بكين- قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وقبل أن يشارك في قمتي “أبيك” في البيرو ومجموعة العشرين في البرازيل، كانت بكين الوجهة الأولى للرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو على مدى الأيام الثلاثة الماضية حتى أمس الأحد، وذلك بعد نحو أسبوعين من تسلمه الرئاسة.
وأجرى سوبيانتو محادثات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي دعاه لزيارة بكين لتعزيز العلاقات بين البلدين التي وصفها بالإستراتيجية، مؤكدا على مفاهيم الثقة والدعم المتبادل والعدالة، وأن تصب العلاقات في صالح البلدين.
كما تحدث الرئيس الإندونيسي عن سعي بلاده للتعاون مع الصين في تعزيز التنسيق الثنائي، وأن يصبح البلدان أقرب إلى بعضهما بوصفهما شريكين إستراتيجيين في ظل الأوضاع الدولية المتأزمة.
من جهته تحدث الرئيس الصيني عن استعداد بلاده للعمل مع الحكومة الإندونيسية الجديدة بناء على الإنجازات السابقة، ودعا إلى تعزيز العلاقات في جميع الصعد الثقافية والاقتصادية والرقمية، وفي مجالات مشاريع البنية التحتية والأمن والشؤون البحرية، وما هو مرتبط بتعاون “مبادرة الحزام والطريق”.
وكان من اللافت خلال الزيارة توقيع وزراء إندونيسيين وصينين، وبحضور رئيسي البلدين، على بيان مشترك بطول 18 صفحة بشأن تعزيز الشراكة الإستراتيجية الشاملة، وفيه إشارة إلى قضايا كثيرة كتنامي قوة دول الجنوب، وأن التضامن بين البلدين سيعزز التنمية والاستقرار والأمن عالميا، ويسهم في تعددية القطبية وتحقيق “نظام دولي أكثر عدلا” يحمي مصالح الدول النامية في عالم “مضطرب ومتغير”.
وفي هذا الإطار تمت الموافقة على لقاء وزاري رباعي سيعقد لأول مرة العام المقبل ويجمع وزيري الخارجية والدفاع من الدولتين، لتعزيز التواصل الإستراتيجي بين بكين وجاكرتا في قضايا التعاون السياسي والأمني والاقتصادي.
أكبر شريك تجاري
وقع الجانبان خلال الزيارة على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والبروتوكولات في مجالات التنمية البحرية المشتركة والثروة السمكية والتعدين، والمعادن الخضراء (تستخدم في تكنولوجيا صديقة للبيئة)، ومصادر المياه، والأمن البحري، والاقتصاد الأزرق (يُعنى باستغلال البيئة البحرية والحفاظ عليها)، والإسكان.
ومنذ عام 2002، قطع التبادل التجاري بين الصين ودول “آسيان” وفي مقدمتها إندونيسيا خطوات متسارعة، باعتبار أن الدول في رابطة “آسيان” أعضاء مؤسسين في الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة “آر سي إي بي”، وهي أكبر اتفاقيات التجارة الحرة في العالم مساحة وسكانا، وقد دخلت حيز التنفيذ بالنسبة لإندونيسيا مطلع العام الماضي.
ويؤكد السفير الصيني لدى إندونيسيا باي وانغ لوتونغ، في مقال له بهذه المناسبة، أن الصين وللعام الـ11 على التوالي تُعد الشريك التجاري الأكبر لإندونيسيا، حيث بلغ التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي أكثر من 139 مليار دولار أميركي، وزار نحو 790 ألف صيني إندونيسيا عام 2023، بينما بلغ عددهم في النصف الأول من هذا العام نحو 570 ألف سائح.
وتشير أرقام هيئة تنسيق الاستثمار الإندونيسية إلى أن الاستثمارات الصينية تجاوزت 30 مليار دولار منذ عام 2019 وحتى الربع الأول من عام 2024، وأن الصين ظلت أحد الدول الخمس الأكثر استثمارا في إندونيسيا، وكانت ثاني أكثر الدول استثمارا العام الماضي بعد سنغافورة بقيمة بلغت أكثر من 7 مليارات دولار.
وتعد إندونيسيا بالنسبة للصين أكبر دول جنوب شرق آسيا سوقا، وهي سوق نامية وواعدة سكانيا وجغرافيا، ومن أكثرها ثراء من حيث الثروات الطبيعية، إضافة إلى موقعها الإستراتيجي في الملاحة الدولية وبالنسبة لطموحات مبادرة الطريق والحزام الصينية.
تايوان وشنغيانغ
أكد البيان المشترك الذي جرى التوقيع عليه خلال الزيارة على الدعم المتبادل لسيادة ووحدة أراضي الدولتين وأمنهما الوطني، وأن لكلا الدولتين الحق في الدفاع عن تلك المبادئ والحفاظ على استقلالها أمام أي تدخل أجنبي.
وأشار البيان إلى أنه بينما تحترم الصين وحدة الأراضي الإندونيسية وسيادتها، تكرر إندونيسيا التزامها بمبدأ الصين الواحدة المثبتة في القرار الأممي رقم (2758) وتعتبر أن “تايوان جزء من الصين”، وتؤيد سعي الحكومة الصينية لتحقيق الوحدة الوطنية سلميا، كما تعتبر إندونيسيا القضايا المتعلقة بـ”شينغيانغ” و”زيزانغ” شؤونا صينية داخلية وتدعم جهودها للحفاظ على التنمية والاستقرار فيهما.
ويستذكر البيان أن إعلان الرئيس الصيني شي جين بنيغ عن مبادرة “طريق حرير القرن البحري” على المستوى الدولي كان في إندونيسيا عام 2013، وأن مشاريع عديدة أنجزت في إطار التعاون الثنائي، ومنها القطار السريع بين العاصمة جاكرتا وباندونغ، كما أكدت الصين دعمها لتنمية منطقة صناعية في شمالي جزيرة كالمينتان، شمال شرقي جزيرة بورنيو.
وفي الجانب العسكري اتفق الجانبان على تعزيز التعاون العسكري والأمني، وتبادل الزيارة بين جيشي البلدين، وإجراء تدريبات مشتركة، بما في ذلك الاتفاق على إجراء أول تدريب ثنائي عسكري في مجال العون الإنساني وإغاثة الكوارث، وكان البلدان قد وقعا على اتفاقية تعاون دفاعي عام 2007.
التنمية البحرية
وذكر البيان أن الجانبين توصلا إلى تفاهم مهم حول التنمية المشتركة في المناطق ذات المطالب المتداخلة، واتفقا على تأسيس لجنة حكومية مشتركة لاستكشاف وتعزيز التعاون في هذا المضمار، بناء على مبادئ الاحترام المتبادل والمساواة والمصالح المشتركة.
كما أكد أن إعلان الجانبين لذلك سيكون في إطار التسهيلات الحكومية وآلية السوق، وأن التعاون سيستأنف في مجال صناعة وصيد الأسماك، وأن يستفيد الجانبان من اللجنة الصينية الإندونيسية المشتركة في مجال التعاون البحري، وصندوق التعاون البحري الصيني الإندونيسي، في مجال الأبحاث البحرية والحماية البيئية ومشاريع التنمية المختلفة.
كما اتفق الجانبان على تأسيس تعاون مؤسساتي بين خفر سواحل البلدين، مؤكدين -حسب البيان- على التنفيذ الكامل لما يعرف بإعلان سلوك الأطراف في بحر جنوب الصين، والإبرام المبكر لمدونة قواعد السلوك التي أجل الحسم بشأنها منذ سنوات بين الدول المطلة على بحر جنوب الصين.
ودفعت الفقرة التي تضمنت الحديث عن بحر جنوب الصين محللين أمنيين إندونيسيين إلى التساؤل عن مغزاها، وإن كانت تعني السعي إلى حل الخلافات الحدودية البحرية بشكل ثنائي مستقبلا، كما حصل في ترسيم الحدود البحرية بين إندونيسيا وفيتنام، مع فارق وجود خرائط متعددة بمسميات مختلفة لتلك البحار، وفي ظل تنازع المزاعم على السيادة من قبل عدة دول في منطقة آسيان.
القضية الفلسطينية
وفي جانب آخر، ثمّن الرئيس الإندونيسي موقف الصين تجاه القضية الفلسطينية، وأشار إلى أن بلاده تتبع سياسة خارجية مستقلة وغير منحازة لأي حلف مغلق ضد أي طرف ثالث.
كما عبر الجانبان عن “قلقهما العميق” بشأن الحرب الإسرائيلية والوجود الإسرائيلي غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة والفظائع الإنسانية الناجمة عن ذلك، وأكدا على أن القضية الفلسطينية هي أكبر جرح في الوعي الإنساني، معبرين عن قلقهما العميق من الأزمة الإنسانية التي أفرزها الصراع.
وأكد البلدان رفضهما لأي سلوك مخالف للقانون الدولي، وطالبا بوقف شامل لإطلاق النار من دون أي تأخير، مع التأكيد على ضرورة التعامل مع جذور الصراع، مؤكدين دعمهما الثابت للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبحصول دولة فلسطين على عضوية كاملة في الأمم المتحدة.
وتعهد الجانبان على العمل معا بخطوات ملموسة مع غيرهما من الدول من أجل تحقيق تسوية شاملة وعادلة ودائمة لقضية فلسطين ومن أجل سلام وأمن منطقة الشرق الأوسط.