تسلّمت كامالا هاريس رسميًا راية حزبها الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ضد الرئيس السابق دونالد ترامب. وقد تسارعت الزعامات الديمقراطية للاصطفاف حول ترشحها بعد تراجع الرئيس بايدن عن الترشح نتيجة لضغوط سياسية قوية داخل حزبه.
إذا فازت هاريس في الانتخابات المقبلة، سترث عالمًا خارجيًا أكثر اضطرابًا مما كان عليه الحال قبل أربع سنوات؛ حيث زادت المخاطر الدولية والحروب المشتعلة في أوكرانيا، غزة، السودان، ومنطقة البحر الأحمر بعد الهجمات الحوثية الأخيرة.
هذه الأحداث العالمية الخطيرة، التي تهدّد السلم والأمن العالمي، جاءت متزامنة مع تغيُّرات متسارعة في العمليات السياسية الديمقراطية الغربية؛ بسبب أزمات اقتصادية واجتماعية حادّة، مثل: ارتفاع حجم الديون الحكومية، زيادة معدلات التضخم، ارتفاع أسعار السلع والخدمات، زيادة الهجرة غير الشرعية، وصعود التيار اليميني الذي يهدّد النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الديمقراطية في هذه الدول.
كل ذلك خلق شعورًا عامًا حقيقيًا حول اضطراب العالم في عهد الرئيس بايدن، رغم ما تبديه خطاباته السياسية من دعوات لنشر السلام، وحماية حقوق الإنسان. وهذا إرث سياسي وأمني خطير سيثقل كاهل كامالا هاريس.
عقيدة بايدن في السياسة الخارجية
يفتقر معظم الرؤساء الأميركيين عند دخولهم البيت الأبيض – عشية فوزهم في الانتخابات الرئاسية – إلى المعرفة العميقة بخبايا وتعقيدات القضايا الخارجية، والخبرات اللازمة لمعالجة الأزمات الدولية الطارئة. يعود ذلك إلى عدّة أسباب، منها ما يتعلّق بالثقافة الأميركية التي لا تُولي اهتمامًا كبيرًا بالسياسة الخارجية، نتيجة للبعد الجغرافي للولايات المتحدة عن مجريات الأحداث العالميّة.
غالبًا لا تتصدر القضايا الخارجية أولويات الناخبين الأميركيين إلا عند ارتباطها المباشر بالأوضاع المعيشية والاقتصادية في الولايات المتحدة، مثل: المعارضة الشعبيّة التي ظهرت لاحقًا ضد حرب فيتنام في القرن الماضي، وكذلك الاستياء الشعبي من نتائج الغزو الأميركي للعراق سنة 2003.
على العكس من سابقيه، جاء بايدن إلى البيت الأبيض رئيسًا منتخبًا بخبرة واسعة في العلاقات الخارجية اكتسبها من خلال عمله في مجلس الشيوخ الأميركي لعدة عقود، في لجنة السياسات الخارجية بالمجلس، خلال فترة الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
مما سمح له بالاطّلاع الدقيق على توجهات السياسة الأميركية العامة إزاء الاتحاد السوفياتي ووريثه الشرعي، دولة روسيا.
جاء بايدن إلى الحكم خلفًا للرئيس ترامب، وما صاحب حكم الأخير من هزّات قوية في سياسات الولايات المتحدة حيال روسيا ودول حلف الناتو العسكري بزعامة أميركا. إذ قامت سياسة ترامب على الاهتمام بالشأن الأميركي الداخلي أولًا وأخيرًا، ثم إقامة علاقات صداقة شخصية مع خصوم أميركا، مثل: رئيس كوريا الشمالية، والرئيس الروسي بوتين؛ رغبةً في تحقيق السلام بين أميركا وهذه الأنظمة.
لذلك، حاول بايدن جاهدًا منذ أيامه الأولى في الرئاسة الأميركية إعادةَ مسار العلاقات الخارجية لما كانت عليه قبل وصول ترامب إلى الحكم، ساعيًا لتأكيد استعادة دور أميركا القيادي في الأمن العالمي، ومواجهة طموحات وأطماع الرئيس الروسيّ بوتين.
استغلّ بايدن الحرب الأوكرانية لتوسعة حلف الناتو ليضمّ دولتي فنلندا والسويد كحلفاء جدد، مما يعمّق الوصول إلى حدود روسيا، وهو ما كان يستحيل تحقيقه قبل الحرب الأوكرانية.
كما ساهمت عقلية الحرب الباردة لدى بايدن في تأجيج الصراع في منطقة الشرق الأوسط عند نشوب نيران الحرب مرة أخرى في غزة، بعد كسر هيبة الجيش الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.
إذ قام بزيارة عاجلة إلى إسرائيل ليطمئنها بمساندته الراسخة لها، متجاهلًا المأساة الإنسانيّة والإبادة الفظيعة التي خلّفتها آلة الحرب الإسرائيليّة في غزة، رغم علم كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية بخطورة تداعيات هذه الحرب على الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، ومصالح الولايات المتحدة الحيوية فيها.
هل تتبنى هاريس عقيدة بايدن؟
ربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن احتمالية استمرار هاريس في تبنّي عقيدة بايدن في السياسة الخارجية، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، وهي لم تفز بعد بسباق الانتخابات، إلا أن التحديات الجسيمة في المنطقة تحتم على هاريس تبنّي مبادئ سياسية عامة قد تجعلها تختلف شكلًا لا مضمونًا عن سياسة بايدن الخارجية.
- أولًا، لا شك أن هاريس ستستمر في دعمها القوي لإسرائيل كما هو حال كافة الإدارات الأميركية منذ قيام دولة إسرائيل.
- ثانيًا، تدرك هاريس الأهمية البالغة لإيقاف الحرب في غزة حتى لا تخسر أصوات العديد من قطاعات الشباب الأميركي والمجموعات الليبرالية المناهضة للحرب. لقد أظهرت هاريس برودًا سياسيًا تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي في زيارته الأخيرة إلى واشنطن، مما يشير إلى سعيها لوضع نهاية سريعة للحرب المأساوية في غزة حتى لا يتسع نطاقها الإقليمي.
- ثالثًا، لا تدلّ المؤشرات الأولية على حدوث تغير جذري في موقف هاريس المستقبلي من القضية الفلسطينية، بما يساعد في إيجاد حل دائم وعادل لها. إذ لم تسمح قيادة حملة هاريس الانتخابية لأي متحدث باسم القضية الفلسطينية بمخاطبة مؤتمر الحزب الديمقراطي العام، مما أثار حفيظة بعض القيادات الفلسطينية الأميركية.
لكن ربما تدفع حاجة هاريس الماسّة لأصوات العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان الهامة إلى تقديم إجابات واضحة حول مستقبل سياستها الخارجية نحو منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا الحرب الدائرة في غزة.
بينما يعتقد البعض أن خلفية هاريس العرقية كأول امرأة سوداء مرشحة للرئاسة الأميركية، قد تجعلها أكثر تعاطفًا مع الأوضاع الفلسطينية المأساوية، بحكم العلاقات التاريخية بين الأقلية السوداء الأميركية والقضية الفلسطينية، إلا أنه من المستبعد أن يكون لهذه الخلفية العرقية تأثير قوي على موقفها من القضية أكثر مما كان عليه الحال مع الرئيس السابق أوباما، الذي لم يقدم أي تغيير ملحوظ في القضية الفلسطينية، رغم علاقاته الشخصية الخاصة مع صديقه السابق البروفيسور رشيد خالدي، أحد القامات العلمية الفلسطينية البارزة في الولايات المتحدة.
وعليه، فإن عقيدة هاريس في السياسة الخارجية قد تكون أشبه بعقيدة الرئيس أوباما، التي تمثلت في تقديم خطاب إيجابي متعاطف مع معاناة الشعب الفلسطيني، مع الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية الخاصة مع دولة إسرائيل.
لقد أصبح العالم أكثر اضطرابًا في عهد الرئيس الأميركي بايدن، الذي تجاوز الثمانين من العمر، نتيجة لعقيدته المتأثرة بمنطلقات الردع العسكري والأمني الأميركي في فترة الحرب الباردة. الأمر الذي ربما يدفع هاريس للتخلي عن هذه العقيدة من أجل إعادة الاستقرار والسلام العالمي، حتى لا تخرج الحروب المشتعلة عن نطاق السيطرة عليها. ولكن الأمر يعتمد أيضًا على مدى استجابة القوى الدولية الأخرى في الشقّ الآخر من معادلة الأمن الدولي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.