خلال الحروب والصراعات الدموية، دائما ما يُستخدم الفن للمقاومة والحفاظ على الهوية الثقافية وتوثيق وتأريخ الأحداث. وقد تمكن بعض الرسّامين، بما أُتيح لهم من مدارس فنية مختلفة، من تعزيز الأمل والوحدة ومساعي الشعوب في المقاومة.
فكانت فرشاة الألوان والصفحة البيضاء بمثابة وسيلة مباشرة في الحفاظ على الهوية الثقافية والاحتفال بها في مواجهة محاولات محوها، كشكل من أشكال المقاومة الثقافية وحشد الدعم وتوعية الجماهير.
تأثير الحرب على الفنان
أثرت الحروب بشكل عميق على أساليب وموضوعات عديد من الفنانين، مما أجبرهم على تكييف تقنياتهم وموضوعاتهم لالتقاط الصدمة والدمار والتكلفة البشرية للصراع. ومن أبرز من تأثر فنهم بالحرب:
1- غويا (1746-1828)
فرانشيسكو دي غويا (1746-1828) كان أحد أبرز الفنانين الذين تأثرت أعمالهم بعمق بالحروب النابليونية ونضال إسبانيا من أجل الاستقلال. فبعد أن شهد غويا فظائع الحرب بشكل مباشر، تحوّل أسلوبه الفني من تصوير النبلاء وجميلات البلاط إلى توثيق صريح ومؤثر للعنف والمعاناة الإنسانية.
في سلسلة أعماله الشهيرة “كوارث الحرب”، التي أنجزها بالأبيض والأسود، جسّد غويا أهوال الصراع والعبثية الدموية التي ميزت الحروب بين إسبانيا وفرنسا خلال الفترة من 1808 إلى 1814 تحت حكم نابليون بونابرت.
نظرًا لانتقاد هذه النقوش لكل من الاحتلال الفرنسي والملكية الإسبانية المستعادة، لم تُنشر المجموعة إلا عام 1863، بعد أكثر من 3 عقود من وفاة الفنان. وتتناول الأعمال موضوعات مثل المجازر، والصراعات، والمجاعات، والبطولات، وأفعال الانتقام، مما يجعلها شهادة فنية وإنسانية فريدة على تلك الحقبة المظلمة.
2- كاتي كولويتز (1867–1945)
كان لفقدان الرسامة الألمانية كاثي كولويتز ابنها في الحرب العالمية الأولى، ومشاهدتها الدمار الذي خلفته الحربان العالميتان، أثر عميق على مسيرتها الفنية. تجسدت أعمالها في توثيق معاناة الناس البسطاء في الحروب، مع تركيز خاص على النساء والأطفال الذين تحملوا وطأة الصراعات المدمرة.
اختارت كولويتز العمل في مجال الطباعة، بما في ذلك النقش على الخشب والطباعة الحجرية، إذ قدمت شخصياتها بتفاصيل تعكس الهشاشة والعاطفة. ركزت أعمالها على المشاعر القاسية التي ترافق الحروب، مثل الحزن واليأس والخوف، إضافة إلى التضحيات ومرونة الروح البشرية في مواجهة المحن.
في سلسلة أعمالها الكبرى الأخيرة، بعنوان “الموت” (1934-1936)، تناولت كولويتز هذا الموضوع المأساوي عبر صور صارخة وتجريدية تنقل دراما الفقد والفجيعة. في هذه الأعمال، يظهر الموت وهو يخطف النساء والأطفال، كما تضمنت السلسلة صورة شخصية تحمل عنوان “نداء الموت”، إذ تمتد يد الموت إلى كتف الفنانة، في تصوير عميق لواقع الفقد والخوف.
لم تقتصر أعمال كولويتز على التعبير عن مشاعرها الخاصة، بل اعتبرتها وسيلة لدعم الآخرين. كتبت عن تصويرها للموت قائلة: “أريد أن أُظهر الموت.. ليس لدي الحق في التراجع عن مسؤوليتي كمدافعة عن معاناة الناس. هذه مهمتي، وهي ليست سهلة التنفيذ”.
رغم تأثرها الشديد بفقدان ابنها، فإن فنها وفر لها متنفسا لاستكشاف حزنها الخاص، ووسيلة لمد يد العون إلى أولئك الذين يشاركونها الألم، مؤمنة بأن أعمالها يمكن أن تكون عزاءً للآخرين.
3- أوتو ديكس (1891–1969)
فيلهلم هاينريش أوتو ديكس، رسام ومنتج مطبوعات ألماني، عُرف بأسلوبه الواقعي القاسي الذي صوّر المجتمع الألماني في أثناء فترة جمهورية فايمار (1919-1933) وأبرز وحشية الحرب. تأثرت أعماله العميقة بتجربته الشخصية في الحرب العالمية الأولى، إذ عانى من ندوب جسدية ونفسية جراء أهوالها.
في عام 1924، أطلق ديكس سلسلة من النقوش الغائرة بعنوان “الحرب” (Der Krieg)، تضم 50 نقشًا توثق دمار حرب الخنادق التي خاضها على مدى 4 سنوات. أبرزت هذه الأعمال الفظائع والصدمات المرتبطة بالحرب، مما جعلها واحدة من أبرز شهادات الفن على مآسي النزاعات.
إلى جانب النقوش، أتم ديكس في عام 1932 لوحة شهيرة بعنوان “الحرب”، وهي عمل مركب من 4 لوحات تكمل بعضها بعضا، مجسدة مشاهد الدمار، والموت، والتحلل الذي تعرض له الجنود في الحرب العالمية الأولى. استخدم ديكس تفاصيل دقيقة وأسلوبًا واقعيًا صادمًا لتصوير الجنود الجرحى، والقتلى، والأشلاء المبعثرة، في تصوير عميق لوحشية الحرب وعبثيتها.
ديكس، الذي عانى مما نعرفه اليوم باسم اضطراب ما بعد الصدمة، انعكست كوابيسه وأفكاره الهوسية في لمساته الفنية الفريدة. جمع في أعماله بين الواقعية، والتعبيرية، والتصوير الغريب، ليبرز الخسائر الجسدية والعاطفية للحرب. استخدم أسلوبا دقيقا، يكاد يكون تشريحيا، لتوثيق الجثث المشوهة والمناظر الطبيعية المُدمرة، مسلطًا الضوء على الطابع اللاإنساني للحرب وتجربتها المروعة مهما كانت دوافعها.
4- بول ناش (1889 – 1946)
كان بول ناش يبلغ من العمر 25 عامًا عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى. في العاشر من سبتمبر/أيلول 1914، انضم إلى الخدمة العسكرية التي دفعته للسفر إلى خطوط المعارك في فرنسا. وعلى الرغم من واجباته، فكان لدى ناش الوقت لاستكشاف المناظر الطبيعية المُدمرة، وقد فوجئ عندما بدأ يرى الطبيعة تعود لأصلها، وساحات المعارك تصبح خضراء مرة أخرى.
وقد كتب رسائل إلى زوجته مارغريت، واصفًا ما رآه وقال في إحداها: “أعتقد أنني أكثر سعادة في الخنادق من أي مكان آخر هنا. يبدو الأمر سخيفا، لكن الحياة لها معنى أكبر هنا والحماس جديد بالحياة، والجمال نابض وأكثر تأثيرا”.
وبالرغم من أنه كان من المقرر أن يقضي شهرين فقط في فرنسا، فإن إصابته في الحرب أدت إلى كسر ضلعه وإرساله إلى المنزل للنقاهة. فاستغل الوقت للعمل وفي يوليو/تموز 1917 أقام معرضا لـ18 رسما من رسوماته لاقت قبولا لافتا.
وقد لفت فنه انتباه المجتمع البريطاني، خاصة إدوارد مارش، السكرتير الخاص لتشرشل، الذي استخدم نفوذه لإعادة ناش إلى الجبهة كواحد من فناني الحرب الرسميين.
وبالفعل، عمل ناش بجد، وأنتج أحيانًا 12 إلى 20 رسما في اليوم على الرغم من صعوبات السفر بالقرب من خطوط المواجهة.
5- إسماعيل شموط (1930 – 2006)
إسماعيل شموط (1930-2006)، فنان ومؤرخ فني فلسطيني، ولد في مدينة اللد وطرد مع عائلته في نكبة 1948 إلى مخيم خان يونس في غزة. لاحقا، انتقل إلى مصر عام 1950 لدراسة الفنون الجميلة في القاهرة، حيث برزت موهبته وشارك في معارض فنية مهمة، منها معرض فلسطين الذي افتتحه جمال عبد الناصر عام 1954.
كانت القضية الفلسطينية محورا أساسيا في أعمال شموط، إذ امتزج فنه بالعمل السياسي. وعام 1965، انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية بصفته مديرا للفنون والثقافة الوطنية، وشغل لاحقا منصب أمين عام اتحاد الفنانين التشكيليين العرب. استخدم شموط فنه لتعريف العالم بالقضية الفلسطينية وتوثيق الهوية الثقافية، عبر تصوير الحياة اليومية، الملابس التقليدية، والعادات الفلسطينية، في مواجهة محاولات الطمس والاندثار.
تميزت أعمال شموط بأسلوب يمزج بين الواقعية والرومانسية التعبيرية، مجسدة مشاعر النكبة، المقاومة، الصمود، والأمل بالعودة. قال في كتابه الفن في فلسطين (1989): “اللوحة ليست مجرد وسيلة لتجميل الحياة، بل تعبير عن الأمل وتجسيد للجرح الفلسطيني وشوق الفلسطينيين للخلاص والعودة”.