حرب إدارة ترامب ضد الدولة العميقة ليست عملية تطهير تهدف إلى تحريرنا من استبداد أجهزة الاستخبارات، والشرطة العسكرية، وأكبر نظام سجون في العالم، والشركات الجشعة، أو إنهاء المراقبة الجماعية. لن تؤدي إلى استعادة سيادة القانون لمحاسبة الأقوياء والأثرياء، ولن تقلل من الإنفاق العسكري الهائل الذي يبلغ تريليون دولار تقريبًا سنويًا.
جميع الحركات الثورية، سواء من اليسار أو اليمين، تسعى إلى تفكيك الهياكل البيروقراطية القديمة.
الفاشيون في ألمانيا والبلاشفة في الاتحاد السوفياتي، بمجرد استيلائهم على السلطة، قاموا بتطهير الخدمة المدنية بقوة. لقد رأوا في هذه الهياكل عقبة أمام سيطرتهم المطلقة، وهو ما يحدث الآن في الولايات المتحدة، لكن بأسلوبها الخاص.
المعارك الخلفية- كما حدث في السنوات الأولى من الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية- تدور الآن في المحاكم ووسائل الإعلام المعارضة لترامب. في البداية، ستكون هناك انتصارات مؤقتة، كما واجه البلاشفة والنازيون مقاومة من القضاء والصحافة، لكن عمليات التطهير، المدعومة بليبرالية مفلسة لم تعد تدافع عن شيء، ستضمن في النهاية انتصار الحكام الجدد.
أقدمت إدارة ترامب على طرد أو إقالة مسؤولين كانوا يحققون في الفساد داخل الحكومة الفدرالية، بمن فيهم 17 مفتشًا عامًا. أجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات الفدرالية، مثل مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) ووزارة الأمن الداخلي (DHS)، يتم تطهيرها من الأشخاص الذين يعتبرون معادين لترامب.
سيتم تحويل المحاكم، مع تكديسها بقضاة موالين، إلى أدوات لملاحقة “أعداء الدولة”، وحماية الأثرياء وأصحاب النفوذ. المحكمة العليا، التي منحت ترامب حصانة قانونية، وصلت بالفعل إلى هذه المرحلة.
الهدف الحقيقي لإدارة ترامب ليس الدولة العميقة. الهدف هو القوانين واللوائح والبروتوكولات والأنظمة، وكذلك موظفو الخدمة المدنية الذين ينفذونها، لأنها تعيق السيطرة الدكتاتورية.
سيتم إلغاء الضوابط والتوازنات والمساءلة والسلطة المحدودة للحكومة. سيتم تطهير أي شخص يعتقد أن الحكومة يجب أن تخدم الصالح العام، وليس فقط أوامر الحاكم. ستُعاد هيكلة الدولة العميقة لخدمة عبادة القائد، وستصبح القوانين والحقوق الدستورية بلا معنى.
قال ترامب في منشور على منصتَي تروث سوشيال وإكس: “من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون”.
تم استبدال الفوضى التي ميزت إدارة ترامب الأولى بخطة منظمة لخنق ما تبقى من الديمقراطية الأميركية الضعيفة. تم إعداد مشاريع مثل “مشروع 2025” (Project 2025) ومركز تجديد أميركا (Center for Renewing America) ومعهد سياسة أميركا أولًا (America First Policy Institute) مسبقًا، حيث قدمت مخططات تفصيلية، ومقترحات تشريعية، وأوامر تنفيذية وسياسات تهدف إلى إعادة هيكلة الحكومة بالكامل.
الركيزة القانونية لهذا التفكيك، هي نظرية السلطة التنفيذية الموحدة، التي صاغها القاضي أنتونين سكاليا في رأيه المخالف في قضية Morrison v. Olson. وفقًا لسكاليا، فإن المادة الثانية من الدستور تمنح الرئيس السلطة المطلقة في كل ما لا يُصنف صراحة ضمن اختصاص الكونغرس أو القضاء. إنها تبرير قانوني للدكتاتورية.
رغم أن مشروع 2025، لم يذكر صراحة هذه النظرية، فإنه يروج لسياسات تتماشى مع مبادئها، مثل فصل عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين واستبدالهم بموالين لترامب، وإضعاف حقوق العمال الحكوميين لجعلهم أكثر عرضة للإقالة بناءً على رغبة السلطة التنفيذية. راسل فويت، أحد مهندسي مشروع 2025، عاد الآن ليشغل منصب مدير مكتب الإدارة والميزانية، وهو المنصب نفسه الذي شغله في الولاية الأولى لترامب.
واحدة من آخر خطوات ترامب في ولايته الأولى كانت توقيع “أمر إنشاء الجدول F في الخدمة المستثناة”، الذي ألغى الحماية الوظيفية للبيروقراطيين الفدراليين. قام جو بايدن بإلغائه، لكنه عاد الآن بقوة.
تم فصل أكثر من 9.500 موظف فدرالي، مع قبول 75.000 آخرين لشراء تقاعد مبكر أقل حماية، بالإضافة إلى تخفيض 70٪ من الموظفين في وكالات حكومية مختلفة. في الوقت نفسه، يتم تجميد مليارات الدولارات من التمويل، وتستمر وزارة كفاءة الحكومة (Department of Government Efficiency – DOGE) التي يديرها إيلون ماسك في الاستيلاء على البيانات السرية.
لكن هذه التخفيضات لن تحد من الإنفاق الحكومي الفدرالي، خاصة إذا ظل الإنفاق العسكري مقدسًا، حيث يدعو الجمهوريون في الكونغرس إلى زيادة 100 مليار دولار إضافية في الميزانية العسكرية خلال العقد المقبل. وبينما يريد ترامب إنهاء الحرب في أوكرانيا ضمن إستراتيجيته لكسب ود بوتين، فإنه يدعم الإبادة الجماعية في غزة.
هذا التطهير يهدف إلى القضاء على الرقابة الحكومية، وتجاوز القوانين واللوائح التي تحكم عمل المؤسسات الفدرالية، وملء المناصب الحكومية بـ”موالين” تم اختيارهم عبر قاعدة بيانات أعدها معهد الشراكة المحافظة (Conservative Partnership Institute). كما أنه فرصة لإثراء الشركات الخاصة، بما في ذلك عدة شركات يملكها ماسك، التي سيتم منحها عقودًا حكومية مربحة.
إضافة إلى ذلك، يهدف ترامب إلى زيادة نفوذ ماسك في المجال الرقمي، حيث يسعى إلى تحويل منصة إكس إلى “التطبيق الشامل”. وقد أعلن ماسك عن “X Money”، وهي محفظة رقمية تتيح تحويل الأموال بين المستخدمين. وبعد أسابيع قليلة من إعلان الشراكة مع Visa، طلبت وزارة كفاءة الحكومة الوصول إلى بيانات مصلحة الضرائب الأميركية، بما في ذلك أرقام الضمان الاجتماعي، والعناوين، والدخل، والعقارات المملوكة، واتفاقيات حضانة الأطفال.
ترامب، ككل المستبدين، لديه قوائم طويلة من الأعداء. فقد سحب الحماية الأمنية من مسؤولين سابقين في إدارته، بمن في ذلك الجنرالان مارك ميلي ومايك بومبيو. كما هدد بإلغاء التصاريح الأمنية للرئيس بايدن ومسؤولين آخرين مثل أنتوني بلينكن وجيك سوليفان. كذلك، يمنع وسائل الإعلام المعارضة من تغطية الأحداث في البيت الأبيض، ويطرد مراسليها من البنتاغون.
بمجرد أن يترسخ هذا النظام الجديد، ستصبح القوانين واللوائح مجرد أدوات بيد البيت الأبيض. ستفقد الوكالات المستقلة مثل لجنة الانتخابات الفدرالية (Federal Election Commission – FEC)، ومكتب حماية المستهلك (Consumer Financial Protection Bureau – CFPB)، ونظام الاحتياطي الفدرالي (Federal Reserve System) استقلالها.
ستبدأ عمليات الترحيل الجماعي، وسيتم فرض التعليم القومي المسيحي في المدارس، مع تقليص البرامج الاجتماعية مثل الرعاية الطبية، والإسكان لذوي الدخل المنخفض، وبرامج التدريب المهني. ستتمكن الشركات الجشعة من استغلال الجمهور دون أي قيود.
النتيجة ستكون مجتمعًا من السادة والعبيد. وكما قالت روزا لوكسمبورغ: “إضفاء الطابع الوحشي على الحياة العامة”.
المقاومة الأخلاقية ضرورة، حتى عندما تبدو الهزيمة أمرًا حتميًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.