ربما لم يكن اسم جلعاد أردان معروفًا للكثيرين كسفير إسرائيل المستقيل في الأمم المتحدة قبل أن تنتشر مواقفه الفاقعة التي كانت أحيانًا تشبه حفلات تهريجٍ في مبنى الأمم المتحدة طوال السنوات الأربع الماضية.
هذا الشخص لم يكن معروفًا لدى الكثير من أبناء العالم العربي عندما كان على رأس إحدى أخطر وأهم الوزارات الإسرائيلية في حكومة نتنياهو السابقة بين عامي 2015 و2020، وهي وزارة الأمن الداخلي التي يرأسها الآن – بالمناسبة – المتطرف إيتمار بن غفير الذي غيّر اسمها إلى “وزارة الأمن القومي”.
عندما قرّر نتنياهو إرسال أردان إلى نيويورك ليكون سفير إسرائيل في الأمم المتحدة في مايو/أيار من عام 2020 بعد شهرين فقط من انتخابات الكنيست في ذلك العام، رأى كثير من المراقبين يومها أن هدفه الأساسي كان إبعاده عن الساحة الداخلية في إسرائيل؛ خوفًا منه.
حيث لم يكن أردان يخفي في ذلك الوقت نيته الترشح لرئاسة حزب الليكود وتقديم نفسه بديلًا لنتنياهو بعد ما كان يعدّه إنجازات كبيرة في وزارة الأمن الداخلي، خاصةً أنه كان يعتبر نفسه المجدد الأكبر والأقوى لعقيدة الشرطة الإسرائيلية في القدس، وأحد أكثر وزراء الأمن الداخلي تأثيرًا على تغيير طريقة سير عمل شرطة الاحتلال في القدس بالذات وبقية مناطق الخط الأخضر. وكان الحل الأمثل الذي رآه نتنياهو في ذلك الوقت هو إبعاده إلى نيويورك فيما يشبه النفي.
لكن أردان قلب المعادلة في نيويورك وتحول ليصبح نجمًا في وسائل الإعلام العالمية كلما قام بإحدى حركاته الاستعراضية التي كانت كثيرًا ما توصف بالبهلوانية والتهريجية السمجة فوق منبر الأمم المتحدة، كما حدث عندما حمل أحد قرارات الأمم المتحدة وألقاه في سلة القمامة أمام العالم، أو عندما أقدم على تمزيق ميثاق الأمم المتحدة أمام العالم؛ احتجاجًا على التصويت بقبول عضوية فلسطين الكاملة في المنظمة، أو عندما كان يوجه الشتائم علنًا لجميع دول العالم دون خجل.
مرورًا بالحركة التي أثارت غضب العالم وحتى غضب مؤسسة “الكارثة والبطولة” في إسرائيل، عندما ارتدى الشارة الصفراء التي كانت تميز اليهود في ألمانيا النازية إبان أحداث الهولوكوست، حتى أنهاها بإطلاق تصريحات صارخة، مثل دعوته الأخيرة لتدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض!
هذه الحركات وإن كانت تبدو للمراقبين والدبلوماسيين صبيانيةً وسخيفةً، إلا أنها كانت دائمًا مقصودةً من قبل أردان، حيث يبدو أنه فهم هدف نتنياهو من إبعاده تسعة آلاف كيلومتر عن مسرح السياسة في تل أبيب، ولذلك صمم على ألا يترك الفرصة لنتنياهو لينجح في تغييبه عن الساحة، وبدلًا من ذلك كان يسعى لاستغلال أية فرصةٍ لخطف الأضواء عبر حركةٍ هنا أو كلمةٍ هناك، بنفس أسلوب إيتمار بن غفير الشعبوي الذي جعل بعض مبغضيه في الداخل الإسرائيلي يلقبونه بوزير التيك توك.
وبدلًا من أن يخفت اسم جلعاد أردان في الداخل الإسرائيلي رأيناه يلمع عالميًا بشعبويته وأسلوبه المتعجرف اللامبالي، وهو الأسلوب الذي يعجب أتباع اليمين الإسرائيلي الذين يعتبرون أن التفوق العرقي والديني هو ما يميز الإسرائيليين عن العالم كله.
لذلك، ومع انتهاء مهمة أردان بالاستقالة بعد فضيحة مالية لم تأخذ مساحتها اللازمة من التغطية والمتابعة في الساحة الإسرائيلية بعد، فإنه سعى للفت الأنظار لنفسه في اللحظات الأخيرة، فخطب خطابه الأخير الذي ختمه كعادته بتوجيه شتائم وإهانات للأمم المتحدة واتهامها باللاسامية والافتخار بجيشه الذي اعتبره “الأكثر أخلاقيةً في العالم”!
ثم نشر فيديو من أروقة مبنى الأمم المتحدة يهاجم فيه المعرض الذي وضع في قاعة مدخل مبنى الأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم، الواقع في 21 أغسطس/آب من كل عام، وذلك ببساطة لأن المعرض نشر صورة ضحية فلسطينية قتلت خلال عمل إرهابي في نيوزيلندا ولم ينشر أي صورة لإسرائيليّ ضحية “للإرهاب الفلسطيني” على حد قوله.
واستغل ذلك للدعوة صراحةً لإلغاء منظمة الأمم المتحدة وتأسيس منظمة بديلة لها، ليظهر بعد ذلك مباشرةً في مقابلة مع قناة i24 الإسرائيلية ويدعو صراحةً لتدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض، وإغلاق كافة مقرات الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها في الأراضي المحتلة.
هذه التحركات كلها لم تكن عبثية، ففي نفس المقابلة التي بثتها الشبكة الإسرائيلية وتناقلت فحواها بعض الصحف الإسرائيلية، لا سيما الدعوة الفجة لتدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض، حرص جلعاد أردان على أن يعلن أنه يرى نفسه زعيمًا لحزب الليكود بعد نتنياهو. وبهذا فإن أردان كشف أخيرًا عن حقيقة حركاته الشعبوية وأهدافها طوال السنوات الماضية، بل ربما منذ تسلّمه حقيبة الأمن الداخلي في إسرائيل عام 2015.
حين كان جلعاد أردان وزيرًا للأمن الداخلي في إسرائيل، شهدت فترة تسلُّمه هذا المنصب عددًا من الأحداث الخطيرة في الأراضي الفلسطينية، حيث استهل أردان منصبه بمواجهة موجة الطعن بالسكاكين التي اجتاحت القدس خلال أحداث هبّة القدس في ذلك العام، كما أنه كان المسؤول عن شرطة الاحتلال خلال أحداث هبة باب الأسباط والبوابات الإلكترونية في القدس عام 2017، وأحداث هبة باب الرحمة بالمسجد الأقصى المبارك عام 2019.
خلال هذه المرحلة المعقدة، شهدت مدينة القدس في ظل وزارة أردان تغييرًا جوهريًا في عقيدة شرطة الاحتلال في المسجد الأقصى، حيث عكف أردان على تعديل عمل شرطة الاحتلال لتتحول إلى حماية المستوطنين في المسجد الأقصى خلال أدائهم عمليات الاقتحام، وهو ما كان جلعاد أردان قد تفاخر به في مقابلة تلفزيونية على إحدى الشبكات الإسرائيلية خلال انتخابات عام 2020.
وهو كذلك ما جعله مقربًا بشكل واضح لليمين المتطرف الإسرائيلي، وخاصة تيار المستوطنين المتدينين، بالرغم من أنه محسوب على التيار العلماني اليميني المتطرف، لا على التيار الديني لأنه ببساطةٍ ليس متدينًا.
تقديم جلعاد أردان نفسه في هذه المرحلة بديلًا لنتنياهو اعتمادًا على تاريخه في وزارة الأمن الداخلي ومواقفه في الأمم المتحدة، قد يزيد الانقسامات في صفوف اليمين الإسرائيلي نفسه في هذه المرحلة بدلًا من توحيدها خلفه، فأردان جاء ليقدم نفسه اليوم بديلًا لنتنياهو اعتمادًا على ظنه بأن اليمين المتطرف الإسرائيلي ما زال يتذكر ما فعله لأجله أثناء وزارته بين عامي 2015 و2020، وبالتالي فهو يعتبر أن وقت سداد المعروف الذي قدمه لهذا التيار قد حان الآن ليقدم له بالمقابل الدعم ليأخذ مكان نتنياهو في رئاسة حزب الليكود.
لكن ما يبدو أن أردان أخطأه في حساباته في هذه المرحلة هو أن السنوات الأخيرة شهدت صعود منافس شرس له من قلب تيار الصهيونية الدينية وهو إيتمار بن غفير الذي يعلن بوضوح طموحه لقيادة اليمين كله في إسرائيل لا تيار الصهيونية الدينية وأقصى اليمين المتطرف فقط. وكذلك ظهور بتسلئيل سموتريتش على الساحة الإسرائيلية بقوة، وإن لم يكن قد صرح بعد بأي طموح له بقيادة اليمين في إسرائيل كما فعل بن غفير.
وما دام تيار الصهيونية الدينية الذي يمثل جماعات أقصى اليمين التي خدمها جلعاد أردان خلال وزارته أيما خدمة قد تمكن من تصعيد شخصيات من الكتلة الصلبة للتيار لتكون بديلًا لا لنتنياهو فقط بل لحزب الليكود ككل، فلماذا قد يميل أفراد هذا التيار إلى شخص من خارج تيارهم مثل جلعاد أردان وفي وسعهم أن يكونوا هم على رأس اليمين دون حاجةٍ لأحد؟
لذلك، أرى أن جلعاد أردان لن يكون له حظ كبير في المستقبل مع أفراد تيارات أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل. كما أن عودته إلى الساحة السياسية الداخلية في هذه الفترة لمحاولة منافسة نتنياهو أو إبعاده عن الساحة والحلول محله، أو حتى الانتظار حتى تأتي النهاية السياسية الحتمية لنتنياهو، لن تساعده ليحل محله ويتزعم اليمين الإسرائيلي.
ويبدو لي أن نتنياهو كان أذكى من أردان حين أبعده عن الساحة الداخلية الإسرائيلية، وجعله يلعب في الساحة الدولية بعيدًا عن الداخل الإسرائيلي.
فأردان لم يكسب من كل ذلك إلا احتقار شعوب الأرض وسياسييها على حد سواء لمواقفه التهريجية السخيفة، وأظن أنه لم يكسب اليمين الإسرائيلي المنشغل عنه اليوم بمشاريع كبرى يقدّمها أقصى اليمين مباشرةً وخاصة بوجود شخصية تنظيرية قوية كـ “سموتريتش”، ووجود بديل يقدم نفس الوصفة الشعبوية لأردان، وهو بن غفير. فأردان أصبح خارج اللعبة السياسية في إسرائيل اليوم، ولن يكون له أكثر من ذكريات فيديوهاته التي يمكننا إدراجها ضمن فئة الكوميديا السياسية السوداء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.