في حادثة مروعة، فقد 3 عمال حياتهم بينما جرح 3 آخرون، إثر انهيار جزء من سور مدينة القيروان التونسية التاريخي، يوم 16 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أثناء ترميمه ضمن مشروع يديره المعهد الوطني للتراث وتنفذه شركة خاصة.
ووفق وكالة الأنباء الرسمية التونسية، يندرج مشروع ترميم سور مدينة القيروان العتيقة ضمن إعادة تأهيل عدد من المعالم الأثرية بالقيروان (وسط) انطلق عام 2016 باعتماد مالي من سلطنة عمان، ويأتي ترميم سور المدينة العتيقة كآخر مرحلة من المشروع.
وفي حين حملت السلطات المسؤولية للقائمين على المشروع وقامت بإيقاف مدير المشروع والمقاول المنفذ، نادى مختصون ونشطاء تونسيون بحماية معالم مدينة مر على نشأتها 14 قرنا.
والاثنين 18 ديسمبر/كانون الثاني الجاري، قال الناطق باسم المحكمة الابتدائية بالقيروان -لراديو “آي إف إم” المحلي- إنه تقرر الاحتفاظ بالمقاول المكلف بأشغال ترميم سور المدينة العتيقة والمهندس المكلف بالمراقبة، دون تسميتهما.
مدينة تاريخية
وتتألف المدينة العتيقة في القيروان -التي تأسست في القرن السابع الميلادي- من مساكن متجاورة وشوارع ضيقة، ويحيط بها سور يمتد لأكثر من 3 كيلومترات، بحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”.
وانهار قسم من السور، يمتد 30 مترًا بارتفاع 6 أمتار، قرب “باب الجلادين” مما تسبب في وفاة العمال الثلاثة بينما أصيب الاثنان الآخران بكسور ونقلا إلى المستشفى، وفق إعلام محلي.
وقال الدكتور رياض المرابط أستاذ ترميم المعالم الأثرية بجامعة القيروان (وسط) إن سور القيروان يعود لبدايات نشأة مدينة القيروان (50 هـ/ 670 م)”.
وأضاف المرابط أن الشكل الحالي للسور يعود إلى علي الحسيني “باي (والي) تونس من 1759 إلى 1782” الذي أعاد بناءه عام 1663 بعد تأثر السور باضطرابات سياسية شهدتها الدولة الحسينية (1705-1957م) طيلة النصف الأول من القرن الـ17.
وتابع: ليست هناك مقاولة مختصة في ترميم المعالم الأثرية في تونس، ولم تسمح الدولة بإنشاء شركات مختصة في الدراسات الأثرية وترميم المعالم الأثرية.
ووفق منشورات جمعية صيانة المدينة بالقيروان (مستقلة) يبلغ طول السور 3.8 كيلومترات مربعة، ويبلغ ارتفاعه ما بين 4 و8 أمتار، أما عرضه فيبلغ 2.7 متر.
وتابع الأكاديمي التونسي في حديث للأناضول “ما حدث في سور القيروان خطأ مهني في مجال الترميم نتيجة سوء تقدير وضعية السور الحالية”.
وعزا المرابط سبب الانهيار إلى “خطأ مهني لأنه تم التعامل مع السور كأي تعامل مع أي بناية عادية”.
وأضاف “جرت العادة في أعمال الترميم أن يتم يقسم العمل بمعالجة بدلة (جزء من السور) بين برجين لا يتجاوز ارتفاعهما مترين اثنين، إلا أن المقاول فتح مسافة ترميم تناهز 23 مترا ولم يأخذ بعين الاعتبار نزول الأمطار فتشبع السور بالماء. والحال أن قلب السور ترابي فازداد حجمه وانهار”.
وقال أيضا “المهندس المشرف على ترميم السور مقيم في العاصمة وطلب مهمة للمراقبة قبل أسبوع، والمعهد الوطني للتراث رفض ذلك”.
معهد التراث
وتابع المرابط: في كل الحالات ليس من عادة المعهد الوطني للتراث أن يتابع باستمرار أعمال الترميم على مدار الساعة، إذ يقتضي العمل وجود عين مختصة مراقبة على مدار الساعة.
ومضى قائلا “بصفتي مختص ترميم للآثار أطالب الدولة بالسماح بإيجاد شركات مختصة في ترميم المواقع الأثرية يعمل فيها أصحاب الشهادات الجامعية المختصون في الهندسة والتراث”.
وطالب المرابط بدعم المعهد الوطني للتراث بشريا، مؤكدا أن “المعهد يعمل دون إمكانيات” .
أمر جلل
سمير فيالة ناشط بالمجتمع المدني بالقيروان التقته الأناضول وهو ينظر بحسرة للسور المنهار جنوب شرق المدينة العتيقة، ويقول إن “الترميمات الحاصلة فيه هبة عُمانية وافق عليها مجلس الوزراء العماني عام 2014 بقيمة 1.4 مليون دولار وتم صرف القسط الأول عام 2015 وهو 500 ألف دولار”.
وأضاف فيالة: حصلت أشغال منذ 2014، ولا ندري هل كانت عميقة أو متوسطة؟ ثم توقفت الأشغال، ومنذ شهرين رجع العمال للعمل.
وتابع الناشط “الذي أصابنا بالتعجب أن من أخذ الصفقة مقاول عادي غير مختص في ترميم الآثار عبر مناقصة حكومية، ولا ندري إن كان عماله مؤهلين للقيام بمثل هذه الأشغال الدقيقة رغم الوعود بالمراقبة”.
وزاد قائلا “الانهيار حدث فجائيا وهو أمر جلل حدث في القيروان، ونحن لنا 3 عمال كانوا يعملون على ترميم السور توفوا تحت ركام السور المنهار”.
مدينة عمرها 14 قرنا
يقول فيالة “نحن في مدينة عمرها نحو 1400 سنة، وليس من السهل أن تجد مدينة قائمة الذات مثل القيروان”.
وأضاف “هناك 3 معالم مهمة تمتاز بها الولاية عن غيرها في تونس هي: السور والجامع الأعظم (عقبة ابن نافع) وفسقية الأغالبة”.
وحول أهمية السور بالنسبة لمواطني القيروان قال فيالة “السور إحدى ركائز وشعارات مدينة القيروان”.
من جهته قال السيد العلاني المحافظ السابق لمتحف الحضارة والفنون الإسلامية بمدينة “رقادة” التابعة للقيروان -للأناضول- إن السور هو حُسَيني رمّم في القرن 18 وتمت المحافظة على جميع المواد التي تبنى بها القيروان عامة الآجُر المشوي والتربة البكر”.
وقال العلاني “لاشك أن للماء علاقة بسقوط الجدار خاصة في البناء التقليدي”.
وأشار لوجود “مسؤولية جزائية يتابعها القضاء، وهناك مسؤولية معنوية تتمثل في أن هناك تراثا عالميا مهددا، فالقيروان مسجلة في التراث العالمي منذ 1988 وهي مدينة سياحية منذ 1965، إلا أن ما نراه وما نشاهده يدعو للفزع”.
وقال العلاني “بعد الثورة التونسية (عام 2011) فقدت جمعية صيانة المدينة العتيقة شراكتها مع المعهد الوطني للتراث وعادت سلطة ترميم المواقع للمعهد الوطني للتراث”.
وأضاف “في القيروان العتيقة 50% من الدور (المنازل) مُهدمة، وهناك صعوبات قانونية في ترميمها لصعوبة الحصول على المواد المطابقة للمواصفات وضعف المنح الحكومية المساعدة على ترميمها” وقيمتها 250 دينارا (نحو81 دولارا) وهي منحة لمرة واحدة تُعطى لمن يتقدم للسلطات بطلب لتحسين مسكن.
وكانت القيروان تعيش على الأحباس (الأوقاف) وألغاها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في يوليو/تموز 1957، وأحيل كل شيء للدولة، وفق المحافظ.
وذكر العلاني أن “من مشمولات جمعية الأوقاف الترميم، وكل المعالم لها أوقاف، وعند حلها المفروض تقوم بها الدولة. ولابد أن تضبط شروط القيام بذلك وصياغة القوانين التي تكفل ذلك، وهذا بإمكان الدولة القيام به”.
حماية التراث
وقال العلاني “من له جزء من التراث لابد له من كوادر وميزانية، فمثلا المساجد من اختصاص الشؤون الدينية، ووزارة الشؤون الدينية ليس لها ميزانية لترميم المساجد ولا الكوادر العلمية التي تؤمّن الترميم دون تشويه”.
وطالب “بميثاق (قانون) للمحافظة على مدينة القيروان لأن لها ميزاتها الخاصة”.
وتابع “في القيروان نتهيأ لحدث كبير وهو مرور 14 قرنا على تأسيس المدينة بعد نحو 5 سنوات، عندما نصل إلى سنة 1450 للهجرة”.
وزاد: “تأسست القيروان عام 50 للهجرة ومنها تم نشر الإسلام في أفريقيا وهو حدث كبير يجب أن نتهيأ له “.
وأضاف العلاني “إذا كانت الدولة تعيش أزمة مالية، والتراث يحتاج إلى تمويل كبير وكوادر حقيقية فيمكن أن نوظف طوابع (للتبرعات) تباع لخدمة التراث في المدينة لحماية التراث”.
وقد انطلقت أشغال تنفيذ مشروع الهبة العمانية في مرحلة أولى بعدد من المعالم التراثية بالقيروان سنة 2016، وتواصلت الأشغال طيلة السنوات الماضية وهي مشرفة على النهاية قريبا، وفق تقنيات ومعايير صيانة تونسية، ويأتي ترميم سور المدينة العتيقة كآخر مرحلة من المشروع.
وتحتوي مدينة القيروان على مئات المعالم الأثرية المهمة التي توثق تاريخ انتشار الإسلام، ونجد على رأسها فسقية الأغالبة والسور التاريخي وجامع عقبة بن نافع.