إذا كان هناك أي شكّ حول نوايا دولة إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، فإن تصرفات تلك الدولة منذ 7 أكتوبر، جعلت نهاية الحرب واضحة للغاية: إسرائيل عازمة على طرد الفلسطينيين من غزة، والضفة الغربية، وتقوم إسرائيل- التي يديرها المتطرفون اليمينيون- بطريقتها الخاصة في التطهير العِرقي، وهي تهدف في النهاية إلى محو الهُوية الفلسطينية إلى الأبد.
على مدار أسابيع، ظل المجتمع الدولي يدين ما ارتكبته “حماس”، ويتغاضى عن الفظائع التي ارتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي، والتي أدّت- حتى كتابة هذه السطور- إلى مقتل أكثر من 20 ألف مدني فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. إن هذا العدد الكبير من الضحايا الأبرياء، جعل من غزة جحيمًا على الأرض، وأضحى الفلسطينيون المحاصَرون دون ملجأ يحميهم من استمرار هذه المذبحة.
على مدى أجيال، وإسرائيل مصرّة على أن تعيد كتابة التاريخ، وتشوّه الحقائق وتخلق مستجدات على الأرض في الضفة الغربية، وقطاع غزة تجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وهي إستراتيجية حرب نفسية وعقلية تشنها إسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود إلى الآن، مستندة في ذلك إلى مقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وقد أدّت هذه الإجراءات إلى تجريد السكان الفلسطينيين من أبسط حقوقهم في العيش الكريم. وما زال مسلسل التجريد والإبادة- الذي تقوم به إسرائيل- مستمرًا حتى يومنا هذا.
التجريد من الملابس
في الأعوام الأخيرة، شبَّه إسرائيليون، الفلسطينيين بالصراصير، والحشرات، والسرطان، وبطبيعة الحال، “الإرهابيين”. وهو مصطلح شامل يمنح إسرائيل الإذن بمهاجمة أي فلسطيني في أي مكان. وقد تصاعدت وتيرة التجريد من الإنسانية والإذلال منذ السابع من أكتوبر.
ومؤخرًا، على سبيل المثال، قام جيش الدفاع الإسرائيلي باحتجاز المدنيين الفلسطينيين -“الذين لا صلة لهم بحماس” – وهم يرتدون ملابسهم الداخلية. كان من الضروري تجريد هؤلاء الرجال، كما أوضح أحد كبار مستشاري رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو؛ بسبب الطقس الدافئ في غزة.
لقد كانت الإهانة و”التسفير” القسري للفلسطينيين هدفًا مهمًا للقادة الإسرائيليين لعقود من الزمن. نتنياهو، على سبيل المثال، دعا إلى “الطرد الجماعي للعرب من المناطق الفلسطينية”، وقد أتاحت له حرب الإبادة في غزة ذريعة طال انتظارها للقيام بذلك.
ومؤخرًا، نصحت حكومة الولايات المتحدة إسرائيل بأن غزة يجب أن تظل فلسطينية. وفي شهر نوفمبر، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن: “لا إعادة احتلال لغزة بعد انتهاء الصراع. لا توجد محاولة لحصار غزة. لا يوجد تقليص في أراضي غزة”. ومع ذلك، فإن إسرائيل مصرّة على استمرار سياستها في التمييز العنصري، وإهانة الفلسطينيين وإبادتهم في عقر دارهم.
التصريحات الجوفاء
تبدو التحذيرات الأميركية جوفاء، فإسرائيل ماضية في تجاوزها الخطوطَ الحمراء التي وضعتها الإدارة الأميركية بشكل متكرر، ونتيجة ذلك فإن الولايات المتحدة تعاني من الإهانة تلو الأخرى. هذا التصرف الذي دعا كبار المسؤولين الأميركيين في زياراتهم المتكررة إلى إسرائيل، للحثّ على ضبط النفس، وكل رحلة تبدو أعقم من سابقتها، حتى إن المسؤولين الأميركيين يظهرون، وكأنهم لا يستوعبون حقارة اللعبة الإسرائيلية.
يكفي أن نتنياهو كشف عن نواياه بشكل واضح للغاية: ” إسرائيل ستفعل ما تحتاج أن تفعله”، بغض النظر عن أي تفكير بالتمنّي من الولايات المتحدة، وهو بذلك لا يسيء إلى الولايات المتحدة، فقط، وإنما إلى المجتمع الدولي بكامله.
من ناحية أخرى، تدين دول العالم نفاق أميركا ومعاييرها المزدوجة تجاه الفلسطينيين، فهي من جهة تشجّع ” المساعدات الإنسانية”، ومن جهة أخرى، تقوم بتقديم المعلومات الاستخبارية والأسلحة إلى إسرائيل؛ مما مكّنها من الاستمرار بذبح الأبرياء من الفلسطينيين.
لقد أطلقت إسرائيل أكثر من 30 ألف قذيفة “جو- أرض” على غزة، وكان نصفها تقريبًا عبارة عن “قنابل غبية”، مصممة لإلحاق أقصى قدر من القتل والأضرار في صفوف المدنيين الفلسطينيين. ومنذ 7 أكتوبر زوّدت الولاياتُ المتحدة، إسرائيلَ بعشرات الآلاف من القذائف المدفعية، والقنابل “الخارقة للتحصينات”، تزن كل قنبلة منها 2000 رطل.
تبرز ازدواجية الولايات المتحدة ومعاييرها، عندما تستخدم حق الفيتو، وتعارض وقف إطلاق النار تحت ذريعة أن هذه القرارات غير متوازنة، هذا بالرغم من أن مصالح الولايات المتحدة تتباعد بسرعة عن مصالح إسرائيل، ومع ذلك تظل الولايات المتحدة العامل الأكبر في استمرارية هذه المذبحة، وتمكين إسرائيل وإعطائها “الضوء الأخضر”.
الاستمرار في المذبحة
ويبدو أن إسرائيل عازمة على الاستمرار بهذه المذبحة، وحصار الفلسطينيين، وقطع كل الإمدادات من المياه والأدوية، والكهرباء، والمواد الغذائية، والوقود. وقد أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” (HRW)، إلى هذه الحرب النفسية في قطع المساعدات الإنسانية، وأوضحت أن تصرفات إسرائيل تعد جريمة حرب.
وتقول الأمم المتحدة: إن 576600 شخص من سكان غزة يعيشون في مستوى مجاعة “كارثية”. ويشير برنامج الأغذية العالمي إلى أن 90% من سكان غزة يعيشون بانتظام دون طعام لمدة يوم كامل.
على الرغم من أن الحرب في غزة مزعجة للغاية، فإنها خلقت فرصة فريدة لصانعي السلام. ولقد حان الوقت لحكومة الولايات المتحدة أن تتخذ قرارات شجاعة، منها التوقف عن إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، تلك الأسلحة التي تبيد الأبرياء، وأن تمارس ضغطها لجلب الإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات.
إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في إنشاء دولة إسرائيل قبل خمسة وسبعين عامًا، يجب أن يكون دورها الآن مماثلًا في الاعتراف بحق الفلسطينيين في تحديد مصيرهم.
وفي الاختيار بين الإبادة أو إقامة الدولة، يجب على الولايات المتحدة أن تكون الداعم الرئيسي في العالم لحل الدولتين، فهذا يعد الطريق الوحيد لتطبيق السلام في الشرق الأوسط.
—————-
هذا المقال والآراء التي وردت أعلاه تعبّر عن آرائي الخاصة.