تحت عنوان مشابه (فلاديمير بوتين ومستقبل العالم الجديد)، حرّرت جملة من المحاور التي أرى أن العالم الجديد ماضٍ إليها، وأرصد طريقة حركته وتحولاته: (السلبية والإيجابية، الفعالة والكامنة، العلنية والسرية، السلمية والحربية، الاقتصادية والسياسية). من يقف وراء هذه التحولات من مؤسسات دولية “رسمية وخفية” تعمل أو تعبث بالفضاء الدولي، وتحدث الكثير من التقاطعات المتناقضة، تجعل من الصعوبة فهمها والربط بينها.
الدور الذي يلعبه “بوتين” في إحداث تغيير عالمي، وفق رؤية روسية إستراتيجية، يتقاسم الأدوار فيها مع شركاء ما يسمى “العالم الجنوبي” وعلى رأسهم “الصين”.
لكن إزاء شخصية ترامب، نجد أنفسنا أمام قراءة مختلفة، وذلك كونه “رجل مرحلة”، ينافس على فترة رئاسية ويسعى لتحقيق مكاسب تنسجم مع شخصيته الاقتصادية، وطموحاته الذاتية، وإن كان ذلك تحت مظلة العمل لتحقيق مصالح وطنية.
وكما سجلت إعجابي بـ “المركزية” التي هي صفة ظاهرة في شخصية الرئيس بوتين، فالحال ذاته ينطبق على الرئيس ترامب الذي يتسم بالمركزية في القيادة الإدارية. هذه المركزية تساعد على وضوح المشهد “وإن كان سلبيًا”، بعيدًا عن خداع الديمقراطيين “من أوباما إلى بايدن” ومن قد يصل بعدهما إلى الحكم.
فالمشهد العالمي والتحولات الدولية يستلزمان رؤية واقعية مبنية على مراجعة الملفات الأكثر “سخونة وحيوية” بالنسبة لعالمنا العربي وللمملكة العربية السعودية، في مسارها الإقليمي، والتي تتعامل معها بحذر ومنطقية، في سياق المشاريع التنموية، وما يقابلها من تشكلات لنظم إقليمية في محيطنا الخليجي”.
هذا موضوع ورقة علمية أقوم على إعدادها لمؤتمر دولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بحول الله تعالى.
قد يكون من المجازفة الحديث عن “ترامب” في هذا الاتجاه ليس فقط لكون ذلك استباقًا لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بل وحتى بالنظر في التحديات التي تواجه مسيرته إلى البيت الأبيض مرة أخرى، وذلك لاعتبارات ثلاثة رئيسية.
التحديات الرئيسية في مسيرة ترامب الانتخابية
الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 تكشف لنا دقائق الواقع الأميركي، وخفايا مكوناته المتداعية {الديمقراطية والمدنية}. وتجعلنا ندرك أننا نتعامل مع الولايات المتحدة بناء على خيالات مبهرة توارثناها منذ السبعينيات، لكنها في الحقيقة تعيش اليوم حالة من التراجع.
من جانب آخر، الانتخابات الأميركية الحالية تجري بين الديمقراطيين والترامبيين، لا الجمهوريين؛ فالحزب الجمهوري لا يملك أجندة عمل واضحة، وقد فقد رواده الأساسيين “آل بوش” ورفاقهم جيل رونالد ريغان، وقد أصبح يعيش مرحلة “فقدان للهوية” يعتبر فيها ترامب منقذًا إلى حين تتشكل توجهات جمهورية جديدة.
هذا يختلف عن حال الديمقراطيين، الذين يتحركون وفق “عقيدة” أسَّسَ لها أوباما ومجموعته، ولا تزال فاعلة ولها انعكاسات سلبية على الداخل الأميركي “أخلاقيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا”. ولذلك فالمعادلة الترامبية الأقرب للفوز في المشهد الأميركي الراهن، في ضوء الحضور الباهت للديمقراطيين، والتهديدات بحدوث أزمة أميركية داخلية قد تصل إلى “حرب أهلية” كما ألمح بعض الجمهوريين.
ومع ذلك فإن مسيرة ترامب للبيت الأبيض لا تزال تحفها المخاطر، فهي تقود أميركا لمرحلة عاصفة، والاحتقان الذي وفر بيئة لمحاولة اغتياله لا يزال قائمًا:
- اليهود عالقون بين ملفي أوكرانيا وغزة: تعامُل ترامب مع هذين الملفين سيكون وفق معادلة اقتصادية بالأساس، وهذا ما يرفضه الصهاينة من “الأميركيين والإسرائيليين”.
- رؤية ترامب للعلاقات مع أوروبا تجعل “الناتو” أمام تحديات التعامل مع “روسيا”، ليس فقط في مسار الملف الأوكراني بل في مسارات أوروبية أخرى ومنها ملف “البوسنة والهرسك”، أو ما يمكن تسميته “قوس عدم الاستقرار”، الذي يمر عبر شرق وجنوب شرق أوروبا.
فموسكو تواجه السياسة الغربية في هذه المنطقة من خلال تحالف روسي طويل الأمد مع قيادات “صربسكا” وهي أحد مكونات البوسنة والهرسك إلى جانب مسلمي البوسنة. ثم زاد هذا التحدي الروسي مع اندلاع الصراع في أوكرانيا. والخطر بالنسبة لدول الناتو هو احتمالية أن تتخلى أميركا عنها ولو جزئيًا، بعد أن غرقت في الوحل الأوكراني في مواجهة روسيا، مع ما سببه ذلك من مسارات سياسية واقتصادية معقدة. - الملف النووي الإيراني واحتمال تجديد ترامب لمشهد التصادم الذي ميز رئاسته الأولى بشأن الملف النووي، والتي كانت تحمل تحديًا للديمقراطيين أكثر منه للإيرانيين.
إيران حاليًا في مرحلة الحسم الإستراتيجي، والمحاصصة مع الجانب الإسرائيلي، في توزيع النفوذ في شمال الجزيرة العربية، وخاصة إن حدث “توافق فلسطيني” برعاية صينية، وسبق الحديث عن هذا في مناسبات علمية وإعلامية تحت عنوان “المرحلة العربية الراهنة ومآلات المستقبل”.
والمعنى أن إيران ليس لديها الوقت للتوقف مجددًا انتظارًا لانتهاء فترة ترامب في حالة تسلمه السلطة. كما أنه يستحيل أن تتراجع خطوات في مشروعها في المنطقة الذي وصل مرحلة “قطف الثمرة” بالتشارك مع إسرائيل، وبمباركة ضمنية من أميركا وفرنسا وبريطانيا.
الفوضى المحتملة
هذه التحديات التي تواجه ترامب، تجعل الداخل الأميركي في مواجهة عاصفة، فهناك من “اللاعبين المؤثرين” من لا يؤيدون وصوله للسلطة، وفي نفس الوقت، فإن احتمال خسارته كما جرى في 2020 تهدد بفوضى تفوق ما حدث وقت “تجربة اقتحام الكونغرس”، وهو ما هدد به ترامب منافسيه بالفعل، وهو ما يجعل الأمور تقف على حافة “الحرب الأهلية”.
المعركة محتدمة بين “الدولة العميقة” وترامب، وهي تحاول تصفيته معنويًا وسياسيًا من خلال المحاكم، وإذا فشل ذلك، فما الذي يمنع في مثل هذه الأجواء من الاحتقان والانقسام أن تتكرر محاولات التصفية الجسدية التي نسبت محاولتها الفاشلة إلى شابّ كاره لترامب؟
وبالرغم من هذا كله فالوضع الأميركي الصعب قد ينحاز في النهاية إلى الدفع بـ “ترامب” إلى الرئاسة لتجاوز المخاطر الآنية المحتملة، وترحيل المشاكل لفترة لاحقة.
فوضوية المتغيرات الترامبية
النزعة الفردية في اتخاذ القرارات هي أبرز سمات ترامب، وفريق عمله سيكون “تابعًا” أكثر منه استشاريًا فاعلًا. والحسابات السياسية لترامب تحكمها المنفعة الاقتصادية المباشرة، فهو لا يتحرك لحل أي ملف سياسي دون أن يقدم الطرف الآخر منافع اقتصادية للولايات المتحدة، ولن تكون أوكرانيا، ولا الأمن الأوروبي الشامل استثناء من هذه القاعدة، أما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فمساوماته في هذا الشأن صريحة.
ولهذا سيكون عدد من الملفات الحساسة والخطرة، في مواجهة الفوضوية الترامبية، ويتعين على أصحاب المصالح في هذه الملفات أن يتعاطوا مع هذا الواقع بحذر وجدية.
وهنا يعنينا تحديدًا الشأن الخليجي الذي يعاني تناقضات ذاتية منذ توقيع بعض دوله لاتفاقات تطبيع. ستكون المعادلة شديدة التعقيد للموازنة بين المصالح الإسرائيلية مع الدول المطبعة، والحق الفلسطيني وتداعيات مأساة غزة، وموقف باقي دول الخليج التي لم تنخرط في اتفاقات. وفي الطرف الآخر من المعادلة هناك إيران وملفاتها الشائكة الضاغطة على الأمن القومي الخليجي والعربي بحضورها المتمدد في اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان.
هل سيقبل ترامب أن يكون تابعًا لمشاريع الجنوب العالمي وفق منافع اقتصادية مشتركة؟
باستثناء دور وفاعلية منظمة شنغهاي للأمن والتعاون في المجالين السياسي والأمني، هناك عدد من المسارات الاقتصادية التي قد تجتذب “مزاج ترامب البراغماتي” للتوافق مع الصين وروسيا، ولا سيما لما لتلك المسارات والمنظومات من دور فاعل في إحداث التوازن العالمي، ومن ذلك:
- طريق الحرير الصيني والحزام الاقتصادي ومساراته الدولية: بالإضافة إلى التحالفات والشراكات المتعددة التي تصاحب هذا المشروع الكبير.
- مجموعة تحالف بريكس: التوسع السريع في عضويته وزيادة حجم الناتج المحلي الإجمالي لمجموع أعضائه، الذي تجاوز إنتاج مجموعة الدول السبع الكبرى.
- أوبك+: دوره في ضبط اتجاهات سوق الطاقة العالمي والتوازن بين العرض والطلب، قد يتنامى في حال التفاهم مع ترامب وفتح مسار موازٍ لقطاع الغاز.
ولكن سيبقى هناك خطان أحمران قد لا يقبلهما الجانب الأميركي، سواء كان ترامب أم غيره في مقعد الرئاسة، وهما:
- تقليص دور المؤسسات المالية الدولية التقليدية التي تخدم المصالح الغربية.
- الحد من هيمنة الدولار ونظام سويفت (SWIFT) على الحركة الاقتصادية الدولية.
كما يبرز عاملان قد يسهمان في تحقيق تفاهم روسي أميركي يفضي إلى تهدئة عالمية:
- الحد من الدعم الأميركي للمؤسسات الحقوقية العابرة للقارات: التي تنسجم مع القيم الغربية وأجنداتها الاجتماعية والثقافية والدينية، والتي تتعارض مع الأجندة الروسية التقليدية، وتلتقي مع توجهات ترامب الرافض للشذوذ والمثلية.
- التسوية السياسية لأزمة أوكرانيا: وهذا مهم جدًا للاستقرار العالمي. يدعمه التصريحات الأخيرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والتي جاءت في مسارين: الأول: القبول بمؤتمر دولي للسلام بمشاركة روسيا، وهذا تحول رئيسي. الثاني: تصريحه بعدم جدوى الحل العسكري للأزمة، وأن الحلول الدبلوماسية قد تكون ممكنة على المدى البعيد، وهذا أيضًا تحول إستراتيجي.
والتعويل سيكون على دور العلاقة الثنائية بين ترامب وبوتين لتخفيف حدة الموقف الروسي وثوابته بشأن السلام في أوكرانيا: (إزالة النازية، نزع السلاح، وضع أوكرانيا على الحياد السياسي، والاعتراف بالوضع الحالي للقرم، والمناطق الأربع جنوب شرق أوكرانيا).
التحديات المستقبلية لترامب
إذا كان الرئيس بوتين قد وضع نفسه أمام تحديات “مستقبل العالم الجديد”، فإن ترامب، حال فوزه بالانتخابات، سيكون أمام تحدٍ أكبر في سياق ما يمكن تسميته “المتغيرات الفاعلة للتسوية والتهدئة الدولية”. لن تخلو هذه التسوية من تنازلات “سياسية” روسية أميركية. العالم سيكون الرابح الأكبر، وسيتيح ذلك للجانب الأميركي فرصة “التقاط الأنفاس” في ملف “تايوان”، والخروج من أزمة الدين العام الأميركي.
في المقابل، ستكون هذه فرصة لروسيا/بوتين لتغيير تكتيكاتها “غير المكلفة عسكريًا” للمضي قدمًا في مشاريعها الإستراتيجية “الأحادية” أو المشتركة، والتي من أهمها:
- الرؤية الإستراتيجية الروسية لعالم متعدد الأقطاب.
- التوجه الروسي المتسارع للحد من النفوذ الغربي، ما يمثل خيارًا عالميًا مفيدًا.
- تنمية قدرات “الجنوب العالمي” اقتصاديًا بعيدًا عن “الدولار” ومنظوماته المالية.
- خلق فضاء لانسجام “المؤسسات الأممية” مع التحولات “السياسية والأمنية والاقتصادية” التي تقودها روسيا.
- زيادة الاهتمام الروسي بمنطقة الخليج العربي وتنمية العلاقات مع دوله.
هذا قد يخلق فضاء تنافسيًا سلبيًا جديدًا “أميركيًا روسيًا”. فكيف سيتعامل معه ترامب إذا أصبح الرئيس الأميركي القادم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.