ليست مصادفة أن تأتي العملية الأمنية المعقدة التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد عناصر حزب الله، والتي تسببت بآلاف الجرحى وعشرات القتلى، بعد إعلان الجيش الإسرائيلي إحباط محاولة اغتيال باستخدام عبوة ناسفة من نوع “كليماغور” زرعها حزب الله. كانت العبوة تستهدف مسؤولًا أمنيًا إسرائيليًا، وكان من المتوقع تنفيذها في الساعات القليلة المقبلة.
هذه العملية تشكل مرحلة جديدة من الصراع المستمر بين حزب الله، بما يمثله على المستويين: الإقليمي واللبناني، وبين إسرائيل التي تسعى لإثبات نفسها بعد الإهانة التي تعرضت لها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ويكشف هذا الصراع عن مجموعة من الوقائع الميدانية التي لا يمكن تجاهلها:
- أولًا: أراد الجانب الإسرائيلي، وسط النقاشات والتهديدات ومحاولات “تبريد” الجبهة، توجيه رسالة واضحة، أنه قادر على توجيه ضربة قوية لحزب الله دون تكبد خسائر ميدانية كبيرة، أو تكاليف عسكرية باهظة. وفي الوقت نفسه، بات من الضروري أن تثبت إسرائيل تفوقها أمام خصومها.
- ثانيًا: ضمن توازن الرعب والمواجهة المفتوحة بين حزب الله وإسرائيل، سعى الجانب الإسرائيلي، وخصوصًا بعد إطلاق الحوثيين صاروخًا باتجاه تل أبيب، إلى قلب المعادلة. ومع اقتراب الذكرى السنوية لعملية “طوفان الأقصى”، فشلت إسرائيل في القضاء على المقاومة في غزة، أو اغتيال زعيم حركة حماس يحيى السنوار، ولهذا جاءت العملية في لبنان كمحاولة لتنفيذ “7 أكتوبر/تشرين الأول” بنسخة إسرائيلية.
- ثالثًا: قبل ساعات من عملية تفجير أجهزة “البيجر”، كان النقاش يدور بعمق حول وصول المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى إسرائيل، الذي نقل رسالة تدعو إلى تهدئة التصعيد. لكن الموقف الإسرائيلي كان صارمًا في اتجاه التصعيد، بينما حاول الأميركيون حصر العمليات في الجنوب أو البقاع لتفادي حرب واسعة، مع تجنب التصعيد في بيروت والضاحية وتل أبيب.
- رابعًا: في ظل التوقعات بشن عملية عسكرية برية أو جوية تترافق مع اغتيالات، لجأ نتنياهو إلى تنفيذ ضربة أمنية معقدة وسيبرانية، كان الهدف منها اختبار القدرات اللوجيستية لحزب الله، وإشغاله في بنيته التحتية الصحية والاجتماعية؛ استعدادًا لعملية عسكرية أوسع في الجنوب أو البقاع.
- خامسًا: يظهر من هذه العملية أن إسرائيل أرادت ضرب بنية الاتصال الداخلي لحزب الله، مما وضع الحزب في حالة ارتباك تستغرق أسابيع لتجاوزها. ومع ذلك، فإن أجهزة “البيجر” المستهدفة لا ترتبط بالإطار العسكري للحزب، بل تقتصر على التواصل بين القيادات السياسية والإدارية وعائلاتهم.
- سادسًا: مع امتداد العملية إلى كوادر حزب الله في سوريا، يتضح أن الخرق الأمني الإسرائيلي بات عميقًا. سوريا، التي كانت على مدى سنوات مسرحًا لاستهداف مباشر من قبل إسرائيل، تشكل تحديًا أمنيًا لحزب الله الذي يواجه استخبارات إقليمية ودولية، ومسيرات إسرائيلية في الأجواء.
وعليه، يبقى السؤال حول رد حزب الله على أكبر اختراق أمني له في تاريخه، وهل ستكون عملية اختراق وتفجير آلاف الأجهزة اللاسلكية مقدمة لتوسع الحرب؟
قبل العملية، كان حزب الله يدرك أن إسرائيل تعمل على عدة مسارات: المسار التفاوضي والدبلوماسي، من خلال محاولة استقطاب دعم دولي للضغط على حزب الله ولبنان؛ المسار الإعلامي، من خلال التسريبات والتصريحات اليومية حول الاستعداد لتوسيع العملية العسكرية؛ وأخيرًا، المسار العسكري من خلال تكثيف الضربات الجوية كوسيلة لإجبار حزب الله على تغيير موقفه. وكان حزب الله يضع هذه الضغوط في سياق استباق زيارة هوكشتاين، الذي كان من المتوقع أن ينقل رسائل مباشرة للمسؤولين في بيروت.
اليوم، وبعد ضرب بنية الاتصالات وما نتج عنه من آلاف الجرحى وعشرات القتلى، يجد حزب الله نفسه أمام تحدّ جديد شبيه بالتحدي الذي واجهه بعد اغتيال القيادي فؤاد شُكر. ورغم حرص الحزب على عدم الانجرار نحو حرب إقليمية واسعة، فإنه مضطر للرد على هذا الاستهداف الكبير، خاصة مع سقوط العديد من الضحايا المدنيين منذ بداية الحرب.
فيما إسرائيليًا، تكثر التحليلات التي تتحدث عن أن ما حدث اليوم مقدمة لغزو بري بعمق منطقة جنوب الليطاني؛ بهدف إعادة مستوطني الشمال، لكن المنطق العسكري يشير إلى أن الجانب الإسرائيلي على الرغم من كل التهويل يدرك أن الحرب البرية ستكون نتائجها كارثية بأضعاف من نتائج اجتياح غزة، لأسباب كثيرة، أحد أبرزها هو القدرة القتالية العالية لحزب الله في جنوب لبنان.
من هنا يمكن تفسير وضع الجولة التي أجراها مدير الموساد ديفيد برنياع على دول أوروبية منذ أسابيع قليلة، ولقاءاته مع نظرائه الغربيين، وما حُكي عن نقاشاته حول بنك أهداف يشمل مناطق لبنانية متعددة، كمخازن أسلحة وصواريخ، ومنشآت جنوبًا وبقاعًا، وأن حكومته تفضل عمليات جوية لاستهداف هذه المواقع.
لكن التحدي الأبرز بالنسبة للمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية يكمن في تحصينات الحزب في الأودية والجبال، والتي لا قدرة للطيران الحربي على تحقيق إصابات مباشرة فيها، مما يرفع مستوى التحدي أمام الإسرائيليين.
وهذا الواقع الجغرافي المعقد يضع إسرائيل أمام تحديات عسكرية وأمنية، مشابهة لتجربة الإنزال الذي تم تنفيذه في منطقة مصياف السورية وتدمير منشأة لتطوير الصواريخ والمسيرات، لأنه في حال فكر الجيش الإسرائيلي بهذا الحل الميداني، ستكون المسارات العسكرية قد انتقلت إلى مرحلة جديدة مفتوحة على مخاطر كبيرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.