لم تمرّ أسابيع على المواجهة الساخنة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، على خلفية ما أثاره ترامب من مزاعم وجود عمليات قتل (إبادة) يتعرض لها البيض في جنوب أفريقيا، حتى عاد ترامب مجددًا لاستعراض عضلاته أمام خمسة قادة أفارقة، استدعاهم إلى البيت الأبيض، وخاطبهم بطريقة مسيئة ومهينة.
وقد كانت المواجهة في البيت الأبيض بين ترامب ورامافوزا، كما أرادها ترامب فيما يبدو، لتصفية حساب مع جنوب أفريقيا، ليس فقط فيما يزعم أنه استهداف للأثرياء البيض من قبل حكومة رامافوزا، وإنما أيضًا بسبب موقف جنوب أفريقيا من العدوان على غزة، وقرارها ملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهو قرار شجاع حشد الرأي العام الدولي ضد جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.
موقف جنوب أفريقيا لم يرقَ للإدارة الأميركية التي تشيع فيها الانحيازات المتصهينة، فريقًا وسياسات.
تعكس السياسة الخارجية الأميركية الحالية إلى حد كبير مزاج الرئيس ترامب، وهي سياسة لا يمكن توصيفها أو ضبط معالمها، بسبب ما يشوبها من تقلبات ومفاجآت غير متوقعة، مرتبطة بشخصية ترامب، التي تتميز بطابع فريد يتخطى التصنيفات التقليدية. فهو شخصية متمردة على تقاليد المؤسسة وأعرافها، ومتجاوزة للثوابت السياسية التأسيسية في الدبلوماسية والعلاقات الخارجية الأميركية.
وتبدو أفريقيا اليوم معنية تمامًا بهذه التقلبات التي تتسم بها السياسة الخارجية الأميركية، والمراجعات والتحولات الكبرى التي يريد ترامب أن يفرضها، ويعيد من خلالها هندسة دبلوماسية جديدة، تقطع مع مرتكزات السياسة الخارجية الأميركية التقليدية.
توقع العديد من الخبراء الأميركيين أن تتأثر العلاقات الأميركية الأفريقية وتشهد تحولات مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. فالسياسة الخارجية الأميركية تجاه أفريقيا، تقوم أساسًا على إستراتيجية “القوة الناعمة”، عبر الدور المتقدم لمؤسسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، لا سيما فيما تلعبه من دور في تحفيز التحولات السياسية، أو المساعدات الإنسانية، أو التنمية الاقتصادية، أو التعاون العسكري AFRICOM – (القيادة الأميركية في أفريقيا).
هذه العلاقات الأميركية الأفريقية تبدو اليوم في مهب الريح، مع قرار إدارة ترامب إلغاء مؤسسة (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، والتوجيه لإنهاء (القيادة الأميركية في أفريقيا)، وأيضًا فرض رسوم على البضائع الأفريقية. قرارات ستكون لها تداعيات كبيرة على بلدان القارة الأفريقية، لا سيما لجهة إرباك فرص التنمية واحتواء التحديات المناخية والأزمات الاجتماعية، والتحديات الأمنية.
بيد أن هذا الموقف الأميركي تجاه أفريقيا، والذي عبّر عنه ترامب بشكل فج لدى استقباله الرئيس الجنوب أفريقي، ثم الإهانة التي تعرض لها زعماء خمس دول أفريقية عند استقبالهم من قبل ترامب، يفرضان على بلدان القارة أن تلتقط هذه اللحظة التاريخية من أجل التوقف لتقييم موقعها الدولي، والتحديات التي تواجهها، والفرص المتاحة لبلورة رؤية تأخذ بعين الاعتبار إمكانات هذه القارة ومقدراتها وموقعها، وترسم إستراتيجية متدرجة للاستقلال الإستراتيجي، مستفيدة من مكانتها.
- أولًا: تملك القارة الأفريقية ثقلًا ديمغرافيًا وازنًا بحوالي 1.4 مليار نسمة (حوالي ربع سكان العالم)، وهي القارة الثانية من حيث عدد السكان على الصعيد العالمي بعد القارة الآسيوية.
ولكنها ستكون القارة الأولى الأكثر احتضانًا لليد العاملة؛ بسبب نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا. وتبلغ مساحة أفريقيا أكثر من 30 مليون كيلومتر مربع (حوالي ربع مساحة اليابسة في العالم). وتضم القارة الصحراء الكبرى، ونهر النيل، وسلسلة جبال كبرى، ولها مناخ يتراوح بين الاستوائي والصحراوي.
- ثانيًا: تزداد الأهمية الاقتصادية لبلدان القارة؛ بسبب ما تحتويه القارة من ثروات طبيعية تكتشف تباعًا، لا سيما ثروات النفط والغاز والذهب والماس والمعادن النادرة، التي باتت اليوم محل تنافس دولي محموم، تحوّل بعضه إلى صراع خفي وحروب غير معلنة.
ويحتد التنافس على ثروات القارة من قبل العديد من القوى الكبرى، في ظل الاكتشافات اللافتة للمعادن الثمينة والنادرة في العديد من بلدان القارة.
كما تمثل القارة، ولا تزال، واحدة من أبرز مصادر الطاقة في العالم، تعززها اكتشافات جديدة مهمة، سواء في الساحل والغرب الأفريقي، أو في بلدان جنوب القارة.
- ثالثًا: تضم القارة 54 دولة تشكّل منظمة الاتحاد الأفريقي، وتشغل العضوية في الأمم المتحدة. وهو رقم يمثل وزنًا دبلوماسيًا وسياسيًا معتبرًا في التأثير في تصويت الأمم المتحدة والمؤسسات المنبثقة عنها، على غرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
وتعمل القوى الكبرى على استمالة الدول الأفريقية الأعضاء في الأمم المتحدة للتصويت لصالحها ودعم مواقفها، على غرار الولايات المتحدة الأميركية، والصين، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا.
كما تتسابق العديد من الدول على الحضور بشكل فاعل، سواء عبر افتتاح سفارات أو قنصليات، أو عبر قمم مع دول القارة. وعُقدت خلال سنوات قليلة قمة أفريقية أميركية، وقمة أفريقية صينية، وقمة أفريقية أوروبية، وقمة أفريقية روسية، وقمة أفريقية تركية، وقمة أفريقية يابانية، وقمة أفريقية سعودية.
وتبدي الصين حرصًا على استمالة دول أفريقيا في ملف تايوان، بينما تستميلها روسيا في ملف أوكرانيا منذ سيطرة موسكو على القرم، ومن جهتها تحاول إسرائيل استمالة ما تستطيع منها لصالحها في ملف الصراع العربي الإسرائيلي.
ويجري نقاش متجدد اليوم في أروقة الأمم المتحدة حول الإصلاحات الداخلية المطلوبة، وهناك مقترحات بضرورة حصول أفريقيا على عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي. وقد افتكت القارة منذ حوالي عامين العضوية في مجموعة العشرين (G20).
وبين 2010 و2016 تم افتتاح 320 سفارة وقنصلية جديدة في أفريقيا، بينها أكثر من 30 لتركيا. وأدت الصين 79 زيارة لأفريقيا خلال عقد من الزمن، بينما يتصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زعماء العالم الأكثر زيارة لبلدان القارة الأفريقية.
- رابعًا: على المستوى العسكري، فضلًا عن وجود (القيادة الأميركية في أفريقيا)، يتزايد الحضور العسكري الروسي بشكل ملحوظ في العديد من الدول الأفريقية، ويتخذ هذا الحضور الروسي شكلًا رسميًا وآخر غير رسمي، عبر قوات “فاغنر”، التي تقوم بأدوار مختلفة في العديد من الدول الأفريقية، لجهة تقديم دعم لعمل القوات الحكومية، أو تنفيذ مهمات خاصة لحفظ الأمن. وقد تحوّل القرن الأفريقي إلى ميدان للتنافس بين إيران من جهة، ودول خليجية من جهة أخرى.
هذا، وتحتفظ الصين بقاعدة عسكرية في جيبوتي وتلعب دورًا رياديًا في حفظ السلام. وتتفوق بكين على بقية القوى العظمى في مبيعات الأسلحة، إذ لها ارتباط عسكري بـ45 دولة، بخلفية حماية استثماراتها التي تتجاوز 200 مليار دولار في القارة.
وتحمي الصين تجارتها في القارة التي تمثل خط طريق الحرير الجديد، حيث يقيم في أفريقيا أكثر من مليون صيني. وقد دفعت بكين في 2011 ببارجة حربية إلى أفريقيا في خطوة مثيرة لإجلاء رعاياها من ليبيا بعد اندلاع الثورة في البلاد. هذا، وارتفعت نسبة صادرات السلاح الصيني من 16% إلى 26% بين 2012 و2017.
سلوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه أفريقيا، سواء بإعلان تقليص حضور الولايات المتحدة الأميركية في القارة، أو إهانة زعماء القارة، لا يعكس إدراكًا لمكانة القارة في المشهد الدولي حاضِرًا ومستقبلًا.
فهذه القارة التي تمثل ثقلًا ديمغرافيًا معتبرًا (سيتجاوز 2.5 مليار نسمة في 2050)، ودبلوماسيًا وازنًا (54 دولةً أفريقيةً عضوًا في الأمم المتحدة)، واقتصاديًا (ثروات طبيعية وسوق ضخمة)، وإستراتيجيًا (موقع القارة)، لا يمكن التعامل معها باستهتار واعتباطية.
فأهمية أفريقيا تزداد بشكل متسارع وعلى مستويات متعددة، ما يجعلها قارّة قادرة على الاستفادة من هذا التنافس والتسابق بين القوى الكبرى عليها، لا سيما إذا ما نجحت في تعميق الإصلاحات داخل منظمة الاتحاد الأفريقي، وبلورة رؤية إستراتيجية؛ لتعزيز مكانة القارة والتمكين لها على الصعيد العالمي.
إن دخول أفريقيا الفتية إلى مرحلة جديدة واعدة، وتحوّلها إلى ميدان للتنافس بين القوى الكبرى، يجب ألا يجعلها تسمح بأن يكون هذا التنافس صفريًا، وإنما أن تفرض هذه القارة بمكانتها وإمكاناتها نفسَها قطبًا جاذبًا لمختلف المشاريع التنموية والاستثمارية، التي تنعكس على بلدان القارة استقرارًا سياسيًا، وتنمية اقتصادية، ونهضة شاملة، تطوي صفحة الصورة النمطية الدونية للقارّة القادمة من بعيد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.