مقديشو- تصاعدت الأزمة السياسية في الصومال مع رفض الحكومة الفدرالية في مقديشو نتائج الانتخابات في ولاية جوبالاند التي أسفرت عن إعادة انتخاب رئيس جوبالاند أحمد محمد إسلام (مادوبي) لولاية ثالثة، وبلغت ذروة هذا الصراع بوقوع اشتباكات عنيفة بين قوات الطرفين في بلدة رأس كمبوني الإستراتيجية.
وتكشف هذه الأزمة عن خلل عميق في بنية النظام الفدرالي الصومالي، مثيرة مخاوف جدية بشأن تماسك الدولة ومساعي مكافحة الإرهاب، كما أنها تسلط الضوء على العقبات الجمّة التي تعترض مسار بناء دولة مستقرة في الصومال في ظل منافسة محتدمة على السلطة والثروات بين الحكومة المركزية والأقاليم.
وتصاعد الصراع بين الجانبين بشكل متسارع بدءا من انسحاب حاكم جوبالاند في أكتوبر/تشرين الأول الماضي من المشاورات الحكومية الخاصة بالمجلس الاستشاري الوطني المخصصة للبحث في ترتيبات العملية الانتخابية المقرر عقدها العام القادم.
توتر جديد
فجرت هذه الخطوة دائرة جديدة من التوتر بين رجل كيسمايو القوي الذي لطالما اصطدم بمقديشو والسلطات الفدرالية التي رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أجريت في الولاية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفاز مادوبي بموجبها بفترة رئاسية ثالثة.
وفي تصعيد جديد، أصدرت محكمة إقليم بنادر الإقليمية أمرا بإلقاء القبض على مادوبي متهمة إياه بالخيانة وانتهاك الدستور الصومالي ومشاركته معلومات وطنية حساسة مع دولة أجنبية، كما أرسلت طلبا إلى الإنتربول لاحتجازه أيضا، وهي اتهامات رفضها مسؤولو الإقليم معتبرين أنها تنطلق من دوافع سياسية.
أما محكمة جوبالاند الابتدائية فأصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، متهمة إياه بالخيانة والتحريض على التمرد، في صراع قانوني غير مسبوق في تاريخ البلاد.
ونقلت الحكومة الفدرالية مئات من جنودها إلى منطقة رأس كمبوني مبررة الخطوة بالتهيئة لتسلّم المهام الأمنية من قوات الاتحاد الأفريقي، وهو ما رفضته حكومة جوبالاند متهمة القوات الفدرالية بزعزعة استقرار المنطقة. لتبلغ الأحداث مصيرها المحتوم في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بمعارك عنيفة بين الطرفين أدت إلى هزيمة القوات الحكومية وتراجعها بعد رفضها الانسحاب خلال المهلة التي منحتها إياها كيسمايو.
ومثّلت التعديلات الدستورية التي حمل لواءها الرئيس حسن شيخ محمود نقطة فجرت “جدلا واسعا، وتفاوتت الآراء على المستوى الرسمي والشعبي بشأنها”، كما يشير مقال منشور في مركز مقديشو للبحوث والدراسات.
في هذا السياق، يستقر الخلاف حول هذه التعديلات كعامل جوهري في صناعة الأزمة بين شيخ محمود ومادوبي، كاشفا عن خلل عميق في آليات التعاطي السياسي، وعن البحث الصومالي المستمر منذ عقود، دون نجاح كثير، عن الوصول إلى صيغة لبناء دولة ما بعد الحرب الأهلية.
تحول مفاجئ
ووفقا للباحثة الصومالية سمية عبد القادر، فإنه رغم شمول التعديلات لمواد من 4 فقرات فإن ما استقطب الرأي العام تركز حول النقاط المتعلقة بصلاحيات الرئيس والعملية الانتخابية.
وتعهد الرئيس الصومالي بالانتقال إلى نظام رئاسي يحل محل البرلمان الحالي وتغيير القواعد الناظمة للانتخاب بالاعتماد على نظام الانتخاب المباشر (شخص واحد، صوت واحد) بدلا من نظام تقاسم السلطة القائم على العشائر المعروف باسم “4.5” والذي استُخدم منذ عام 2000، حيث يمنح 4 عشائر رئيسية حصصا متساوية في البرلمان، بينما تحصل مجموعة من العشائر الأصغر على نصف الحصة.
ولتحقيق ذلك، عقد المجلس الاستشاري الوطني اجتماعا ضم رئيس البلاد ورئيس الوزراء ورؤساء الولايات ما عدا حاكم ولاية بونتلاند، وأقرّ التحول إلى نظام الانتخاب المباشر في 28 مايو/أيار 2022، وهو ما قاد البرلمان في النهاية إلى إقرار التعديلات الدستورية بعد عام تقريبا، وسط احتدام الصراع السياسي حولها.
ورغم مشاركة أحمد مادوبي في الاجتماع، فإنه ما لبث أن انسحب من المشاركة في اجتماع المجلس المذكور في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، مطلِقا فصلا جديدا من العداوة المريرة بين حاكم جوبالاند القوي وحكومة مقديشو.
هذا التغير المفاجئ والسريع في موقف مادوبي يعدّه مراقبون خطوة إستراتيجية لحماية مصالحه السياسية، فبانضمامه إلى المعسكر المعارض للتعديلات الدستورية يعمل على الحيلولة دون تطبيق نظام الانتخاب المباشر الذي قد يشكل تهديدا لسلطته، إذ سيفتح الباب لمنافسته بقوة في انتخابات برلمان ورئاسة الولاية.
في المقابل، يمكّن النظام العشائري الحالي (4.5) مادوبي من ترجيح كفة أنصاره في الانتخابات البرلمانية، ومن ثم تمهيد الطريق لإعادة انتخابه باعتبار البرلمان الولائي هو المخول باختيار رئيس الولاية.
ولعل هذا ما يفسر مسارعته إلى عقد انتخابات البرلمان ورئاسة الولاية بين 18 و25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مثيرا رفض مقديشو التي اعترضت على إجراء الاقتراع عبر نظام المحاصصة القبلية الذي تم تغييره إلى الانتخاب المباشر.
توتر مستمر
يمثل الصراع الأخير بين مقديشو وكيسمايو جزءا من حكاية التوتر المستمر بينهما، حيث عارضت الحكومة الفدرالية منذ البداية تشكيل ولاية جوبالاند التي رأت فيها مشروعا كينيّا يهيمن عليه أبناء قبيلة الأوغادين ودعمت العشائر المناوئة لمادوبي الذي استطاع بقدرته على فرض سلطته على أرض الواقع نزع اعتراف مقديشو به على مضض.
يرجع موقف مقديشو إلى مجموعة من العوامل، منها ما تشير إليه ورقة صادرة عن “مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية” من أن موقع جوبالاند لا يلعب دورا حاسما في ما يتعلق بالسياسة الوطنية فحسب بل يتعداها إلى التأثير في السياسة الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، نظرا لحدودها مع كل من كينيا وإثيوبيا، بالإضافة إلى انتشار عدد كبير من أبناء قبيلة الأوغادين في كل من هذين البلدين.
وهكذا فإن من يحكم ولاية جوبالاند يملك قدرا كبيرا من التأثير على نجاح أو فشل السياسية الخارجية الصومالية بشأن العلاقة مع هاتين الدولتين ومع دول أخرى مهتمة بالموانئ الصومالية.
بجانب ما سبق، تُعد كيسمايو ثالث أكبر مدن البلاد بعد مقديشو وهرغيسا، كما أنها تحتوي على أحد أهم موانئ الصومال الذي يدرّ ملايين الدولارات سنويا التي تصبّ في خزينة الولاية وتمكّن قادتها من إدارتها دون الحاجة إلى دعم مقديشو التي تسعى إلى السيطرة على هذا المصدر الحيوي، كما تشير ورقة صادرة عن مركز مقديشو للأبحاث والدراسات.
ونتيجة لكل ما سبق، فقد صبغ التنافر العلاقة بين مقديشو ورجل كيسمايو القوي، إذ شهدت ولاية الرئيس الأسبق محمد عبد الله فرماجو، على سبيل المثال، توترا شبيها بالأزمة الحالية كاد يؤدي إلى اشتباك القوات الكينية الداعمة لمادوبي والإثيوبية المناصرة لفرماجو.
تنافس عشائري
يعتمد النظام السياسي الصومالي بشكل كبير على الانتماءات القبلية التي تشكل التحالفات وتسهم في توزيع السلطة، ويضيف البعد القبلي طبقات إضافية من التعقيد على الصراع بين مقديشو وكيسمايو، مازجا بين المظالم التاريخية والمنافسة على الموارد والصراعات على السلطة.
وتشير ورقة صادرة عن “معهد روبرت لانسينغ لدراسة التهديدات العالمية والديمقراطيات” -مقره الولايات المتحدة– إلى أن الأزمة الحالية تحمل أبعادا متعددة، يأتي في قلبها الصراع العشائري على السلطة والثروة في الإقليم.
وفي هذا السياق، يبرز التنافس المستمر بين عشيرتي المريحان والأوغادين التي ينحدر منها مادوبي والمهيمنة منذ مدة طويلة على النفوذ السياسي والاقتصادي، حيث مثّل مشروع جوبالاند تحت حكم مادوبي عودة “لهوية الأوغادين وفخرها” بعد عقود من التهميش السياسي، وفقا لإحدى الدراسات.
في المقابل، تُتهم الحكومة الصومالية بالدعم المستمر لمريحان التي ينحدر منها رئيس الوزراء الحالي حمزة عبدي، لتشكيل ثقل موازن لنفوذ الأوغادين ولبسط سيطرتها على الولاية. كذلك تتوافق جهود الحكومة الفدرالية للحصول على حصة من عائدات ميناء كيسمايو، مع مطالب المريحان التي يشكل الميناء أحد ملفاتها الخلافية مع الإدارة التي يقودها الأوغادين.
هذه الاصطفافات العشائرية أطلّت برأسها من جديد في الأزمة الأخيرة، إذ أعلن حاكم منطقة جيدو، وهي من أهم معاقل المريحان في الولاية، عبد الله شمبير عن دعمه الكامل للحكومة الصومالية التي نشرت قواتها في مطار المنطقة والمراكز المهمة فيها، وهو ما أعقبه مباشرة صدور قرار من الولاية بإقالته من منصبه.
لا يبدو العامل الخارجي وكيفية النظر إليه بعيدا عن محركات الصراع بين مقديشو وكيسمايو، حيث للعديد من الأطراف الخارجية مصالح كبيرة في جوبالاند، ويأتي على رأس هؤلاء كينيا المجاورة والداعمة للإقليم ولزعيمه مادوبي بشكل كبير.
إستراتيجية نيروبي تقف خلفها مجموعة من الدوافع، لعل أهمها رغبتها في جعل الولاية منطقة دفاع متقدم أمام حركة الشباب الناشطة في بعض مناطق الولاية، مشكلة تهديدا جدّيا للأمن الكيني.
هذا الدعم الكيني يزيد من قوة مادوبي في مواجهة الحكومات الفدرالية المتعاقبة التي تراه تدخلا في شؤونها الداخلية يؤدي إلى تفاقم التوتر سواء بين الطرفين الصوماليين أو بين مقديشو ونيروبي، ملقيا بمزيد من التعقيدات في طريق محاولات الحلحلة، ولا سيما عند النظر إلى وجود ملفات خلافية بين البلدين أبرزها القضايا المتعلقة بالحدود البحرية.