فلسفة الانتصار الكلي
تقول الرواية التوراصهيونية إن موسى عليه السلام كان أول من مارس سياسة سحق العدو، فعندما عاد من جبل سيناء ومعه الوصايا العشر، وجد قومه يعبدون العجل الذهبي فأمر بذبح المذنبين عن آخرهم. وقبل موته قال لأتباعه وهم على وشْك دخول أرض كنعان في آخر الأمر، إنه يجب عليهم عندما يهزمون قبائل كنعان “أن يدمروهم تدميرًا كليًا وألا يقيموا معهم عهدًا وألا يظهروا لهم أية رحمة”. وهنا بحسب زعمهم بدأت شلالات الدم في التدفق، ولن تتوقف حتى تحقيق النصر الكلي المزعوم.
تؤمن العقيدة العسكرية الإسرائيلية بأن “العدو العربي المرهوب” يجب سحقه بصورة كاملة، كما تؤمن بأنه إذا تُركت جمرة واحدة مشتعلة مهما كان احتراقها داكنًا خافتًا فإن نارًا ستندلع منها في آخر الأمر. وبحسب هذه العقيدة المتطرفة فإن التوقف في وسط الطريق يؤدي إلى خسارة ما هو أكثر مما لو كانت الإبادة كلية، فالعدو العربي سوف يتعافى وسيبحث عن الانتقام، فسحقه كليًا ووجوديًا هو الحل الأكثر نجاعة.
كما أن تركه – أي العدو – يذهب سيكون كتربية نمر سيلتهم إسرائيل فيما بعد إذا ما سنحت له الفرصة، وما يحدث داخل قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم أكبر دليل على سياسة الاجتثاث والاقتلاع الممنهجة التي تمارسها إسرائيل على “أعدائها وغرمائها اللِداد”.
إنّ رفع شعار “سحق العدو” يمثل ثابتًا إستراتيجيًا في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، فلا يمكن تحقيق الأمن والسلام الأبديَين اللذين تأمل إسرائيل في الحصول عليهما من الأعداء إلا عبر اختفاء أولئك الأعداء، وهذا الاختفاء يتطلب وجبات من الأشلاء البشرية المقطعة وأنهارًا من الدماء المسكوبة التي تروي خارطة إسرائيل الكبرى.
وبالعودة إلى تاريخ إسرائيل الدموي، وبحسب إحصائيات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فقد تم تهجير حوالي 750 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، كما تم تدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية بالكامل خلال حرب 1948، وما بعدها، وقد بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين 6 ملايين لاجئ، موزعين على دول الطوق: (الأردن، ولبنان، وسوريا).
كما بلغ عدد النازحين داخليًا، وفقًا لتقارير حقوق الإنسان حوالي 400 ألف، ويقدر إجمالي الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها إسرائيل حتى العام 2023، بما يزيد عن 85% من الأراضي الفلسطينية التاريخية، حيث يُترك للفلسطينيين الآن أقل من 15% من الأراضي، وهي موزعة على الضفة الغربية وقطاع غزة الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في أكبر إبادة وتجريف بشري وجغرافي، حيث بلغ عدد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل 3123 مجزرة، كانت محصلتها أن بلغ عدد المهجّرين من قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول حوالي 1.7 مليون نسمة؛ أي ما نسبته 83% من سكان غزة.
كما بلغ عدد القتلى أكثر من 41 ألف فلسطيني، بينهم أكثر من 15 ألف طفل، وحوالي 10 آلاف امرأة، كما تم تدمير أكثر من 66% من البنية التحتية للقطاع، ولتدعيم سيطرتها المطلقة على الأراضي الفلسطينية المصادرة اعتمدت الحكومات الإسرائيلية على “قانون أملاك الغائبين”؛ لمصادرة ممتلكات الفلسطينيين الذين هُجروا أو نزحوا عن قراهم ومدنهم، وها هي اليوم تقوم بترويج الإعلانات الاستيطانية في جنوب لبنان والتي تمثل الحدود الطبيعية لإسرائيل الكبرى.
أدركت إسرائيل وعبر عشرات السنين من الحروب مع العرب والفلسطينيين أن الوصول إلى الانتصار الشامل والكلي لن يتأتى إلا بالقضاء على ذلك الشعب الذي تسعى إلى قتله وإبادته، وعليه لا بدَّ من سحقه وحرمانه من فرصة العودة، والقانون الذي يحكم العداوات القاتلة ينصّ على أن “الصلح غير وارد”، بحيث لا يمكن أن يفوز إلا جانب واحد – وهو الجانب الإسرائيلي – ويجب أن يفوز كليًا.
الأركان الداخلية للنصر الكلي والشامل
دأبت إسرائيل، خلال تاريخها سيئ السمعة، على استخدم أبشع الأدوات للقضاء على خصومها؛ ظنًا منها أن تلك الأدوات ستؤدي إلى تقريب الحصول على “النصر الكلي المزعوم”، فقد عمدت إلى استخدام الأدوات العسكرية والاستخباراتية والقانونية.
إن تاريخ الاغتيالات في إسرائيل، والذي يعد أبرز أشكال البلطجة العسكرية والأمنية، مرتبط ارتباطًا عضويًا بوجودها، فقد عمدت إلى الاغتيالات السياسية منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية، فلم تتوانَ في صيد كل الأهداف التي قد تقف حجر عثرة في وجه “مشروع النصر الكامل”، ومن أشهر تلك الاغتيالات كان اغتيال الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس في 22 مارس/ آذار 2004، في هجوم صاروخي شنته الطائرات الحربية الإسرائيلية، واغتيال الرئيس ياسر عرفات مسمومًا في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، بعد فترة من حصاره في مقر المقاطعة برام الله وسط الضفة الغربية.
ويعدّ اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 31 يوليو/ تموز 2024 في طهران استعراضًا قويًا للموساد الإسرائيلي، ورسالة واضحة وجلية لإيران وأذرعها في المنطقة بأن “الرعب المقيم” هو المحصلة النهائية لكل من يقف أمام إسرائيل، على الرغم من أن الاغتيال لا يمثل قيمة مضافة للأهداف الإستراتيجية، وهو ما طرح سؤالًا محوريًا حول جدوى اغتيال الشهيد إسماعيل هنية.
وتعود بنا الذاكرة إلى اغتيال القيادي بحركة حماس محمود المبحوح في 19 يناير/ كانون الثاني 2010، حين شكّل الموساد فريقًا من 26 فردًا لإتمام العملية، وكذا حاولت إسرائيل اغتيال القائد العام العسكري لكتائب القسام محمد الضيف (ابن الموت) أو (سيد التمويه) والذي أصاب إسرائيل بصداع مزمن لأكثر من ثلاثين عامًا، ولكن ما انفكت حركة حماس تشكك في الرواية الإسرائيلية وتنفيها مرارًا وتكرارًا.
ثم تم اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مشهد يحبس الأنفاس مع مجموعة كبيرة من مساعديه وقادة الحزب، حيث تم توجيه سرب من المقاتلات الجوية، يحمل الرقم 69، ويعرف باسم “المطارق” في عملية تم تسميتها بـ “نظام جديد”، شاركت فيها أيضًا مقاتلات إسرائيلية من طراز “إف -15″، ومثل ذلك ضربة موجعة للحزب، وتلا ذلك استهداف الأمين العام المعين لحزب الله السيد صفي الدين الهاشمي، وغيرهم الكثير من القيادات السياسية والعسكرية.
بالإضافة إلى أداة الاغتيالات، اتكأت السياسة الإسرائيلية في تحقيق “نصرها الشامل” على الأدوات الإدارية المتمثلة في الاعتقالات الإدارية، وهي ممارسة تسمح باعتقال الفلسطينيين لفترات طويلة دون محاكمة بناء على أدلة سرية.
فوفق مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان بلغ عدد الأسرى في السجون الإسرائيلية أكثر من 10 آلاف سجين، شكل المعتقلون الإداريون 3332 سجينًا، وشكّل الأطفال الأسرى نحو 240 طفلًا، ناهيك عما تم تسريبه من الانتهاكات القانونية والفضائح الجنسية بحق المعتقلين الغزيين في سجن أبو غريب الإسرائيلي “سدي تيمان” القابع في صحراء النقب، حيث أكد نادي الأسير الفلسطيني فظاعة تلك الانتهاكات، حيث يواجه المعتقلون معاملة وحشية وعمليات تعذيب ممنهجة أدت إلى بتر أطرافهم.
“الهروب إلى الأمام” هو أحد أدوات إسرائيل لتحقيق النصر الشامل، وهو يعني افتعال الأزمات أو تصديرها وخاصة أثناء فترات التهيج داخل البيت الإسرائيلي؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. إذ تلجأ عند ذلك إلى العمليات العسكرية واسعة النطاق، ومن بين ذلك عدة حروب ضد غزة: في 2002 جاءت ما سميت بعملية “السور الواقي”؛ ردًا على الهجمات الانتحارية المتكررة داخل إسرائيل في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وكذا حرب 2008 فيما سمي بعملية “الرصاص المصبوب” بعد تصاعد الهجمات الصاروخية من القطاع والتي أرادت إسرائيل من خلالها تقويض حركة حماس، وتعزيز أمنها الداخلي، بالإضافة إلى حرب 2014 فيما سمي بعملية “الجرف الصامد” عندما شن الجيش الإسرائيلي عملية واسعة النطاق ضد قطاع غزة بعد تصاعد التوترات؛ بسبب مقتل ثلاثة مستوطنين إسرائيليين.
لبنان وجنوبه اكتويا أيضًا بنار الطاووسية الإسرائيلية، سواء في حرب لبنان الأولى 1982، أو حرب لبنان الثانية 2006، ففي الأولى كانت إسرائيل تواجه تحديات داخلية متعلقة بالأمن في شمال البلاد؛ بسبب الهجمات التي شنتها الفصائل الفلسطينية من لبنان، كما كانت هناك توترات داخلية سياسية واقتصادية، حين قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن، ووزير الدفاع أرييل شارون شن عملية عسكرية واسعة ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، استغلت الحكومة الإسرائيلية التوترات على الحدود لتوحيد المجتمع الإسرائيلي وتخفيف الضغوط الداخلية.
أما في الحرب الثانية فقد شنت إسرائيل حربًا شاملة على لبنان، وفرضت عليه حصارًا بحريًا وجويًا، وأسفرت المعركة عن سقوط 165 قتيلًا إسرائيليًا، ودفعت إسرائيل إلى مفاوضات غير مباشرة مع حزب الله تمت في 2008، ثم انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان بمقتضى القرار الأممي رقم 1701.
ووفق تامير هايمان مدير معهد دراسات الأمن القومي ورئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلي السابق، فإن حرب لبنان الثانية تعد فشلًا سياسيًا وعسكريًا واستخباراتيًا، فقد كشفت عن خلل بنيوي داخل إسرائيل على المستوى القيادي بشقيه السياسي والعسكري والاستخباراتي، وهو الخلل الذي أكّده “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم.
من الجدر الداخلية إلى القلاع الخارجية
تؤمن إسرائيل يقينًا بأن المحيط الذي تعيش فيه، سواء الداخلي أو الخارجي، لن يتقبلها وسيلفظها عاجلًا أم آجلًا. والأعداء يحيطون بها من كل مكان، فعمدت إلى “ابتلاع الأرض بلا تردد” عبر إنشاء جدار الفصل العنصري في يونيو/ حزيران 2002. حيث شرعت حكومة أرييل شارون ببنائه على امتداد خط الهدنة (الخط الأخضر) لعام 1949 بطول 713 كيلومترًا، ليصل في نهايته إلى جنوب القدس.
لكن التجارب المهينة التي خاضتها إسرائيل في حروبها ومناوشاتها المختلفة، سواء مع المقاومة الفلسطينية في الداخل أو مع إيران عبر أذرعها في المنطقة، كحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، جعلتها تعيد صياغة إستراتيجية “الجدر الداخلية” فانطلقت نحو الخارج عبر تفعيل سياسة الاصطفاف الإقليمي، وبناء التحالفات مع بعض الدول العربية، انطلاقًا من فكرة أن العدو الداخلي يمكن موازنته بحليف خارجي، وأن البحث عن الأمن في العزلة سيؤدي في النهاية إلى تمرد “العدو المرهوب”.
وجاءت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لتُجبر إسرائيل على تغيير إستراتيجياتها السياسية والعسكرية، لتنتقل من حياكة المؤامرات والدسائس من تحت الطاولة إلى المجاهرة بالبلطجة العسكرية التي تكاثرت كما يتكاثر الفطر بعد المطر.
وقد أدرك الإسرائيليون المبدأ الميكافيلي القائل: “بناء الجدران يقود إلى العزلة والخطر”؛ لأنها تصبح أهدافًا سهلة لأعداء بانيها. وفي النهاية، تتحول هذه الجدران إلى سجن رغم مظهرها المنيع، لذا كان لا بدّ من التوجه إلى بناء القلاع الخارجية.
المجازر والقلاع خارج الحدود
لتحقيق هذه الغاية، ارتكبت إسرائيل المجازر المروعة في قطاع غزة منذ بدء الحرب. فقد هدمت أكثر من 87 ألف وحدة سكنية، وأكثر من 1000 مسجد، بالإضافة إلى 334 جامعة ومدرسة. كما دمرت نظام الرعاية الصحية عبر هجمات مباشرة على المستشفيات والمرافق الصحية، وقتلت العاملين في مجال الرعاية الصحية، وفرضت حصارًا خانقًا على الإمدادات الطبية ومنعتها من دخول غزة.
وقد أفادت منظمة الصحة العالمية ولجنة الإنقاذ الدولية بأن ثلث مستشفيات غزة فقط تعمل بشكل جزئي على الأقل. وأعلنت وزارة الصحة في غزة أن نظام الرعاية الصحية قد “انهار تمامًا”، وأنه لم يتبقّ سوى مستشفيين يعملان جزئيًا من أصل 36 مستشفى في القطاع. وحتى مايو 2024، وثّقت منظمة الصحة العالمية 450 هجومًا إسرائيليًا استهدفت نظام الرعاية الصحية في غزة.
لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل امتد هوسها بتحقيق الأمن الشامل ليشمل لبنان، وسوريا، والعراق، وإيران واليمن، ومن يدري فقد تطول القائمة فتضم دولًا عربية أخرى. وبات “البعبع الإسرائيلي” يجول بلا رادع في المنطقة، فيما ازدادت نبرة الخطاب الإسرائيلي تعجرفًا وتعاليًا ضد أعدائها.
وكانت ترجمة ذلك استباحة الجنوب اللبناني، ومحاولة التوغل البري فيه، وقصف ميناء الحُديدة في اليمن، واستهداف إيران في عمق أراضيها، واغتيال إسماعيل هنية في طهران. هذه العمليات ما هي إلا ترجمة حقيقية للخطاب السياسي الإسرائيلي المتعالي.
هوس الانتصار الكلي
من يتأمل بنيامين نتنياهو وهو يقدم دروسًا في الجغرافيا السياسية في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 78 من خلال حمله لخارطة الشرق الأوسط، والتي تمحورت حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره في تغيير الشرق الأوسط الجديد، يعلم تمام العلم أن المنطقة آيلة للتغيير الإستراتيجي، فقد شملت الخارطة التي أظهرها نتنياهو مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل، أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقات سلام مع إسرائيل.
وفي الدورة الـ79 للجمعية العامة، أعاد نتنياهو الكرة، لكن هذه المرة بلهجة تتقيأ سُمًّا، مستخدمًا خارطتين: الأولى كتب عليها “البركة”، والثانية كتب عليها “اللعنة”، في إشارة إلى دول محور الشر كما يصفها. وصرّح نتنياهو: “إسرائيل في حالة حرب وتقاتل من أجل البقاء”، وأردف: “لا بد لنا أن ندافع عن أنفسنا في مواجهة هؤلاء القتلة المتوحّشين. أعداؤنا لا يسعون فقط إلى تدميرنا، بل إلى تدمير حضارتنا المشتركة وإعادتنا جميعًا إلى عصر مظلم من الطغيان والإرهاب”.
اللافت في الخارطتين كان غياب أي إشارة إلى قطاع غزة، في حين أكد نتنياهو: “إسرائيل ستواصل القتال في غزة إلى أن تحقق النصر الكامل، وستواصل ضرب لبنان إلى أن تحقق هدفها بإعادة مواطنيها بأمان إلى منازلهم في الشمال”.
هذه النبرة المتعالية وهذا التصعيد في الخطاب السياسي الإسرائيلي في قلب الأمم المتحدة ما هو إلا تحدٍّ صارخ وعدواني للقانون الدولي، ويعكس فرط دلال إسرائيل السياسي أو فرط “عربدة الطفل المدلل” الذي يتلقى دعمًا مطلقًا من حكومة جو بايدن، الذي وصف طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين بأنه “شائن”.
ولا ننسى ما صرح به السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام من أنه “يجب على محكمة العدل الدولية أن تذهب إلى الجحيم”، وذلك بعد إدراج بنيامين نتنياهو ضمن زعماء العالم المنبوذين دوليًا. ولا يخفى أن الولايات المتحدة تعد أكبر مورد للأسلحة لإسرائيل، إذ توفر نحو 68% من إجمالي الأسلحة الأجنبية التي تحصل عليها.
تواطؤ أوروبي في دعم إسرائيل
لم يقتصر الدعم غير المحدود لإسرائيل على الولايات المتحدة، بل امتد ليشمل الدول الأوروبية، التي ما فتئت تدعم إسرائيل جهارًا نهارًا ضاربة عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية، فألمانيا تصدّر حوالي 30 بالمئة من الأسلحة لإسرائيل، فيما تتفاوت النسب بين بريطانيا، وإيطاليا، وأستراليا. وعلى الرغم من أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أقر حظر بيع الأسلحة لإسرائيل، وصوتت 28 دولة لصالح القرار، فإن الولايات المتحدة، وألمانيا تواصلان تزويد إسرائيل بالأسلحة.
وهذا ما أكده المفوض السامي للشؤون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عندما قال: “من السهل أن نفهم أن هناك دولًا، ولأسباب تاريخية واضحة، مستعدة لتزويد إسرائيل ليس فقط بالأسلحة، بل بالتسامح والدعم الكامل لتصرفاتها الدفاعية أو الهجومية”. ولا بد من الإشارة في هذا المقام أنه وبحسب بيانات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، فإن إجمالي المساعدات الأميركية الملتزم بها لإسرائيل بين 1946 و2023 بلغ نحو 260 مليار دولار.
هذا الدلال السياسي غير المسبوق جعل إسرائيل دولة مارقة وفق الأعراف الدولية، تعتقد بأنها فوق القانون. ولكن عوضًا عن كبح غطرستها، أدخلها هذا الوضع في مرحلة من “الاعتيادية المزمنة والممنهجة والمتعمدة” لإظهار استخفافها العلني بمبادئ القانون الدولي وأحكام الهيئات القضائية الدولية التي صدرت بحق مسؤوليها.
وقد وصل الأمر إلى حد تهديد المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام نفسه، كما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس مؤخرًا أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش “شخصية غير مرغوب فيها” في إسرائيل.
التصدع الأخير أم النزع الأخير؟
اليوم، تقف إسرائيل حاسرة الرأس رغم مظهرها القوي، بعد أن بدأ الرأي العام العالمي ينفض عنها. لعقود، استثمرت إسرائيل مليارات الدولارات في ترويج مظلوميتها عبر سردية “الهولوكوست ومعاداة السامية”، وأنفقت مليارات الدولارات لتثبيت وشرعنة هذه المظلومية، لكن أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كشفت عن وجهها الحقيقي القبيح.
ومنذ بداية الحرب، اندلعت 4200 مظاهرة حول العالم احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي ودعمًا للفلسطينيين. وشملت الاحتجاجات أكثر من 95% من المتظاهرين الذين نددوا بالعدوان. في الولايات المتحدة وحدها، تم تسجيل 402 مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، وامتدت المظاهرات إلى 92 دولة حول العالم.
كما أن العديد من دول العالم، مثل إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج من القارة الأوروبية، بالإضافة إلى جامايكا، وترينيداد وتوباغو، وبربادوس، وجزر الباهاما من منطقة الكاريبي، قد اعترفت بدولة فلسطين. كذلك أقر برلمان سلوفينيا مرسومًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ووفقًا لبيانات السلطة الفلسطينية والإعلانات الصادرة من عدة حكومات مؤخرًا، فقد اعترفت 146 دولة من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة رسميًا بدولة فلسطين.
ومن الضربات القاسية لإسرائيل مؤخرًا تلقيها إخطارًا رسميًا بقضية ضدها تتهمها بممارسة الإبادة الجماعية، وهي أمّ الجرائم في القانون الدولي. وجاء هذا الإخطار عشية اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست، ما وضع إسرائيل في موقف حرج، ولطخ سمعتها عالميًا، وجعلها في الحضيض السياسي.
ويبدو أنّ الغطرسة الإسرائيلية لم تنتبه إلى الفوارق الدقيقة بين أعدائها. فهي لم تميز بين الذئاب والحملان، والثعالب والأرانب، والصقور ونسور الجيف. هذه الغفلة ناجمة عن انتشاء وهمي بالقوة، حيث تعتقد إسرائيل أنها تمسك بزمام الأمور بالكامل.
لكن هذا الوهْم جعلها غير مدركة أنها تغرق ببطء في رمال الغطرسة والفرعنة المتحركة. ولم تدرك أيضًا أنها بحاجة إلى اختيار خصومها وضحاياها بعناية، ونسيت أو تناست أن إهانة شرف الخصوم وعزة أنفسهم، تؤدي حتمًا إلى انفجار غير متوقع للعنف يكون مفاجئًا وكاسحًا.
أعظم الحمقى هم أولئك الذين يعادون العالم بسبب حماقاتهم الصبيانية. ومن يدري لعل قبائل كنعان التي بدأ منها شلال الدم تكون السبب في الوصول إلى الحلقة الأخيرة من مسلسل “النصر الكلي”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.