مرَّ عامٌ منذ الإبلاغ عن تفشّي سلالة جديدة وأكثر فتكًا من فيروس جدري القرود في وسط أفريقيا. منذ بداية العام، تم الإبلاغ رسميًا عن أكثر من 20 ألف حالة إصابة، و500 حالة وفاة على الأقل، معظمهم من الأطفال، ولكن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى بكثير. وكان مركز تفشي الوباء في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي شهدت العدد الأكبر من الوفيات.
في منتصف أغسطس/آب، أعلنت منظمة الصحة العالمية أنّ تفشي جدري القرود، يمثل “حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا”. وعلى الرغم من شعور دول العالم بالقلق، فإن قلة منها أدركت أن هذا الوضع كان بالإمكان تجنّبه، لو توقفنا عن معاملة فئات كثيرة من البشرية كأرواح ثانوية يمكن الاستغناء عنها.
قبل عامين، واجهنا إنذارًا أوليًا عندما انتشرت سلالة أقلّ فتكًا من جدري القرود في أوروبا والولايات المتحدة. وتم تنظيم حملات التطعيم بسرعة نسبية. ومع ذلك، لم يستخلص أحد أي دروس من مخاطر تجاهل الأمراض المنتشرة في وسط أفريقيا.
ومع انحسار الذعر، على الأقل في واشنطن ولندن وبروكسل، عمدت الحكومات الغربية إلى تخزين كميات ضخمة من اللقاحات لنفسها، بينما نُسيت أجزاء من أفريقيا، حيث كان جدري القرود مستوطنًا لعقود. وعلى الرغم من إنتاج ملايين الجرعات، لم تحصل أفريقيا على نصيبها من اللقاحات.
وفي الأسبوع الماضي فقط، حصلت أفريقيا على أولى جرعات اللقاح. ففي 27 أغسطس/آب، قدمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية 10,000 جرعة إلى نيجيريا. وفي 5 سبتمبر/أيلول، تلقت جمهورية الكونغو الديمقراطية أخيرًا 100,000 جرعة. ورغم أن اللقاحات كان بإمكانها كبح انتشار المرض بشكل كبير، فإن هذه التبرعات جاءت متأخرة جدًا.
هناك العديد من الأطراف التي تتحمل المسؤولية عن هذا الوضع. لكن جوهر المشكلة، – كما شهدناه في التوزيع غير المتكافئ للقاحات كوفيد- 19 عالميًا – يكمن في أن بعض الأرواح ببساطة تبدو أقل أهمية من الربح، ومراكمة الثروة بيد البعض.
هناك شركتان رئيسيتان تنتجان لقاحات جدري القرود: شركة يابانية تُدعى “كيه إم بايولوجيكس”، وأخرى دانماركية تُدعى “بافاريان نورديك”. وقد شهدت أسهم الأخيرة ارتفاعًا في الأسابيع الأخيرة بفضل تفشي جدري القرود. تم تطوير اللقاح بفضل استثمارات هائلة من الأموال العامة، لكن الشركة حددت سعر الجرعة عند 200 دولار، وهو مبلغ خارج متناول العديد من البلدان الأفريقية. وذهبت معظم الجرعات المنتجة إلى الولايات المتحدة، والدول الغنية الأخرى.
تخشى مجموعة “المواطن العام” الأميركية أن تكون “بافاريان نورديك” تستغل الأزمة الصحية العالمية الحالية، وتضع الأرباح فوق حياة الناس. وتؤكد المجموعة أن سعر اللقاح يمكن تخفيضه إذا ما قامت الشركة بمشاركة تقنيتها مع المصانع في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. فهناك لقاحات مشابهة يتم إنتاجها بتكلفة 4 دولارات للجرعة أو أقل. الأهم من ذلك، ستكون أفريقيا حينها قادرة على تلبية احتياجاتها في المستقبل.
لكن الشركة ترفض ذلك، بحجة أن هذا لا يتماشى مع نموذج أعمالها. وبدلًا من ذلك، تشجع الحكومات الغنية على شراء اللقاحات بالسعر الكامل ومن ثم التبرع بها. ولكن حتى هذا لم يحدث. باستثناءات قليلة، مثل إسبانيا التي تعهدت بالتبرع بـ500,000 جرعة من مخزونها، ولكن بقيت تبرعات الدول الغنية لا تغطي إلا جزءًا ضئيلًا مما هو مطلوب لتجهيز جمهورية الكونغو الديمقراطية لأزمات المستقبل.
يقال إن الحصول على اللقاحات هو مجرد جزء من المشكلة، وإن تنظيم وإدارة توزيعها يمثلان تحديًا ضخمًا. هذا صحيح إلى حد ما، لكنه لا يبرر الاحتكار التقني وارتفاع الأسعار.
وبالرغم من انتشار المرض، عارضت بعض شركات الأدوية، بدعم من الدول الغنية، إطارًا جديدًا لما بعد جائحة كوفيد-19 كان يمكن أن يفيد. يسمى هذا الإطار، “معاهدة الجائحة”، وهو يهدف إلى تمكين العالم من الاستعداد بشكل أفضل لمواجهة الأوبئة المقبلة، مع الاعتراف بأن سلامة البشرية مترابطة. لكنْ المملكة المتحدة ودول غنية أخرى عطلت العملية؛ خوفًا من اتفاق دولي قد يضع حياة البشر فوق أرباح شركات الأدوية الكبرى. حقوق الملكية الفكرية لهذه الشركات تأتي في المقام الأول على حياة الناس في الجنوب العالمي.
إنّ الفشل في منع انتشار الوباء في أفريقيا يرجع إلى أبعد من ذلك بكثير. الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي تضع قيمة الحياة البشرية في أولوية تالية لحقّ الربح الذي لا يمكن المساس به. هناك جرعات ضخمة من العنصرية يتم ضخّها في الخطاب العام “لتبرير” سبب كون جمهورية مثل الكونغو الديمقراطية تعاني هذا العجز بسبب الفقر، وسبب كون شعبها عديم القيمة.
وفقًا لبعض التقديرات، ينبغي أن تكون جمهورية الكونغو الديمقراطية أغنى دولة في العالم؛ نظرًا لثرواتها من المعادن التي لا غنى عنها في حياتنا الحديثة. لكنها على أرض الواقع، واحدة من أفقر الدول في العالم من حيث الدخل. السبب في ذلك هو أن ثرواتها استُنزفت على مدار قرون من الاستعمار الوحشي والعبودية، فيما اغتيل سياسيّوها الديمقراطيون، واستُبدلوا بدكتاتوريين يحظون بدعم المستعمرين السابقين، وفُرضت ديون هائلة غير شرعية على الشعب، وسُرقت مواردها الطبيعية.
جمهورية الكونغو الديمقراطية ليست فقيرة فلديها ثروتها الطبيعية، لكنها فقيرة بسببها، فحياة شعبها ببساطة لا قيمة لها أمام آلة استخراج المعادن التي تستغلّهم.
اليوم، ينتشر جدري القرود في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويؤثر على أولئك الذين يعيشون فوق الموارد التي تجعل الآخرين أثرياء. ويزعزع استقرار شرق البلاد مجموعات مسلحة، تدعمها دول مجاورة، لضمان استمرار نهب الموارد. والدول الغربية لا تفعل شيئًا لمنع هذه الزعزعة.
يجب ألا تستمرّ الأمور على هذا النحو، فالفرصة أمامنا محدودة. حان الوقت لنفهم أن صحة العالم مترابطة، وأن سكان وسط أفريقيا ليسوا بعيدين عنا. وتقديرنا واحترامنا لحياة هؤلاء في أفريقيا، يعنيان أننا يجب أن نعطي الأولوية فورًا للتطعيمات فوق أرباح الشركات وتخزين اللقاحات بأنانية.
نحتاج إلى تبرعات ضخمة، جنبًا إلى جنب مع المساعدة في توزيع اللقاحات وعلاج المرضى. ويجب أن ننقل المعرفة بتصنيع اللقاحات إلى الشركات المصنعة المحلية لتمكينها من إنتاج اللقاحات بنفسها، وبناء سيادة على الرعاية الصحية الخاصة بها للتعامل مع الطوارئ المستقبلية.
لكن هذا مجرد بداية. إن الوصول غير العادل إلى لقاحات جدري القرود يمثل صورة مصغرة لعلاقات عالمية ظالمة بحاجة إلى إصلاح، أكثرها إلحاحًا هو إنهاء زعزعة استقرار جمهورية الكونغو الديمقراطية، والقضاء على التهرّب الضريبي، ووقف نهب مواردها.
هذه مهمة ضخمة، لكن الاستمرار في تجاهل حياة شريحة من البشر لأنها تعيق تحقيق الأرباح، ليس فقط خطأ أخلاقيًا، ولن يقتصر ضرره على تعريضهم وحدهم للأوبئة الجديدة والخطيرة، بل سيعرض العالم بأسره للخطر. لن يكون أحد آمنًا في مثل هذا العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.