تميّزت العشريات الثلاث الأولى من هذا القرن، بصعود أدوارٍ للاعبين “لادولاتيين” في العالم العربي، معظمهم، إن لم نقل جميعهم، من خلفيات دينية (إسلامية)، سنيّة وشيعية، تجاوزت قدرات بعض منظماتهم، ما امتلكته منظومات الحكم والسيطرة في بلدانهم.
لبعض هذه المنظمات منطلقات وطنية، وإن بمرجعيات دينية مختلفة، بعضها جعل من “العالم بأسره”، ساحة لمعاركه (تنظيم الدولة والقاعدة). منها من نشأ على جذع الأنظمة الحاكمة (الجنجويد الذي سيصبح دعمًا سريعًا في السودان)، و”الحشد الشعبي” في العراق، ومنها من تعزز حضوره في مواجهة الحكم في بلده (أنصار الله زمن علي عبدالله صالح وحروبه الست عليهم)، أكثرهم أهمية من نشأ في قلب “المسألة الوطنية” وتصدى لمواجهة الاحتلال لبلده (حماس وأخواتها في فلسطين، وحزب الله في لبنان)، وثمة أمثلة تقل أو تزيد أهمية، من دول عربية أخرى، وفي أزمنة مختلفة، (ليبيا، الصومال، والجزائر، وغيرها).
رفع “طوفان الأقصى”، وما بعده، من قدر بعضٍ من أهم هذه الحركات، حتى باتت “أرقامًا صعبة”، عصيّة على التجاهل، إذ أبلت بلاءً حسنًا في المنازلة الكبرى مع الاحتلال الإسرائيلي، لامس حدود “الإدهاش”.
حماس، جاءت بما لم تستطعه جيوشٌ نظامية استهلكت أقساطًا لا تُقدّر، من مداخيل وثروات بلدانها، وتسببت لإسرائيل بزلزال، لن تتوقف تداعياته و”عُقَده”، لعقود وأجيال.
وحزب الله، نجح لسنوات في خلق معادلة “توازن ردع” مع “الجيش الذي لا يقهر”، ونجح في احتلال مكانة متميزة في “التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي” لأزيد من عقدين كاملين.
أمّا أنصار الله، فيكفي أنهم أغلقوا، أو كادوا يغلقون، ميناء إيلات، حيث لم تنجح دول عربية وازنة في فعل ذلك طيلة عقود الحرب بين العرب والإسرائيليين، وقبل أن يصبح “السلام” مع دولة الاحتلال، “خيارًا إستراتيجيًا وحيدًا ” للناطقين بالضادّ، وها هي التقديرات الأميركية، لحرب ترامب عليهم، تأخذ منحى التشكيك والاتهام بالعجز والتِيه.
قلنا في بداية الطوفان، إن هؤلاء اللاعبين “اللادولاتيين”، يسحبون من رصيد “الدولة الوطنية” العربية، التي أخفقت في إدارة ملف “الحرب والسلام” لا استقلال ناجزًا حققت، ولا تنمية مستدامة أنجزت.
لا انتصرت في حروبها مع أعدائها، ولا جلبت بسلامها معهم، أمنًا واستقرارًا وحقوقًا. فشلها “المدوّر” من حقبة إلى حقبة في العقود الأخيرة، في حل “أم القضايا”، قضية فلسطين، ينهض شاهدًا على عجز بعضها وتواطؤ بعضها الثاني، وتآمر بعضها الثالث.
اليوم، ثمة من يُخرجون ألسنتهم من حلوقهم، مشفوعة بعبارات التشفي والشماتة، فعداؤهم لهذه الحركات، تخطى التزامهم بفكرة “الدولة”، وتجاوز حدود العقائد والسياسة، إلى البعد الشخصي الخالص.
يستعجلون نهاية هذه الحقبة، على أمل أن تشرق من جديد، شمس “الدولة الوطنية”. بعضهم، لا يخجل من استعجال النهاية، حتى وإن تطلب الأمر “التعاون مع العدو وتبادل الأدوار معه” لإنجاز مشروع التصفية، كما في الحالة الفلسطينية واليمنية، أو تَرجَي الأميركيين لحثّ الإسرائيليين على معاودة الحرب على لبنان، لإغلاق “ملف السلاح”، كما نُقِلَ عن وزراء فريق لبناني قابل الموفدة الأميركية مؤخرًا في بيروت.
نهاية فصل أم بداية آخر؟
ثمة، من يعتقد أن تجربة ربع قرن من صعود هؤلاء اللاعبين، قد شارفت على الانتهاء، وأن صفحة هذه القوى التي ملأت الأرض والسماء، قد طويت، أو حان طيّها، ليستتب لهم ولرعاتهم ولمن يمثلونهم، عرش الحكم والسيطرة، حتى وإن تم ذلك، تحت هيمنة الاحتلال، أو في ظل الرعاية والانتداب لمراكز استعمارية قديمة- جديدة.
حسنًا أيها السادة؛ لا بأس أن تكونوا وأن نكون، مع “الدولة الوطنية”، فهذا أصل الأشياء، وسنن الكون وقواعد الانتظام الاجتماعي والسياسي. لكن الدولة، لكي تكون “وطنية”، عليها أن تدلنا على طريق الخلاص من المستعمر الأجنبي، خصوصًا حين يكون هذا الاستعمار، إلغائيًا، عنصريًا، فاشيًا، مجردًا من كل قيمة أو خُلق، ومتحررًا من كل القواعد والضوابط .. وأن يكون “الباب العالي” متملكًا للحدود الدنيا من الكياسة التي تحفظ ماء الوجه على أقل تقدير، لا بأسلوب الفورة والاستفزاز المسيطر على سلوك المكتب البيضاوي. على الدولة، لكي تصبح “وطنية” أن تعرض على شعبها، خطتها أو خريطتها، لفعل ذلك.
ولكي تكون الدولة “وطنية” بامتياز، عليها أن تكون “عادلة” ما أمكن، فلسنا ساذجين لنطالبها بنصب ميزان العدل والعدالة، وأن تقف على مسافة متقاربة “ولا نقول متساوية فذاك خارج الطموح”، من جميع أبنائها وبناتها، وكياناتها ومكوناتها، وأن تتوقف عن تحويل أوطانها، إلى بيئات طاردة لمواطنيها، وبالمناسبة، ليست غزة وحدها التي يراد لها أن تصبح مكانًا طاردًا لأبنائه وبناته، فاستطلاعات الرأي العام ترصد كثرة من جيل الشباب العربي، ترغب في شراء تذاكر باتجاه واحد، لمغادرة الأوطان العربية.
وإذ نجزم، كما يجزم كثيرون من خبراء السياسة والمجتمعات والحركات، من إسرائيليين وغربيين، بأنه من السابق لأوانه استصدار “شهادات نعي لهؤلاء اللاعبين “اللادولاتيين”، فإننا نكاد نجزم أيضًا أن المنطقة العربية، لا سيما في المشرق، أصبحت بيئة خصبة لإنتاج واستقبال موجات جديدة من هذه المنظمات واللاعبين.
فالأسباب التي قادت لصعودها في العقود الثلاثة الفائتة، ما تزال قائمة، بل وربما تفاقمت أكثر من أي وقت مضى، وستلعب القضية الفلسطينية من جديد، دورها كمُحفّز “Catalyst”، لبقية العوامل المُفضية لعدم الاستقرار.
في فلسطين، قد تكون شعبية حماس تراجعت في غزة، وهذا متوقع بعد 18 شهرًا من حرب الإبادة والتطويق والتطهير، لكن الحركة تحافظ على شعبية وازنة في بقية مناطق الانتشار الفلسطيني.
والأهم، أن هبوط شعبية منافسيها في رام الله، يتم بوتائر أعلى وأسرع، فليس كل تراجع في شعبية حماس، سيصبّ في طاحونة السلطة، أو سيرفع من قيمة “قدسية” التنسيق الأمني، ولعله من الراجح، أن غزة قد فتحت أبوابًا رحبة، لنشوء موجات جديدة من حركات المقاومة الفلسطينية، وإن بعد حين، لا سيما أن طريق السلطة إلى الدولة، قد أغلق بإحكام.
وفي لبنان، حيث جاء حزب الله، بعد أن ظنت إسرائيل أنها نجحت في تطويع لبنان على مقاسات نظرية أمنها القومي، ليس من عاقل يظن أن الحزب قد اختفى أو سيختفي بموجب مفاعيل اتفاق وقف النار، أو أن البيئة اللبنانية التي أنتجت طبعات مختلفة من المقاومة، ستعجز عن إنتاج طبعة جديدة منها، لا سيما إن استمر العدو على غطرسته واستعلائه، وظلت واشنطن على احتضانها له، وبقيت الدولة عاجزة عن استرجاع الأرض وإعادة الإعمار ووقف التعديات والاستفزازات الإسرائيلية.
أما في سوريا، فإن إرهاصات حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، بدأت تلوح من درعا وجوارها، وليس مستبعدًا أن تتداعى التطورات إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، كأن توفر ممارسات الاحتلال وردود الأفعال عليها، مدخلًا لعودة أطراف عربية وإقليمية، لتجديد دورها وحضورها، ومن بوابة مقاومة الاحتلال هذه المرّة، وليس على خلفية “الانتقام” ممن أسقطوا حكم الأسد.
أما في اليمن، فإن أنصار الله، يجلسون في منزلة بين منزلتين، هم من جهة “لاعب لادولاتي”، وهم من جهة ثانية، “الدولة” في شمال اليمن، وصمودهم في وجه الغارات الأميركية الكثيفة، غير المسبوقة في عديدها وعتادها، قد يمكنهم من تعظيم مكاسبهم.
خلاصة القول، ليس “اللاعبون اللادولاتيون”، خيارًا يمكن أن تلجأ له شعوب بعينها، عن سبق الترصد والإصرار، ولا من باب “النكاية” بالدولة الوطنية. هو طريق تسلكه الشعوب، لانعدام ثقتها بالدولة واكتشافها المتكرر لعجزها وفسادها.
هو الطريق الذي تسلكه شعوب سُلِبَت أوطانها وحرياتها، وباتت توّاقة للحرية والتحرر والاستقلال والسيادة، لا سيما إن استنكفت الدولة عن أداء وظائفها.
هو طريق تتبعه هذه الشعوب، بعد أن تضيق ذرعًا بأنظمة الفساد والاستبداد. هي ليست حركات “طهرانية” بالكامل، وبعضها “ليس طهرانيًا بالمرة”. بيد أنها الممر الإلزامي لتفجير طاقات الغضب والرفض لبقاء القديم على قدمه.
والذين يصرفون الكثير من الوقت والجهد في التبشير بزوال هذه الظاهرة، واستعجال أفولها، عليهم أن يبذلوا جهودًا مضاعفة، لبناء أو إعادة بناء الدولة الوطنية، القادرة على انتزاع الحقوق من أنياب غاصبيها، واحترام حرية المواطن وكرامته، وبخلاف ذلك، فإن التاريخ سيعاود ممارسة هوايته الفضلى، كأن يعيد إنتاج نفسه مرتين: واحدة على صورة مأساة وثانية على شكل مهزلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.