يحلو للرئيس التونسي قيس سعيد أن يصف المسار الذي فرضه منذ الخامس والعشرين من يوليو/تموز بالعلو الشاهق. هو بذلك يشير في نفس الوقت إلى بعدَين في الوضع الجديد الذي باتت البلاد تعيشه ويصفه أنصاره بالتصحيح، بينما يراه خصومه انقلابًا غير تقليدي على مسار الانتقال الديمقراطي.
يتمثل البعد الأول في رفعة وعلو المسار لجهة ما يرفعه من شعارات ويسوق له من قيم، فهو استرداد للبلاد من يد نخبة سياسية فاشلة ومتناحرة ومتواطئة مع قوى الشر في الداخل والخارج، وهو كذلك حرب على الفساد ودوائر النفوذ السياسية والاقتصادية المتحالفة لتبادل مصالح ومنافع مشتركة على حساب عامة الشعب.
أما البعد الثاني فيحيل على مشقة الطريق التي يرى الرئيس سعيد أنه على الشعب التونسي أن يسلكها في رحلته نحو ما يعتبره تحررًا وانعتاقًا حقيقيًا إلى درجة أنه لا يتوانى في وصف المعركة التي يخوضها بكونها حربًا للتحرير تجري من قبل الدولة والوطنيين المخلصين من أبناء الشعب، ضد من لا يتوانى الرئيس التونسي في وصفهم بالخونة والعملاء، بل أيضًا بالحشرات والمخمورين الذين يجب تطهير البلاد منهم.
في الوقت الذي تصف فيه المعارضة التونسية هذا الخطاب الرئاسي بغير المسبوق في خطورته والذي يقسم التونسيين ويحرض بعضهم على بعض، تلتحق عبارة “البناء القاعدي الجديد” بقاموس الرئيس قيس سعيد لتضع هذه المعركة في إطار أوسع تاريخًيا وجغرافيًا، ذلك أنها ومن منظور مسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز تتعلق بمعضلة عانت منها دولة الاستقلال في تونس منذ نشوئها، وهي التي أنتجت مشاكل عويصة سرعان ما تحولت إلى أزمات انتهت في واحدة من ذُراها إلى ثورة ألفين وعشرة التي أجبرت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي على الهرب.
إنها معضلة توزيع السلطة والثروة التي تشكل ميراثًا لحقبتَي الراحلين بورقيبة وبن علي، لم يفلح الانتقال الديمقراطي أو لم ينل الوقت الكافي والظروف المناسبة لمعالجتها والتعامل مع مفاعيلها التي تحيل على مجموعة من السلالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي صنعت في النتيجة فئات مختلفة ورسمت علاقات أفقية وعمودية مأزومة بينها.
الدولة الاجتماعية
في كل الأدوار التي مرّت بها الدولة والمجتمع في تونس، حافظ مصطلح الدولة الاجتماعية على حضور بارز في خطاب السلطة والمعارضة، مثّل بمقدار ما مساحة مشتركة لم يتم العمل على استثمارها لأجل بناء مشترك سياسي واجتماعي يثمر حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي المستدام، وإنما على العكس من ذلك، شكّل ذلك المفهوم ساحة أخرى للتراشق بل وللصراع السياسي بين منظومة الحكم وتيارات المعارضة التي تناوبت في تعبيراتها الفكرية المختلفة على الحديث باسم الشعب ورفع مطلب التغيير.
لعل هذا الإطار هو الذي سمح بنقاش في بواكير ثورة ألفين وعشرة عن أفق الثورة، وإذا كان المزاج العام الذي غلب هو أن التغيير يجب أن يتجه إلى النظام السياسي وليس إلى الدولة وإدارتها، في محاولة لتجنب الوقوع في نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه نظاما بورقيبة وبن علي، وهو الخلط المرضي بين القائد والحزب الواحد والدولة، فإن ذلك لم يمنع من طرح نقاش واسع لم يأخذ مداه ولم تقده نخبة مستقلة عن الأجندات الحزبية يتعلق بنقد “المنوال القديم”، والدعوة إلى “منوال جديد” يقطع مع الماضي ويؤسس لجمهورية جديدة.
كانت “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة”، ثم الذهاب نحو انتخابات تشكل على أساسها “المجلس التأسيسي” وكتابة دستور ألفين وأربعة عشر وانبثاق خمس هيئات دستورية مستقلة عنه، تعبيرًا بقي فوقيًا عن رغبة التأسيس واستبدال السلالم القديمة بأخرى مختلفة تقود إلى ترقٍ سياسي ديمقراطي شفاف، واجتماعي يكرس اللامركزية التنموية، ويضمن التكافؤ في الفرص، واقتصاديٍّ يكافح مظاهر الفساد والمحسوبية، ويوزع الثروة على نحو يقلص الفوارق بين الجهات، وإعلاميٍّ يضمن حرية الرأي والتعبير، ويفتح المجال أمام نقاش تعددي حر لقضايا الشأن العام بأنواعها.
بقطع النظر عن النوايا الطيبة من عدمها، وعن الأخطاء مقابل العِصي التي وضعت في العجلات لتعطيلها، يتسالم الجميع تقريبًا في تونس على أن غياب التوازن بين النسقين السياسي والتنموي أفقد الانتقال الديمقراطي رصيده إلى حد كبير، وحوله إلى مؤسسات فوقية تشهد محاصصات حينًا وجولات ساخنة من الصراعات الحزبية أحيانًا، وصلت في شكلها إلى درَك يجزم الديمقراطيون في تونس أنه تم جرّ البلاد إليه حتى مهّد في وقت لاحق لطي صفحة القوس الديمقراطي والذهاب بعد إلى ذلك إلى نوع من الحكم الفردي شبه المطلق ذلك الذي كتب فيه الرئيس سعيد الدستور الجديد بنفسه، وفيه منح نفسه صلاحيات غير مسبوقة ومنزوعة من أي إمكانية لمحاسبته على سياساته ومراسيمه، وما يتم فعله تحت مظلة حكمه من قبل الأجهزة التي هي تحت إمرته.
تونس الراهنة
لتونس الراهنة صورتان متناقضتان لدى الحكم والمعارضة، فخصوم الرئيس سعيد يرون أن البلاد دخلت مرحلة من العبث والتخريب الذي تصفه الأرقام والنسب الاقتصادية ويلمسه رجل الشارع في ارتفاعٍ جنوني للأسعار، وفقدان للسلع الأساسية وتردٍّ خطير في الخدمات التي تقدمها الدولة، ومناخٍ اجتماعي محتقن جراء تفشّي البطالة وانعدام الأفق الاجتماعي وانفلات مشكلة مهاجري جنوب الساحل والصحراء.
في حين يرى أنصار “المشروع” الذي يقوده الرئيس سعيد أن البلاد شرعت تستعيد دولتها وعافية مجتمعها، وأنها إنما تعاني تركة عقود، وأن المصاعب الاقتصادية ثمن لا بدّ منه للإقلاع الحقيقي، مشيدين بما تم – من وجهة نظرهم – تحقيقه في الحرب على “لوبيات الفساد” والسياسيين الفاسدين بعد أن كانوا محصنين في أبراج مصالحهم العاجية.
مشيرين إلى أهمية وحيوية عملية “إعادة الهيكلة” التي تمر بها الدولة في سياق التمكين للمنوال الجديد، وهو ما سمح بتجديد الطبقة السياسية الحاكمة في شخص وزراء لم يكن التونسيون يعرفونهم كثيرًا من قبل، وكذلك في شخص محافظين (ولاة) ومسؤولين، كثير منهم ينحدرون من فئات اجتماعية ضعيفة ظلت مهمّشة إلى عقود متتالية.
هي الوجوه الجديدة ذاتها التي تقول المعارضة إنها أمثلة صارخة للمحسوبية وانعدام الكفاءة وافتقاد الحد الأدنى من الخبرة والدراية، فضلًا عن الرؤية لكيفية تسيير دواليب الدولة والاستجابة لمطالب الشعب.
وترى معارضة الرئيس سعيد أن ما بني على ما يعتبرونه انقلابًا من مجلس نيابي ومن مجلس للأقاليم والجهات، وما يتم الترويج له من “شركات أهلية” شرعت تضع يدها تدريجيًا ودون ضمانات على اعتمادات مالية من البنوك وعلى مقدرات للدولة، إنما هي مأسسة للولاء المطلق للرئيس مطلق الصلاحيات وتوزيع للغنائم على من يسيرون في ركابه ويخوضون المعارك الحقيقية والافتراضية ضد خصومه.
اختبار انتخابي
في ظل هذه الهوّة السحيقة بين المقاربتين، من الطبيعي أن تشكل الانتخابات الرئاسية محطة مفصلية يتجدد فيها النقاش الحاد بين الطرحَين، وهو ما كان يجري بشكل ديمقراطي وشفّاف في الانتخابات الرئاسية والتشريعية طيلة حقبة الانتقال الديمقراطي، ذلك أن كل الأطراف ورغم صراعاتها كانت تنضبط للمسطرة الانتخابية الديمقراطية، وتخوض فيما بينها منازلة تتبادل ضمنها المحاسبة والمساءلة والانتقادات اللاذعة والدعوة للتغيير.
وهو الأمر الذي جعل تلك الأطراف المتنافسة والمتنافرة تتقبل في كل مرة النتائج التي يقود إليها الصندوق على الأقل بوصفها نتائج تعيد توزيع موازين القوى وإنتاج أطراف وظروف التحالفات والمعارك السياسية، غير أن الأمر اختلف هذه المرّة في انتخابات ألفين وأربعة وعشرين المرتقبة.
بعد إعلان هيئة الانتخابات في تونس وسط جدل سياسي ساخن عن قبولها ملفات ثلاثة مترشحين، بينهم الرئيس سعيد دون غيرهم، وهي القائمة النهائية التي استبعدت أسماء وصفت بالجدية في منافسة الرئيس الحالي، سارع المترشحون المستبعدون ومِن ورائِهم عامة المعارضين لمسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز إلى اتهام سعيد بكونه استعمل السلم الديمقراطي للوصول إلى الحكم، والصعود إلى سدته، ثم قام بسحبه وشرع يتعامل فوقيًا مع الساحة السياسية محتكرًا أجهزة الدولة ومستعملًا مقدراتها؛ لأجل إنتاج انتخابات على المقاس معلومة النتائج مسبقًا.
وهو الأمر الذي نفاه الرئيس سعيد بشدة يوم أودع ملف ترشحه لدى هيئة الانتخابات مكذبًا تسليط أي مضايقات على معارضيه في الوقت الذي تلاحق فيه ملفات قضائية الأغلبية الساحقة من المترشّحين ضده، وتم حجب بطاقة نقاء السوابق العدلية عن بعضهم؛ ما أدى إلى إنهاء مشاركتهم في المنافسة الانتخابية.
تطورات وأدَت التشويق الانتخابي في مهده، فبالنظر إلى الأسماء المطروحة ليس من شك أن الرئيس قيس سعيد بات في طريق مفتوحة نحو عهدة رئاسية جديدة، لم يتردد معارضوه في الحديث عن مسرحية انتخابية ستؤسس لها، نازعين عنها مسبقًا أي شرعية في المستقبل.
وبالنظر إلى محطّات انتخابية سابقة ضمن المسار الحالي يطرح السؤال لدى كثيرين عن مدى شفافية ونسبة المشاركة في هذه الانتخابات الرئاسية، ذلك أن النسب التي تم تسجيلها يضاف إليها مسيرات خرجت لتأييد الرئيس سعيد، وثقت لمشاركةٍ بعضُها تاريخيٌّ في تدنيه، وهو الأمر الذي فتح الباب للقراءة في دلالات ذلك بين من اعتبرها دليل فشل ذريع وعدم شعبية للخيارات الرئاسية، ومن يراها مجرد نتيجة للتأثيرات السلبية لما يصفونه بالعشرية السوداء، في إشارة إلى عشرية الانتقال الديمقراطي.
بين هذا وذاك، تهمس أصوات ضعيفة ومهمشة بأن حرب السلالم السياسية الانتخابية وتلك الاجتماعية والاقتصادية على غاية من الأهمية؛ لأنها مؤشر على التحولات التي تشهدها البنى العميقة للدولة والمجتمع، إلا أن الأهم منها هو الدرس التاريخي المتعلق بالشأن السياسي الانتخابي، ذلك أن طريقة الوصول إلى الحكم من خلال السلم الديمقراطي ثم مصادرته، قد تحسم معركة ضد الخصوم لكنها في المقابل تصنع مشكلة عويصة عانى منها الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وهي كيفية النزول من شجرة الحكم.
فلقد مرت البلاد في أواخر حكمه بجدل بخصوص تعديل الدستور للسماح له بولاية إضافية، وصار يحاول التأسيس لضمانات دستورية قانونية تتعلق باليوم التالي للحكم، أي كيفية الخروج منه، وذلك عبر قوانين من قبيل التنصيص على “عدم محاسبة الرئيس وعائلته أثناء وبعد ولايته الرئاسية”، وكذلك من خلال قانون المراكنة الذي يسمح للرئيس بإحالة أملاكه إلى أفراد من عائلته، غير أن عواصف الغضب الاجتماعي هبّت لتطيح بخططه كلها من قبل شباب في سنة سماها بن علي سنة الشباب وأقنع الأمم المتحدة بتبنيها.
في واقع الحال، يتحدث مراقبون عن حالة من الغموض تمرّ بها تونس سواء في المستوى السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي، الواضح الجلي فيها فقط هو استمرار الرئيس قيس سعيد على الأرجح في الحكم وسط تحذيرات من أن الخلطة الملغومة بين القائد والحزب الواحد والدولة، يجري اختزالها حاليًا في القائد الواحد ذي الرؤية الأحادية والصلاحيات المطلقة.
وهذا يؤذن في نظر البعض بأن انتخابات ألفين وأربعة وعشرين لن تكون محطة نقاش عام ومحاسبة وفرز وركون إلى الإرادة الحرة للتونسيين بتنوع أفكارهم ومشاغلهم، لتكون على العكس من ذلك قفزًا فوق الاستحقاقات التاريخية للمرحلة واستمرارًا لأوضاع يقول الحقوقيون وخبراء الاقتصاد والاجتماع إنها من بين الأسوأ في تاريخ البلاد.
فهل سيكون قيس سعيد العهدة الثانية، هو ذاته كما كان في العهدة الأولى؟
ذاك سؤال خطاب وسياسات ونتائج فعلية على الأرض، وحديث لن ينتهي بانتهاء انتخابات ألفين وأربعة وعشرين الرئاسية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.