تضل حكمة الإنسان ويفقد قدرته على التمييز، وهو ينظر في شؤون العالم. فبعد مضي سنة من القصف المكثف للشعب الفلسطيني الأعزل بغرض تدمير مقومات وجوده وأسباب بقائه، يتوسع الصراع ليشمل هذا القصف وهذا التدمير شعبًا آخر، وضاحية أخرى.
يعجز المرء عن التمييز، فتجده في حيرة متصلة، يسأل كيف يعجز العالم عن إيقاف مسلسل التهجير والتقتيل في حق شعوب المنطقة العربية الإسلامية، وكيف يبارك الغرب هذا المسلسل ويدعمه عسكريًا وسياسيًا، ماديًا ومعنويًا؟
إذا كانت الأمور تشي في ظاهرها بأن الصراع هو بين إسرائيل ومحيطها، فعند التحقيق يُدرَك بأن ما يقع هو امتداد لصراع يجمع الغرب الاستعماري ببقية العالم، وأن فلسطين ليست إلا نقطة التماس بين هذا الغرب وبين الآخرين.
ويأتي قبول الغرب للعنف المفرط والإبادة في حق شعوب المنطقة العربية والإسلامية ليعكس حالة قلق عميق مصدره عدم الوثوق بحاضر “فكرة الغرب” نفسها، وعدم الاطمئنان إلى مستقبل هذه الفكرة، كما نقرأ بين أسطر مقالة وزير الخارجية الأميركي حول إستراتيجية أميركا من أجل التجديد، وإعادة بناء القيادة لأجل عالم جديد.
يقول بلينكن إن العالم منخرط في تنافس شرس من أجل تحديد طبيعة العلاقات الدولية في الحقبة الجديدة، مضيفًا أن عددًا محدودًا من الدول يسعى إلى تغيير المبادئ التي يتأسس عليها النظام الدولي، دول تختلف من حيث أشكالها في التدبير، والأيديولوجيات التي تحكمها، والمصالح التي تحركها، وقدراتها المادية؛ لكنها تجتمع على ضرورة التمكين للاستبداد في الداخل، وفتح مجالات للتأثير في الخارج.
ويخيّر بلينكن الحلفاء بين أمرين: مواصلة العمل من أجل تثبيت التحالف تحت إمرة أميركا من أجل الانتصار على العالم الذي تمثله هذه القوى، أو السماح لها بفرض نظرتها وتحديد معالم القرن الواحد والعشرين.
حين نمعن النظر فيما جاءت به مقالة بلينكن حول تجديد أو تحيين إستراتيجية السياسة الخارجية الأميركية، نجدها تدخل في إطار التذكير بمنجزات الإدارة التي ينتسب إليها دعمًا لحملة الحزب الديمقراطي الانتخابية. هذا من وجه.
لكن من وجه آخر، يمكننا القول إن المقالة تظل في جوهرها سجينة بلاغة مستحكمة تدعو إلى الدفاع عن الحضارة الغربية وقيمها، وهي البلاغة التي تقول عنها “ناويزي ماك سويني” (Naoise Mac Sweeny) في كتابها عن الغرب، إنها تدعو إلى الدفاع عن “سردية مفلسة من الناحية الأخلاقية”.
تسعى سويني في بحثها القيم والشيق إلى إثبات أن مصطلح الغرب، كما نستعمله، ليس مصطلحًا يحيل على كتلة متحيزة في جغرافيا، بقدر ما هو مصطلح يحيل على مجموعة من المفاهيم السياسية – الثقافية
اختارت الباحثة وعالمة الآثار “ناويزي ماك سويني” لكتابها عنوانًا لا أفصح منه تعبيرًا عن جوهر الغرب، ألا وهو “الغرب: تاريخ جديد لفكرة قديمة” (The West: A New History of an Old Idea).
فالغرب، عند التحقيق، ليس مكانًا جغرافيًا، كما أنه ليس ماهية جامدة تتحدد بالانتساب إلى عرق أو دين أو تاريخ، بل إنه فكرة تقوم في جوهرها على جملة من التمثلات لهُوية تُتخذ وسيلة لبلوغ غايات سياسية في سياقات معينة.
فقارئ كتاب “سويني” ينتهي إلى التسليم مع الكاتبة بأن الغرب هو كتلة متخيلة، تمامًا كما ينتهي قارئ كتاب الراحل إدوارد سعيد عن الاستشراق، أو كتاب “الشرق المتخيل” (The Imaginary East) للكاتب والباحث “تيري هنتش” (Thierry Hentsch) إلى التسليم بأن الشرق ليس إلا كتلة متخيلة.
تسعى “سويني” في بحثها القيم والشيق إلى إثبات أن مصطلح الغرب، كما نستعمله، ليس مصطلحًا يحيل على كتلة متحيزة في جغرافيا، بقدر ما هو مصطلح يحيل على مجموعة من المفاهيم السياسية – الثقافية التي تصطبغ بصبغة الحضارة والثقافة.
من هذا المنطلق، يصبح السؤال عن جذور الغرب سؤالًا لا معنى له؛ يحل محله سؤال آخر متعلق بماذا نريد وكيف نريد لهذا الغرب أن يكون؟
تصدر “سويني” عن هذه المقدمات لتخلص إلى القول بضرورة القيام بإعادة قراءة للغرب، قراءة تُمكن من إعادة صياغة فكرته على النحو الذي يضمن لنا مستقبلًا أفضل. فقد أصبح من المعلوم بالضرورة عند “سويني” أن الركائز التي يقوم عليها الغرب تهتز اليوم بفعل ما يشهده العالم من تغيرات لا سبيل إلى إنكارها.
إن التركيز على الأصل الذي ينحدر منه الغرب أصبح مثابة قطب الرحى الذي تدور حوله كل الخطابات المتطرفة اليوم في السياق الأوروبي والأميركي. ترى “سويني” من الضروري تفكيك السرديات المتعلقة بأصول الغرب، والتركيز عوض ذلك على السؤال المتعلق بما يمكن أن يكون عليه الغرب، وما يكون منه في المستقبل.
في سعيها إلى تفكيك الأصول المتوهمة أو المتخيلة التي تقوم عليها فكرة الغرب، تقف “سويني” عند وجوه بارزة من التاريخ، تفرد لكل واحد منها فصلًا بغرض توضيح طبيعة علاقته بالغرب.
تقف عند “هيرودوت”، المؤسس لعلم التاريخ، فتوضح كيف كان هذا المؤرخ أقرب إلى الشرق منه إلى فكرة الغرب. ثم تعرج على الكندي كي تبرز كيف كان العقل الإسلامي أقرب إلى العقل اليوناني من العقل الغربي المتوهم.
كما تقف عند السلطانة التركية صفية، زوجة السلطان العثماني مراد الثالث، لتوضح كيف كان الغرب منقسمًا على ذاته انقسامًا حادًا بين الكاثوليك والبروتستانت، وكيف كان التحالف البروتستانتي الإسلامي يضرب الطوق على الكاثوليكية، بحيث أصبح شعار البروتستانت هو “أن تكون تركيًا خيرٌ لك من أن تكون من أتباع البابا”.
إن القول بأصول الغرب المشتركة قول أقرب إلى الهذيان منه إلى شيء آخر. فالغرب على الحقيقة هو فكرة أخذت في التشكل في زمن “فرانسيس بيكون”، هذا المثقف الموسوعي الذي انتهت إليه معارف العالم الكلاسيكي، وعُرف بصياغته لـ “علم الآلة الجديد” (Novum Organum)، خلفًا لعلم الآلة القديم الذي حكم الحقبة الكلاسيكية.
مع فرانسيس بيكون انتقل العقل من مرحلة البحث عن الحقيقة في عالم الأذهان، إلى مرحلة التجربة العلمية؛ بغرض التحكم في الطبيعة في عالم الأعيان. وقد أصبح التحكم في الغير، وفي الآخرين، جزءًا من التحكم في الطبيعة.
تقف “سويني” عند فرانسيس بيكون لتجلي العلاقة بين نشوء فكرة الغرب ككتلة متجانسة في مقابل العوالم الأخرى التي أصبحت موضوع الرصد والملاحظة العقليين، وموضوع التحكم والتمكن الصناعيين.
في حقبة فرانسيس بيكون، حقبة العنفوان والشعور بالقوة والقدرة على تملك العالم، تشكلت فكرة الغرب كفكرة تسلطية وتوسعية، الفكرة التي أصبح بموجبها الإنسان يستبيح كل أنماط العالم الخارجي العقلية والثقافية؛ سعيًا إلى إدماجها وإلحاقها بأنماط عقله وثقافته هو.
لكن هذه الفكرة التسلطية والتوسعية تجد من ينتقدها ويسعى إلى دحضها والتنبيه إلى مخاطرها من داخل الغرب نفسه. لإثبات هذه الحقيقة، تقف “سويني” عند الراحل إدوارد سعيد، وما قام به من جهد تنظيري كبير قصد تفكيك فكرة الغرب الإقصائي التي تسوغ هدم مقومات الآخرين الثقافية والوجودية، ثم الارتقاء بهذه الفكرة إلى ما يجعلها تخدم التعايش السلمي بين الثقافات.
القول بأصول الغرب المشتركة قول أقرب إلى الهذيان.. مع فرانسيس بيكون انتقل العقل من البحث عن الحقيقة في عالم الأذهان إلى التجربة العلمية
تدعو “سويني” إلى إعادة تخيل الغرب وإعادة صياغة تاريخه لا من منطلق الوقوف عند أصول ثابتة متوهمة، بل من منطلق الحرص على استشراف مستقبل تخفّ فيه حدة التوتر بين القوى الكبرى.
من يقرأ كتاب “الغرب: تاريخ جديد لفكرة قديمة” يشعر بأن الغرب تتنازعه اليوم فكرتان، فكرة تسند التطرف والغلو والانطواء على الذات في عالم متغير؛ وفكرة أخرى تعبّد الطريق أمام التداخل والتعايش بين الثقافات والأمم.
هناك سعي حثيث لتجريم المراجعة لفكرة الغرب وإدخال كل من يشكك في أصول الغرب الثقافية والعقدية والفكرية في عِداد من يعملون على تقويض التجانس الغربي. ويقف وراء خطاب التجريم هذا كل المتطرفين الذين يسعون إلى توظيف هوية الغرب المتخيلة الثابتة لأغراض جيوستراتيجية وسياسية تسلطية استعمارية.
أما من يقف وراء تفكيك هذه الهوية من أجل وضع هوية منفتحة مكانها، فليسوا بالضرورة أعداء للغرب، بل إنهم أناس يثمنون ما بلغه الغرب من تطور وما حققه من إنجازات كبيرة للبشرية، وما أقره من منظومات سياسية ساهمت في الارتقاء بالإنسان في نظم اجتماعية وثقافية كفلت له الحرية والتخلص من قبضة الاستعباد والاستبداد.
إن التشبث ببعض ما وصل إليه الغرب من قيم إنسانية نبيلة، هو ما يشحذ همم الكثيرين من داخل الغرب من أجل مراجعة الفكرة التي يقوم عليها، ومن أجل الانخراط في حوار في أفق إعادة صياغة الوعي بالتاريخ، سعيًا للخروج من منطق التسلط والهيمنة، هذا المنطق الذي يعِد بخراب العمران، وتدمير الإنسان.
تختم “سويني” كتابها بالسؤال: “أليس الغرب هو من علمنا أن نتنكر لما وجدنا عليه آباءنا، وأن نقبل على الحوار، ونعيد صياغة تمثلنا لشكل التاريخ؟”. نفهم من هذا أن الغرب قد أصبح منقسمًا على ذاته، تتنازعه فكرتان: فكرة أصولية تسوغ الغزو للعوالم الخارجية، وهي الفكرة التي استنفدت مقوماتها الأخلاقية؛ وفكرة تسعى إلى إقرار سردية أخرى لم تتضح بعدُ ملامحها الكبرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.