غزة- يسير الناس مذهولين من أهوال الطامة التي اجتاحت حي الرمال وسط مدينة غزة في محاولة لفهم الجغرافية الجديدة لأحيائهم التي جاؤوا يتفقدونها بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منها قبل أيام، فوجدوها في حال آخر.
تلتبس على أهل هذا الحي مداخل الحارات ومخارج الشوارع، يمشون فيها بخطى طفل تائه يحاول إدراك الأشياء حوله لأول مرة.
هي غزة كما لم يروها من قبل، أو بشكل أدق هي أي شيء عدا غزة، كل شيء في طريق الدبابات صار هدفا، والعلة أنه يحمل “إثم” وجوده في غزة.
لأول مرة يبدو الأذى مرعبا وواسعا لم يغفل عن أي شيء، قف على أي بقعة وقلّب نظرك أينما شئت وانظر كيف قطعوا برصاصهم أسلاك الكهرباء والاتصالات والإنترنت، ثم قلعوا الأشجار في الطرقات، وجرّفوا الشوارع المعبدة، وأتلفوا خطوط الصرف الصحي، ثم مشوا بدباباتهم على السيارات المركونة أمام البيوت، وصبوا نيرانهم على العمارات والأبراج واحدا تلو الآخر. وما أفلت من صاروخ طائرة من الجو، عاجلته قذيفة دبابة برا.
يتساءل الناس، هل هذه حرب على المقاومة؟ بل إنها حرب انتقام على الحياة والبنيان والإنسان، يجيبون.
دمار مروّع
كان لحي الرمال النصيب الأكبر من البطش الإسرائيلي، ووصف حجم الدمار فيه يُعجز اللغة، وهو المعروف سلفا بأنه “قلب غزة”، وأرقى أحياء المدينة، ووجهة فلسطينيي القطاع خلال العطل الرسمية ونهاية الأسبوع، حيث تتركز فيه مقار كبرى الشركات وأحدث المراكز التجارية وأفخر المطاعم وأجود البضائع والأسواق.
على أنقاض بيته المدمر الذي قصفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ثم أتمت هدمه أثناء الدخول البري، ينصب محمد الجاروشة خيمته، ويضع فيها ما سلم من مجزرة الهدم.
يقول الجاروشة للجزيرة نت “إنه يعاند إسرائيل التي تهدف من كل هذا لتهجير الفلسطينيين وإرغامهم على ترك بيوتهم”.
وتردّ ابنته شيرين على سؤال كيف تقيكم هذه الخيمة المطر وعصف الرياح؟ قائلة “اليهود مقدروش علينا، الريح بدها تقدر؟”، وتثني على والدها الذي “يتفنن في تحسين الخيمة التي تراها المكان الأدفأ في العالم طالما عائلتها بخير” كما تقول.
حال الجاروشة كحال كثير من الغزيين الذين يعتنقون مقولة “لو هدوا علينا البيوت، ننصب خيمة فوق الردم وما بنتزحزح” كعقيدة، ويعيشونها حقيقة، لا شعارات.
فيقابل خيمة الجاروشة بقايا منزل محترق لعائلة أبو شرار، الذي أصلح صاحبه الغرفة المتبقية منه، وعاد مع عائلته إليها غير آبه ببرودة الجو ولا بسخونة الأوضاع.
كان “حرق المنازل” شيئا لافتا جدا في المناطق التي انسحبت منها آلة الدمار الإسرائيلية، فمعظم المنازل التي يقيم بها الجنود عدة ساعات، يحرقونها لإخفاء آثارهم أولا، وتماشيا مع سياسة التخريب التي تعد الهدف الوحيد الذي نجحت إسرائيل في تحقيقه هنا.
“عصابات مرتزقة”
قابلت الجزيرة نت المواطنة أميرة عرفات التي اصطحبتنا لمنزلها الذي استباحه جنود الاحتلال بالقرب من دوار مسجد فلسطين في حي الرمال، وكان وصف المشهد يعجز اللغة، رسومات مخلة على جدران البيت وكتابة عبرية على الأثاث، وعبث وتفتيش بكل الحقائب والرفوف، وكأنه اجتياح لعصابات من المرتزقة أو المافيا، كما قالت صاحبته.
تعلق عرفات “كمية النجاسة اللي تركوها بالبيت ما توقعتها أبدا، لكن وإن هدموها سنعمرها، وإذا وسخوها سننظفها، وخيار تركها غير وارد أبدا”. وتقول إنهم وجدوا عددا من الفتائل والأسلاك الممتدة لإشعال الحريق في المنزل، “لكنها أتلفت من أحد المقاومين”.
على الناحية الأخرى تقف سيدة خمسينية يبدو رقيّها واضحا أمام بيتها المحروق بالكامل، تقول بصوت متقطع من نزف دمعها “بيتي وبيوت ولادي وسياراتنا لم يتبق لنا شيء، وين نروح؟ احنا شو عملنالهم!”، يرد عليها مَن حولها “الله يعوضكم خير يا حجة، المهم السلامة”.
وإلى الأمام قليلا عجوز بظهر محني يسند يديه المتشابكين وراء ظهره، يقف أمام ركام بيت أقربائه، ويتمتم بكلام غير مفهوم يبدو أنه يخاطب فيه أحدا “16 شهيدا تحت الأنقاض من 35 يوما مش قادرين على انتشالهم”، ويرد على نظرات المارة التي تتهمه بالجنون.
تجارة مدمرة
تدفق التجار مع انسحاب قوات الاحتلال لتفقّد محالهم، بعضهم يخرج ما سلم من بضاعته، وبعضهم الآخر يحاول إصلاح باب محله المخلوع من ضغط القصف والقذائف.
“البلوزة بـ3 شيكل” “ينادي تاجر ملابسه أنيقة، بعدما أخرج بضاعته المغبرة على باب محله الذي كان فاخرا على ما يبدو قبل أن يدمره الاجتياح الإسرائيلي، ووضعها على بسطة أمام الجموع ليبيعها بأقل من دولار. يفعل ذلك مضطرا ليدبر قوتا لأطفاله بعد انقطاع عن العمل لأكثر من 50 يوما، كما يقول للمتجمهرين حوله.
وعلى الناحية الأخرى، يتسمر تاجر آخر على كرسي أمام ركام محله، لا يرفع نظره عنه، وكأنه يعود بخط الزمن إلى اليوم الذي كانت تجارته هذه حقيقة لا حلم تبخر اليوم بعدما أحالته إسرائيل إلى كومة من رماد بغمضة عين.
“كان الله في عونهم، المال يعادل الروح”، يعلق المارة على هؤلاء التجار.
رائحة الموت
عاد مشهد المارة الذين يرتدون “كمامات الجائحة” طبيعيا جدا، حيث الأشلاء مفتتة والجثث ملقاة على الأرض التي تغلب عليها رائحة الموت، رغم أن أحدهم حدثني عن جثة “كانت ملقاة في الطريق لأكثر من أسبوعين، ولم تتحلل بعد. وهي من كرامات الشهداء التي حدثنا عنها الرسول محمد”، كما قال.
وفي طرقات الحي، إذا ما تجاوزنا جثة، وجدنا بعدها جبلا من القمامة على قارعة الطريق تنبعث منه رائحة تخبرك بأن عمرها 100 يوم أو يزيد.
تلفحك قشعريرة حادة، وأنت تسير في كل هذا الدمار، ربما من عدوى البؤس المنبعث من قسمات الناس، وكأنّ قنبلة متفجرة من الإحباط أصابت كل من يسير هنا.
يحملقون في وجوه بعضهم، وكأنهم يسألون عن سر النجاة، ويتمتمون على استحياء “حمدا لله على السلامة”، ولسان حالهم “أي سلامة هذه؟”، وهم يوقنون أن النجاة كتبت للذين رحلوا فقط، أما الباقون في هذا الواقع فهم في قلب الشقاء.
في ذروة هذا الجمود والإحباط، خرق صوت المؤذن المنطلق من مسجد السلام المدمر جدار البؤس “الله أكبر” وكأنه صوت الحياة ينبعث من دهاليز الموت، ليرد عجوز من المارة بصوت عالٍ ” الله أكبر وأقدر منك يا إسرائيل”.