عن عمر ناهز 67 عاما رحل عن عالمنا الشاعر والكاتب المسرحي هاشم صدّيق، وهو أحد وجوه أم درمان الذين طبعوها بطابع خاص، وعاش معها تحولاتها منذ الاستقلال، ويعد كذلك أحد الوجوه البارزة في السودانية المعاصرة، إذ ترك وراءه إرثا فنيا وأدبيا ثريا.
ولد صدّيق عام 1957 في حي بانت بمدينة أم درمان التي تم إجلاؤه منها مؤخرا بعد أن مكث فيها لأكثر من سنة وسط الرصاص، ومنذ نعومة أظفاره برزت مواهبه الفنية والأدبية.
بدأ مشواره الفني مبكرا، إذ شارك في برنامج “ركن الأطفال” بالإذاعة السودانية، وتلقى تعليمه في المعهد العالي للموسيقى والمسرح، فحصل على درجة البكالوريوس في النقد المسرحي عام 1974.
كما درس التمثيل والإخراج في بريطانيا ليعود بعدها أستاذا محاضرا في المعهد الذي تخرج فيه.
اشتهر صدّيق بلقب “شاعر الملحمة” بعد تأليفه أوبريت “ملحمة قصة ثورة” وهو في الـ20 من عمره، هذا العمل -الذي يعد أول وأكبر عمل غنائي استعراضي في السودان- لاقى نجاحا كبيرا وأصبح جزءا من التراث الوطني السوداني.
لم يقتصر إبداع صدّيق على الشعر، بل امتد ليشمل الكتابة المسرحية والدرامية للتلفزيون والإذاعة، ومن أبرز أعماله المسلسل الإذاعي “قطار الهم” ومسرحية “أحلام الزمان” التي فازت بجائزة الدولة لأفضل نص مسرحي.
تميز صدّيق بجرأته الفنية والفكرية، مما عرّضه للمساءلة والاعتقال في فترات مختلفة، فقد تم حظر بعض أعماله مثل مسلسل “الحراز والمطر” ومسرحية “نبتا حبيبتي” بسبب ما اعتبرته السلطات آنذاك مضمونا مناوئا للنظام.
وإلى جانب نشاطه الفني عمل صدّيق في الصحافة، وكان له حضور في الساحة السياسية والثقافية السودانية، وترك وراءه العديد من الأعمال الشعرية والمسرحية والدرامية التي شكلت علامة فارقة في المشهد الثقافي السوداني.
أم درمان
تمثل أم درمان مركز ثقل في الثقافة السودانية المعاصرة، إذ انبثقت داخل المدينة تيارات فكرية وثقافية وشخصيات مبدعة واكبت حركية المجتمع السوداني منذ مرحلة ما قبل الاستقلال، خاصة منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
نشأت في المدينة حركة وطنية لمواجهة الاستعمار البريطاني، ونشأت حولها حركة ثقافية جنينية سرعان ما توسعت لتتحول إلى حركة إبداع فكري وثقافي شمل إنتاجها ربوع السودان، خاصة حاضرتي الخرطوم والخرطوم بحري اللتين تشكلان مع أم درمان أضلاعا ثلاثة تتكامل فيما بينها.
واستضاف برنامج “المشاء” في حلقة بتاريخ 2016/9/29 الشاعر والأكاديمي السوداني الشهير الراحل الذي واكب تحولات المشهد الثقافي السوداني على الأصعدة المختلفة بدواوينه الشعرية التي فاقت العشرة، ناهيك عما كتبه من مسرحيات ومسلسلات ومقالات.
واستحضر هذا اللقاء مع هاشم صدّيق السياق العائلي والسياسي والاجتماعي الذي أثر فيه، ليجعل منه صاحب ملكة في صناعة الشعر الذي نثره في دواوينه المختلفة كلمات تعبر عن آلام الشعب وآماله في الحرية والعدل الاجتماعي.
وجع الملحمة
شكلت ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 علامة فارقة في الذاكرة السودانية المعاصرة، لكن تخليدها لم يكن ممكنا إلا من خلال ما خطه المبدعون وسطّره المثقفون من مشاعر وتطلعات وهموم شعب حقق استقلاله عن المستعمر البريطاني لكنه لم ينعم بحريته، فقرر أن يكتب فصول ربيعه مبكرا.
الحدث الفاصل في تاريخ السودان وجد صداه في الإبداع الشعري من خلال “الملحمة” الشهيرة التي صاغ فيها الشاعر هاشم صدّيق فصول تلك الثورة وخلدها من خلالها بمعية الموسيقار محمد الأمين، لتظل نشيدا خالدا في الذاكرة وملهما للأجيال المتعاقبة.
تحدث صدّيق عن التزامه بقضايا الإنسان والمجتمع، وهو الالتزام الذي يكون نتاجا لتجربة الألم التي يحياها الإنسان، فردا كان أو مجتمعا، ويكون التعبير عنها بوسائل فنية متنوعة تحول الألم إلى تعبيرات جمالية تشحذ همة الشعب وتوجه طاقته نحو التغيير تطلعا إلى قيم الخير والحق والجمال.
في أم درمان عاصمة الثقافة ومقر أغلب المؤسسات الثقافية في البلد إضافة إلى دور النشر كان انبثاق وعي الشاعر هاشم صدّيق، وفيها كان إبداعه الشعري، وهي المدينة ذات التاريخ الحافل، مما جعلها حيزا يمثل نموذجا مصغرا للسودان وثقافاته المتنوعة التي يعكسها العالم الشعري لضيفنا.
ولطالما كانت هذه الربوة المطلة على بقية مناطق العاصمة -والتي تمثل ملتقى النيلين (الأزرق والأبيض)- رافدا ثقافيا أساسيا يفيض بإبداعات مثقفيها على بقية أحياء العاصمة، تماما مثلما تفيض بمياهها الرقراقة ما دامت البقعة الكثيرة الماء كما يرمز إليها اسم من أسمائها القديمة.
هاشم صدّيق مسرحيا
وواصل برنامج “المشاء” رحلته في أم درمان بصحبة المبدع السوداني هاشم صدّيق، مستكشفا مساهماته المتميزة في عوالم أبي الفنون، مما جعل منه واحدا من أهم رواد المسرح السوداني.
تحدث هاشم صدّيق عن الظروف المرتبطة بنشأة المسرح في السودان التي جعلها متعلقة بسببين اثنين، الأول وطني يتعلق بظروف نشأة الحركة الوطنية السودانية لمواجهة الاستعمار البريطاني وإستراتيجيته الانقسامية التي جعلت سياساته في السودان مرتكزة على مبدأ “فرّق تسد”.
استثمر الاستعمار التنوع القبَلي والعرقي والثقافي في بلد شاسع المساحة حتى يسهل عليه تأبيد سيطرته وضمان نهب خيراته، لذا كان سلاح الاستعمار في مواجهة الإبداع المسرحي في السودان سلاح الرقابة المتتبع لتفاصيل المسرحيات التي تخضع في مضمونها لمراجعة الحاكم العسكري البريطاني، قبل أي ترخيص للعرض أمام الجمهور.
وهو المنطق نفسه الذي حكم نظرة السلطة السودانية للإبداع المسرحي بعد الاستقلال، إذ كان الهدف إخراس أصوات المبدعين ومحاصرتهم خوفا من أن يكون المسرح “تحريضا” للناس على التمرد والثورة.
نال هاشم صدّيق نصيبه من هذا الشطط مضايقة وسجنا وتعذيبا، سواء فيما يرتبط بمسرحياته، وفي طليعتها مسرحيته الشهيرة “نَبْتَا حبيبتي”، أو فيما أبدعه من مسلسلات عالجت الواقع السوداني وغاصت في ثنايا قضاياه.
آلام البسطاء
أما السبب الآخر فيتعلق بالسياسات الطبقية التي رمت بقطاعات من الشعب السوداني في أتون الفقر والحرمان والتهميش.
كان المسرح نوعا من الرد الواعي الذي مارسته فئات من المجتمع السوداني (مبدعون وجمهور) عاشت مآسي الشعب وأعلنت انحيازها إلى قضاياه والتزامها بأولوية تحريره.
لذا، شهد المسرح السوداني أزهى أيامه في المرحلة التي تلت مرحلة الاستقلال، خاصة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وقد كان لمساهمة صدّيق دور بارز في تلك المرحلة، تأليفا وتمثيلا وتأطيرا.
دور أم درمان
هكذا تبلور وعي صدّيق في حواري أم درمان وأحيائها الفقيرة التي قصدها النازحون من أبناء القبائل السودانية من كل حدب وصوب لحظة إعلانها عاصمة للبلد نهاية القرن الـ19 من طرف الإمام المهدي عقب انتصاره على القوات التركية ومواجهته البريطانيين وتحقيق انتصار كبير عليهم.
ذلك التأسيس أعطى أم درمان دورا تأسيسيا في الثقافة السودانية المعاصرة مثلما أعطاها دورا تأسيسيا في عملية بناء اللهجة السودانية داخل اللغة العربية التي جرى بها تأليف عدد كبير من نصوص المسرح السوداني.
لقد كان المسرح السوداني متنفسا للتعبير عن تطلعات الشعب السوداني سياسيا وثقافيا واجتماعيا مثلما كانت أم درمان ذاك المسرح الذي تبلورت فيه تلك الإبداعات وترعرع فيها كثير من مبدعي المتن المسرحي السوداني بحكم احتضانها كبرى المؤسسات الثقافية داخل السودان.