قبل انطلاق “طوفان الأقصى” كان في إسرائيل تحذير مرتفع النبرة من اندلاع حرب أهلية جراء سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهي ليست المرة الأولى التي تعلو فيها أصوات تتحدث هكذا في بعض المحطات والأوقات داخل إسرائيل، التي تفادت وقت تأسيسها حربًا من هذا النوع، كان يمكن أن تندلع لو شرعت الدولة العبرية في وضع دستور لها، إذ أدرك مؤسسوها أن بسببه قد يحتدم جدل بين العلمانيين والمتدينين، قد يتصاعد إلى شقاق يؤدي إلى انهيار المشروع منذ بدايته.
فطوال الوقت، يموج المجتمع الإسرائيلي بالعديد من أسباب الصراع، حيث هناك خلافات عميقة وممتدة بين المتدينين والعلمانيين حول قضايا عدة تتعلق بمسائل من قبيل: قداسة يوم السبت، والأطعمة والذبائح، ووضع النساء، والزواج المختلط، والتعليم والخدمة العسكرية، والاستيطان، أضيفت إليها قضايا أخرى مع الزمن، مثل: قانون تشريح الجثث وزراعة الأعضاء، وقانون حقوق الإنسان، وتجنيد الفتيات المتدينات، والتسوية مع الفلسطينيين.
وهي صراعات تبلغ من الحدة المكتومة إلى درجة أن بين الإسرائيليين من يراها أسبابًا دائمة لاندلاع شرارة حرب أهلية في أي وقت.
يحكي الدبلوماسي المصري رفعت الأنصاري في مذكراته عن فترة خدمته في إسرائيل أن بعض جمهور اليمين الديني المتطرف قد عزموا على تنظيم مظاهرة أمام مبنى السفارة في تل أبيب بعد أسابيع من اغتيال الرئيس المصري أنور السادات؛ احتجاجًا على اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، ووقتها سمع من السفير محمد بسيوني – أول سفير لمصر في تل أبيب – عبارة لافتة قال فيها: “إذا ما اندلعت حرب أهلية في إسرائيل سيكون مائير كهانا زعيم حركة كاخ وراء ذلك”. ولم يأتِ هذا الحكم من فراغ إنما كان مستندًا إلى تقدير معطيات واقعية ظاهرة للعيان.
فالأحداث اللاحقة برهنت على أن مثل هذا التقدير لم يكن جزافيًا، من منطلق إدراك صاحبه رفض اليهود المتدينين للتخلي عن حلم “إسرائيل الكبرى”، ولذا يرون دومًا أن أي تسوية سلمية تعيد إلى العرب أرضهم السليبة يجب رفضها على الفور.
لهذا رأينا حركات مثل “جوش أمونيوم” و”كاخ”، اللتين تحالفتا مع بيغن وشامير زعيمي حزب الليكود، تهددان بحرب أهلية إذا انسحبت إسرائيل بشكل كامل من الأرض العربية المحتلة، وفق مبدأ “الأرض مقابل السلام” الذي رُفع في مؤتمر مدريد عام 1991.
وتجدد هذا الوضع مع الانسحابات الأحادية لإسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، وقطاع غزة عام 2004، إذ تحدث البعض وقتها عن احتمال قيام الجيش، الذي تصاعد فيه وجود الضباط المتدينين المتشددين، بانقلاب على الحكومة؛ لأنهم يرونها قد فرطت في مشروع “إسرائيل الكبرى”.
وهنا ينقل الباحث الإسرائيلي تسفكيه عميت في كتابه “انقلاب عسكري في إسرائيل.. الاحتمالات والواقع” عن أحد الأكاديميين الإسرائيليين المنتمين إلى اليمين قوله: “لقد كانت هناك مخاطر حقيقية لاحتمال نشوب حرب أهلية في إسرائيل.. التطرف الحادث لدى الجانبين، وعدم الصبر والعداء بينهما، دفعت بإسرائيل إلى الجلوس على برميل بارود، يمكن لأي شرارة أن تفجره وتجعله يمزق الدولة أشلاء وينثرها في الهواء. وأنا أعتقد أنه يجب علينا أن نشكر أولئك الذين أحدثوا الانقلاب”.
ومن بين الإسرائيليين من فكر في هذه الحرب الأهلية من زاوية أخرى، متوقعًا أن يطلقها فلسطينيو الداخل أو عرب الـ48، فها هو رحبعام زئيفي رئيس حركة مولديت، الذي قُتل أثناء انتفاضة الأقصى عام 2000، كان يرى أن نمو الحركة الإسلامية في إسرائيل سيقود ذات يوم إلى حرب أهلية.
وزاد هذا الاعتقاد وقت التمرد الواسع لفلسطينيي الداخل عام 2021 مع اندلاع عملية “سيف القدس”، فما جرى وقتها نُظر إليه على أنه أشبه بحرب أهلية، حيث فقدت الشرطة وقوات حرس الحدود السيطرة على بعض المدن، وخصوصًا اللد، واضطرتا إلى إخلاء بعض الأسر اليهودية منها.
قبيل “طوفان الأقصى” كانت إسرائيل على شفا “حرب أهلية” بالفعل، وهو أمر أكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بار إيلان” مناحم كلاين، إذ اعتبر الاحتجاجات التي شهدتها ضد اتجاه نتنياهو إلى تعديلات قضائية ترسخ الدكتاتورية، أنها تمثل المراحل الأولى من حرب أهلية.
وهي مسألة أكدها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت في معرض تعليقه على إقرار الكنيست مشروع قانون “الحد من المعقولية” المتعلق بالتعديلات القضائية، واصفًا القانون الجديد بأنه يمثل تهديدًا خطيرًا لأمن إسرائيل.
بناءً على هذا، لم يكن مستغربًا أن يحذر تقرير لموقع “كاونتر باتش” الأميركي من مخاطر اندلاع حرب أهلية إثر استقالة عدد من قادة إسرائيل، مثل بيني غانتس، وغادي آيزنكوت، حيث كشف هذا عن انقسامات عميقة، تختلف عن الاستقطابات العادية التي تشهدها الديمقراطيات الغربية، ليس فقط لأن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية في جوهرها، ولكن لأن التكوين السياسي لها فريد من نوعه، لا سيما في ظل سعي نتنياهو وحلفائه إلى إعادة تشكيل الطبيعة السياسية لإسرائيل، بما يختلف عما جرت عليه العادة منذ قيامها عام 1948.
فنتنياهو أراد تغيير علاقة السلطة السياسية بالجيش، خارجًا على القاعدة التقليدية التي ترى أن الجيش هو جوهر النظام السياسي، حين قال: “إسرائيل دولة لها جيش، وليست جيشًا له دولة”. بينما الحقيقة التاريخية والسارية تبين أن إسرائيل تأسست واستمرت من خلال الحرب، وأن الجيش له مكانة خاصة في المجتمع، سواء من خلال تمتعه بامتيازات مهمة عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار السياسي، أو كون كبار قادة الجيش هم من تولوا المناصب السياسية الرفيعة.
ثم جاء “طوفان الأقصى” ليحدث تحولًا جذريًا في المشهد السياسي الإسرائيلي، وفق تقرير لصحيفة “جيروزاليم بوست”، حيث تضررت ثقة إسرائيل بنفسها وفي قادتها السياسيين والعسكريين، وتراجع إحساسها بالأمن، وبات من المرجح حدوث زلزال في المشهد السياسي بعد الحرب.
في الثالث عشر من أغسطس/ آب 2024، عاد الحديث عن حرب أهلية من جديد، حين حذر رئيس حزب “معسكر الدولة” بيني غانتس من اندلاعها قائلًا: “إذا لم نعد إلى رشدنا فستندلع هنا حرب أهلية، ويجب عدم طمس الحقيقة، هناك قيادة تنفر الناس، وتسمم البئر التي نعيش منها.. تندلع الحرب الأهلية عندما يتم إهدار كرامة العائلات الثكلى وأهالي المختطفين عبر قوات الشرطة خلال المظاهرات، وعندما يتم تصنيف الموظفين الحكوميين المخلصين على أنهم خونة”.
كان غانتس يعلق في هذا على حادثة اقتحام جمهور وجنود ملثمين من اليمين الديني المتطرف يقودهم نواب في الكنيست، قاعدةَ “سدي تيمان” في النقب جنوب إسرائيل؛ احتجاجًا على اعتقال الشرطة العسكرية تسعة جنود متهمين بالاعتداء الجنسي على أسير فلسطيني، ومحاولة الغاضبين إطلاق سراحهم بالقوة.
حين تضع الحرب أوزارها ستطفو على السطح من جديد آثار خطة نتنياهو لتهميش دور الجيش في الحياة السياسية، حتى لو أخلَّ هذا بالركيزة الأساسية للتوازن في مجتمع يوصف بأنه “جيش له دولة”، لكن الجيش، على الأرجح، لن يصمت على تقليص دوره، وسيصارع في سبيل الحفاظ على موقعه وموضعه، وستكون مواجهة حامية بعد تسلل المتدينين المتشددين إلى المناصب القيادية في الجيش، والذي صار ظاهرة حدَت بالبعض إلى المطالبة بعدم جمع الضباط المتدينين في الوحدات العسكرية نفسها.
لقد سبق أن نشب صراع مسلح بين الجيش الذي كانت تهيمن عليه عصابات “الهاغاناه” خلال حكم بن غوريون، وبين قيادات مليشيات مسلحة عندما قصف الجيش سفينة كانت تحمل أسلحة إلى عصابة “الأرجون” وقتل واعتقل العديد من عناصرها، وليس هناك ما يحول تمامًا دون تكرار هذا بين وحدات الجيش بعد الحرب، فإن جرى ذلك، في ظل الدور المحوري للجيش في المجتمع، فقد يفتح الباب أمام حرب أهلية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.