هتافات واحتفالات بسقوط النظام، وتحليلات وتساؤلات حول المستقبل.. لكن اللقطة الأبرز في مشهد نجاح الثورة السورية كانت لآلاف المظلومين وهم يغادرون سجونا ربما لم يتصوروا أنهم سيفلتون من براثنها يوما ما.
في عالم يعج بمنظمات دولية وحقوقية، وبأصوات لا تتوقف عن ترديد شعارات الحرية والديمقراطية والعدل، يبقى واقع حقوق الإنسان بعيدا عن هذه الشعارات في دول كثيرة، لكن سوريا بشار الأسد ربما فاقت بقية الدول في قائمة العار هذه.
ربع قرن تربع فيه بشار الأسد على السلطة في سوريا، يرتفع إلى أكثر من نصف قرن إذا أضفنا فترة حكم أبيه حافظ الأسد من قبله، وهذه البلاد المنكوبة تتشبث بموقع الصدارة فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان، ليس فقط لحقوق الشعب في الحرية والعدل، بل حتى حقه في الحياة.
يكفي أن نأتي من فترة حكم الأب حافظ بمثال واحد هو مجزرة حماة التي وقعت في فبراير/شباط 1982، وكانت التهمة فيها هي التمرد على الحكم والانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين هناك، أما العقاب فكان حملة عسكرية وحشية أدت إلى مقتل نحو 40 ألف شخص، وفقا لبعض الروايات، في حين وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما يقرب من 10 آلاف منهم، فضلا عن 4 آلاف مفقود.
وسار الابن بشار على نهج أبيه، فكان حاكما فردا لا شريك له في السلطة أو في الرأي، وذلك ما جعله يرفض خروج احتجاجات شعبية تطالب بالتغيير ضمن موجة الربيع العربي في العام 2011، فواجهها بقمع استمر سنوات طوال، راح ضحيته مئات الآلاف من السوريين، فضلا عن تشريد الملايين نزوحا في الداخل أو لجوءا في الخارج.
حتى الأطفال
السجن والتعذيب كان دائما وسيلة النظام في مواجهة الشعب، وحتى عندما كتب بعض الأطفال على سور مدرستهم عبارات مثل “الشعب يريد إسقاط النظام” كان الرد حاضرا بالاعتقال في فرع الأمن السياسي بمدينة درعا، وبتعذيب طال بعدهم كل من تمكنت السلطة منه وضبطته متلبسا بجرم الحلم بالحرية والعدل.
القمع الذي واجه به نظام بشار الأسد دعوات الإصلاح والتغيير، أشعل جذوة الثورة التي تحولت بعد ذلك إلى ثورة مسلحة كادت تسقط النظام لولا أنه لاذ بالخارج، فجاءه المدد من إيران وحزب الله اللبناني ومعهما مليشيات من العراق وأفغانستان، ثم مدد حاسم من روسيا.
خلال تلك السنوات لم يتورع نظام الأسد عن ارتكاب كثير مما يعده العالم المعاصر من المحرمات، حيث تجاوز الاعتقال والتعذيب والقتل ليصل إلى حد الإبادة الجماعية عبر استخدام أسلحة كيميائية كما حدث في الغوطة الشرقية لدمشق عام 2013.
في هذه السنوات كانت الأنباء تتوالى عن حال السجون في سوريا، وكيف أنها أقرب إلى مسالخ بشرية يتعرض فيها المعتقلون، الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف من السوريين، إلى ما لا يخطر على بال بشر من صنوف التعذيب.
وخرجت مقاطع فيديو يندى لها الجبين ولم تجد من العالم الحر إلا الإدانات المعتادة والتصريحات الرنانة.
وأصبحت سجون سوريا أشهر ما فيها، مع تكرار الحديث عما يجري في سجون أشهرها صيدنايا وإن لم يكن هو الأوحد، فهناك الكثير غيره سواء في العاصمة دمشق وضواحيها، أو في كل المدن الكبرى تقريبا.
في عام 2015 أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية تقريرا صادما عن الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية، جاء تحت عنوان “لو تكلم الموتى”، وتحدث عن تواتر شهادات عن التعذيب والقتل في 27 من المعتقلات السورية.
تسريبات قيصر
وفي عام 2017 كان العالم على موعد مع صدمة للإنسانية، تمثلت في آلاف الصور التي تظهر بشاعات ترتكب في سجون الأسد، تم تسريبها على يد مصور عسكري انشق عن النظام وغادر البلاد، واشتهر باسم رمزي هو “قيصر”.
الصور كانت أصعب من أن يتحملها من كان له قلب أو ألقى نظرات خاطفات على بعضها، وكيف أن القتل والتعذيب والتنكيل في هذه السجون بلغ حدا يذكّر بما شهده العالم في عصور وصفت بالهمجية والظلام.
ثم جاء مشهد تحرير الآلاف من السجناء بعدما نجحت الثورة أخيرا في التخلص من نظام الأسد في موجة خاطفة لم تكمل أسبوعين ولم تتكشف أسرارها بعد، وهو مشهد صار رئيسيا في بعده الإنساني خصوصا مع مشاعر المحررين التي اختلطت فيها الفرحة بالاندهاش وعدم التصديق.
الساعات الأولى شهدت تدفق عشرات القصص المروعة لتعذيب لم يفرق بين الرجال والنساء، ولا بين البالغين والأطفال، لكن هذا ربما لا يمثل نقطة من بحر ما سيتم الكشف عنه خلال الأيام والأسابيع المقبلة.
فالساعات الأولى كانت ساعات الفرحة بحرية ربما كان الكثيرون قد فقدوا الأمل في الحصول عليها، أما الأيام التالية فستكشف أبعاد الموقف لمن غفل عن هذه اللحظة الإنسانية ولم يدرك بشاعة أن يتعرض إنسان للقهر والتعذيب، وأن يحرم أهله حتى من معرفة مصيره.