Published On 28/8/2025
|
آخر تحديث: 13:56 (توقيت مكة)
بينما يعيش مئات الآلاف من سكان غزة تحت القصف وتهديد النزوح، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في 27 أغسطس/آب خريطة عبر منصة إكس، قال: “إنها تُظهر مناطق شاسعة وخالية في جنوب ووسط القطاع تصلح لإقامة مخيمات نزوح ومراكز إغاثة”، مؤكدا أن إخلاء مدينة غزة لا مفر منه، وأضاف أن الجيش بدأ بالفعل إدخال الخيام وتمهيد الأرض لمدّ خط مياه وإنشاء مجمعات لتوزيع المساعدات الإنسانية.
#عاجل ‼️بيان مهم إلى سكان قطاع غزة وتحديدًا في مدينة غزة وشمال القطاع بخصوص ما ينشر من إشاعات كاذبة بأنه لا يوجد مكان فارغ في جنوب القطاع لانتقال السكان
⭕️قبيل التحول إلى المرحلة التالية في الحرب أود أن أؤكد بأن هنالك مناطق شاسعة فارغة في جنوب القطاع كما هو الحال في مخيمات… pic.twitter.com/SfApZFZKYb— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) August 27, 2025
لكن هل كانت تلك الرقع المظللة على الخريطة حقا أراضي خالية وجاهزة لاستقبال النازحين، أم أن الواقع على الأرض مختلف تماما؟ من هذا السؤال انطلق فريق التحقيقات في وكالة سند للتحقق بشبكة الجزيرة، فأجرى إرجاعا جغرافيا للخريطة وقارنها بصور أقمار اصطناعية حديثة، بحثا عن الحقيقة خلف الادعاء.
أظهر التحليل أن الخريطة الإسرائيلية تضم 38 قطعة أرض فقط: 8 في محافظة خان يونس، و30 في دير البلح بمساحة إجمالية لا تتجاوز 7 كيلومترات مربعة، بينما سكان الشمال المهددين بالنزوح من شمال القطاع بمئات الآلاف.
وعند مطابقة هذه الرقع مع أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش منذ استئناف عملياته العسكرية، تبين أن 29 قطعة من أصل 38 تقع داخل مناطق شملتها بالفعل إنذارات الإخلاء.
هنا يظهر التناقض الصارخ؛ كيف يمكن دعوة المدنيين للانتقال إلى مواقع يعتبرها الجيش نفسه مناطق غير آمنة ويطالب بإخلائها مسبقا؟

لكن الأهم أن هذه الرقع لم تكن كما صورها الاحتلال بأنها “مناطق شاسعة وخالية” جاهزة لاستيعاب النازحين، بل بدت متباينة في طبيعتها، بين ملكيات خاصة محاطة بالأسوار، ومكبات نفايات مكشوفة، وأحياء عمرانية مكتظة، فضلا عن مناطق تعج أصلا بخيام النازحين أو تستخدم في النشاط الزراعي.
التحقيق أظهر أن غالبية هذه الرقع مشغولة بدرجات متفاوتة، ففي خان يونس مثلا، بدت أربع مناطق ممتلئة بالكامل وأربع أخرى مشغولة جزئيا، أما النصيرات، فإحدى الرقعتين فيها تكاد تكون ممتلئة تماما بينما الثانية مشغولة جزئيا، وفي مخيمَي البريج والمغازي، ظهرت منطقة واحدة مكتظة كليا، و4 مناطق أخرى مشغولة جزئيا.
المشهد لم يختلف كثيرا في الزوايدة حيث بدت رقعة واحدة ممتلئة بالكامل، في حين الست الباقية مشغولة بنسب متفاوتة، بينما في دير البلح بدت 3 مناطق ممتلئة تماما، والرقع الـ13 المتبقية مأهولة بدرجات متفاوتة.
وبحسب صور الأقمار الاصطناعية، تجاوزت نسب الإشغال في بعض هذه المواقع 80%، مما ينفي عمليا وصفها بأنها “أراض خالية” صالحة لاستيعاب نازحين جدد.
ولم يقتصر الأمر على الاكتظاظ السكاني، بل كشفت المطابقة البصرية أن كثيرا من الرقع التي ظللها الجيش الإسرائيلي باللون الأزرق هي في الحقيقة أراض مسورة تشير إلى ملكيات خاصة غير متاحة، وبعضها يحتوي على نشاط زراعي قائم، الأمر الذي يطرح علامات استفهام إضافية حول إمكانية تحويلها إلى مخيمات.

كما كشفت صور الأقمار الاصطناعية أن بعض الرقع التي وصفت بأنها “خالية” ليست سوى مكبات نفايات أو مواقع لتجميع الأنقاض، وهو ما يجعلها غير صالحة للسكن البشري الفوري، ولا يمكن أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى أماكن لإقامة خيام أو مراكز إغاثة.

وبينما ادعى جيش الاحتلال أن بعض الرقع تصلح لإقامة مخيمات نزوح، أظهرت المطابقة البصرية أنها في الحقيقة أحياء قائمة ومكتظة بالمباني، وهذه المناطق العمرانية المزدحمة لا تترك أي مجال لإقامة خيام جديدة أو إنشاء مرافق إغاثية، مما ينسف فكرة اعتبارها أراضي خالية.

وفي مواقع أخرى، لم تكن الرقع خالية كما روج لها، بل كشفت صور الأقمار الاصطناعية عن وجود خيام وملاجئ مؤقتة قائمة بالفعل، بمعنى أن المساحة التي أعلنت كمناطق نزوح جديدة هي في الأصل مأهولة بالنازحين، باستثناء بعض قمم الكثبان الرملية في مواصي خان يونس، وهي مناطق وعرة يستحيل عمليا تثبيت الخيام فوقها.

كما اتضح أن بعض الرقع التي صنفت أراضي خالية تستخدم فعليا في النشاط الزراعي، وهذا يثير تساؤلا جوهريا: كيف يمكن وصف هذه الأراضي بأنها فارغة وهي في الواقع تشكل مصدرا نادرا للغذاء وسط مجاعة خانقة يعيشها القطاع؟ كما أن تحويلها إلى مخيمات نزوح لا يعني فقط حرمان السكان من ملاذ بديل، بل أيضا خسارة مساحات زراعية حيوية تمثل أحد مقومات البقاء القليلة المتبقية.

ويخلص التحقيق إلى أن توصيف الجيش الإسرائيلي لما سماه “المناطق الخالية” يتجاهل الواقع على الأرض، فالمساحة الإجمالية التي لا تتجاوز 7 كيلومترات مربعة لا تصلح عمليا لإقامة خيام أو إنشاء مرافق أساسية للنازحين، إذ تتوزع بين أراض تحتاج إلى تهيئة هندسية وخدماتية معقدة، وأخرى غير متاحة أصلا بسبب الملكية الخاصة أو الاكتظاظ القائم فيها.
وبذلك يتبين أن الخطاب العسكري عن “مساحات جاهزة” لم يكن سوى صورة على الورق، سرعان ما انهارت أمام التدقيق بالأقمار الاصطناعية ومعاينة الوضع الميداني.