أفضل، لتتمكن من تحقيق أرباح للمساهمين. ومع اصطدامه بإدارة ترفض تطوير الشركة، قرر بافيت زيادة حصته حتى سيطر عليها بالكامل عام 1965، ليبدأ فصلًا جديدًا في تاريخها.
أدرك بافيت سريعًا أن صناعة النسيج في أميركا كانت في تراجع، فحوّل “بيركشاير هاثاواي” إلى شركة قابضة تستثمر في أعمال أخرى أكثر ربحية، وبدأ بشراء أسهم في شركات مثل: جيليكو للتأمين، وصحيفة واشنطن بوست، ثم وسّع استثماراته في قطاعات أخرى، لتمتد من الطاقة إلى السلع الاستهلاكية.
وبحلول الثمانينيات، كانت بيركشاير قد تحولت إلى عملاق استثماري، يعتمد على فلسفة بافيت في الاستثمار طويل الأجل في شركات ذات “ميزة تنافسية دائمة”، على حد تعبيره.
وتحت قيادة بافيت، نمت قيمة بيركشاير بشكل مذهل، حيث ارتفع سعر سهمها من 19 دولارًا في عام 1965، إلى أكثر من 760 ألف دولار للسهم الواحد وقت كتابة هذه السطور.
أما ثروة بافيت الشخصية، فقد قفزت من مليون دولار عندما بدأ شراء أسهم الشركة إلى أكثر من 160 مليارًا، ما جعله عضوًا دائمًا في السنوات الأخيرة في نادي أغنى أغنياء العالم.
وجاءت المفارقة في عام 2006، حين قرر بافيت التبرع بأكثر من 99% من ثروته قبل وفاته، ووجّه معظم تبرعاته إلى مؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية، متعهدًا بعدم تحوّل ثروته إلى إرث عائلي، واستخدامها لمحاربة الفقر والمرض. وقرر بافيت التبرع بأسهمه في بيركشاير ليؤكد لكل من حوله أن “المال يجب أن يعود إلى المجتمع الذي ساعده في تكوينه”.
وفي زمنٍ أصبحت فيه الأرقام والمؤشرات المالية هي اللغة السائدة، وغدا فيها “العائد على الاستثمار” مقياسًا وحيدًا للنجاح، يأتي الملياردير البالغ من العمر 94 عامًا ليذكّرنا بأن المال وسيلة وليس غاية، وليؤكد أنه إذا كانت الشاشات التي نتابعها بالليل والنهار تُظهر لهاثًا محمومًا وراء الأرباح، فإن ذلك لا يعني بالضرورة فقدان القدرة على جعل الاستثمار قوةً إيجابية تُحيي ما اندثر من معانٍ إنسانية.
لم يكن قرار بافيت بالتبرع بثروته لحظة عابرة، بل كان جزءًا من رؤية طويلة الأمد جسدها عبر سنوات، إذ بدأ الثعلب العجوز قبل عقدين تقريبًا في تنفيذ خطة مدروسة للتخلي تدريجيًا عن ثروته لصالح المؤسسات الخيرية.
وساهم بافيت في كل عام بعدها بمليارات الدولارات في دعم قضايا إنسانية متعددة، حتى تجاوزت تبرعاته الإجمالية ما يقارب 57 مليار دولار، وهو مبلغ هائل يعكس جدية التزامه بقضية العطاء.
وعلى عكس غيره من رجال الأعمال العرب، لم نسمع يومًا عن تهربه من دفع الضرائب، أو سرقة أموال سائلة من بيته، ولم نعرف بنزاعات مع أفراد أسرته، وصلت لحد مطالبتهم بالحجْر على ثروته، رغم اقتراب عمره من المئة عام!
آمن بافيت بأن ثروته يمكن أن تُسخَّر لخدمة الآخرين بدلًا من بقائها حبيسة صناديقه الاستثمارية، وعبّر بنفسه عن فلسفته هذه بوضوح، إذ قال إنه لو أنفق أكثر من 1% من أمواله على نفسه لما ازدادت سعادته أو رفاهيته، في حين أن الـ99% قادرة على إحداث تأثير هائل في حياة وصحة الآخرين. وبهذا المنطق البسيط النبيل، أرسل بافيت رسالة قوية مفادها أن الثروة مسؤولية اجتماعية قبل أن تكون امتيازًا شخصيًا.
أحدثت خطوة بافيت صدى واسعًا في مجتمع المال والأعمال، ففي بيئة تُعرف بالسعي المحموم وراء المكاسب، جاء تصرفه ليكسر النمط السائد ويقدم نموذجًا للرأسمالية الأخلاقية إن صح التعبير. أصبح بافيت رمزًا لما يمكن أن نسميه الاستثمار في الإنسان، حيث توجه عوائد الاستثمار الضخمة لتحسين حياة البشر، وخاصة الفئات الأقل حظًا.
وتأثر العديد من كبار المستثمرين ورواد الأعمال بهذه الفكرة، الأمر الذي دفعهم إلى إعادة النظر في كيفية استخدام ثرواتهم.
أطلق بافيت بالمشاركة مع بيل غيتس مبادرة عالمية، اسْمُها “تعهد العطاء” (The Giving Pledge) لتشجيع أثرياء العالم على التبرع بنصف ثرواتهم على الأقل للأعمال الخيرية.
وبالفعل استجاب عشرات المليارديرات لهذا النداء، مؤكدين أن النجاح المالي يمكن أن يقترن بالمسؤولية الإنسانية، وأن مثل هذه المبادرات يمكن أن تضخ جرعة من الأمل في روح النظام المالي، وتذكرنا أن التكافل ليس مفهومًا غريبًا حتى بين أصحاب المليارات.
وإلى جانب وارن بافيت، برزت أسماء أخرى تبنّت نهج الاستثمار في خدمة الإنسانية، وكان من أشهرها بيل غيتس، المؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت وأحد أثرى أثرياء العالم سابقًا.
كرس غيتس جزءًا كبيرًا من حياته بعد تقاعده من إدارة مايكروسوفت للعمل الخيري عبر مؤسسته التي يديرها مع زوجته السابقة ميليندا. ولم يكتفِ بالمساهمة، بل أعلن صراحةً أنه يعتزم التبرع بكامل ثروته الشخصية تقريبًا خلال العقدين المقبلين، بحيث يتم توجيه نحو 200 مليار دولار لمساعدة فقراء العالم عبر مؤسسته بحلول عام 2045.
أكد غيتس أنه لا يريد أن يُذكر بعد وفاته بأنه “مات ثريًا”، مؤكدًا عزمه على تسخير ثروته لحل المشكلات الملحّة في الصحة والتعليم والتنمية.
وأصبحت مؤسسة بيل وميليندا غيتس مثالًا حيًا على قوة رأس المال حين يُستخدم لصالح البشرية، إذ أنفقت أكثر من 100 مليار دولار على مشاريع لمكافحة الأمراض المستعصية والفقر ودعم التعليم حول العالم خلال أول 25 سنة من عملها، لتبعث برسالة واضحة، مفادها أن الثروة حين تقترن بالرؤية الإنسانية تصبح قوة إيجابية كبرى قادرة على تغيير حياة الملايين.
لم يكن غيتس وبافيت إلا جزءًا من تيار أوسع ينمو بهدوء داخل المنظومة المالية، الأمر الذي يقودنا إلى قراءة أخلاقية وإنسانية لعالم الاستثمار.
فالرأسمالية ليست حتمًا مرادفًا للجشع؛ بل يمكن للرأسمالية بقيادة ضمائر حية أن تكون وسيلة فعالة لخدمة الإنسانية. تكشف لنا قصة وارن بافيت وتجارب غيره من كبار المتبرعين أن التعاطف يمكن أن يجد مكانًا له حتى على طاولة صفقات البورصة، إذ يتزايد حاليًا عدد المؤمنين بأن عظمة الإنسان لا تقاس فقط بما راكمه من ثروة، بل بما قدّمه من خير وما أحدثه من فرق في حياة الآخرين، ليكون الربح الإجمالي والأجمل هو ما يعود بالنفع على البشرية جمعاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.