تشيرُ تقارير إخباريّة إلى قرب بدء مفاوضات المرحلة الثانية في غزة، وعلى مشارف ذلك يرفع الاحتلال من وتيرة ضغطه على غزة شعبًا ومقاومة، ومن سويّة الإشاعات والأخبار الموجهة لوضع المقاومة الفلسطينية في موقف تفاوضي دفاعي وضعيف.
الاتفاق السابق
ماطلت حكومة نتنياهو لأكثر من عام قبل التوصل لاتفاق كانت تدرك أكثر من غيرها ألا سبيل غيره للحصول على أسراها، بعد فشلها في تحقيق وعودها ووعيدها بتحريرهم بالقوة.
في منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، أي بعد بدء الحرب بخمسة عشر شهرًا، قبلت حكومة الاحتلال باتفاق لوقف إطلاق النار، وبدأ تنفيذ مرحلته الأولى بعد ذلك بأيام.
وبالعودة للدوافع الرئيسة التي أوصلت حكومة نتنياهو للاتفاق، سنجد فشل جيش الاحتلال في تحرير الأسرى بالقوّة، وعجزه عن تقديم صورة نصر عسكري أو إنجاز سياسي، ولا سيما فيما يتعلق بالقضاء على المقاومة رغم ما اقترفه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وصلت مستوى الإبادة، وارتفاع منسوب الضغوط الداخلية عليه بخصوص ملف الأسرى تحديدًا، وحالة الإرهاق التي أصابت الجيش كمؤسسة وأفراد.
لكن كل ذلك لم يكن كافيًا لإرغام الحكومة على توقيع اتفاق طيلة 15 شهرًا، ليأتي انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة ورغبته في تسجيل صورة إنجاز له قبل دخوله البيت الأبيض، ليكون إصراره على ذلك سببًا حاسمًا في توقيع نتنياهو على الصفقة.
ولأنه ليس ثمة خلاف كبير بين ترامب ونتنياهو حول معظم مسارات الحرب وتفاصيلها، ولأن الأمر كان يتعلق بصورة قوة يتفاخر بها الرئيس الأميركي وليس الضغط الحقيقي لوقف الحرب، كان واضحًا منذ البداية أن الاحتلال مهتم بالمرحلة الأولى من الصفقة، وأن وقفًا حقيقيًا ومستدامًا لإطلاق النار ما زال بعيد المنال.
ولذلك، فقد تجاهلت قوات الاحتلال البروتوكول الإنساني بعد حصولها على الأسرى في المرحلة الأولى، بل وأعاقته عن عمد بشكل شبه كامل، بما في ذلك إدخال المساعدات، وإخراج الجرحى للعلاج، وإدخال المعدات الثقيلة للمساعدة في فتح الطرق ورفع الأنقاض، ورفضت الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، واستأنفت عمليات القصف والاغتيال والتهجير بشكل ممنهج.
إستراتيجية الاحتلال
بتوقيعه على اتفاق وقف إطلاق النار، حقق نتنياهو لترامب رغبته فتجنب أي رد فعل غاضب منه، وحصل على الأسلحة الأميركية التي كانت مجمدة منذ إدارة بايدن، فضلًا عن أسلحة جديدة، وحظي بلقاءَين في البيت الأبيض.
وإلى ذلك، فقد حصل على عدد من الأسرى في يد المقاومة، فنفى عن نفسه تهمة عدم الاكتراث بمصيرهم وخفف الضغوط الممارسة عليه داخليًا. ورغم عدم التزامه بالاتفاق تمامًا، وخصوصًا الشق الإنساني منه، لم يتعرض لانتقادات أو ضغوط حقيقية من الوسطاء، ولا الدول العربية والإسلامية ولا القوى الدولية الأخرى.
وهكذا، انتفت عناصر الضغط الداخلي والخارجي بشكل شبه كامل على نتنياهو، فلم يعد في عجلة من أمره، ما مكّنه من تغيير إستراتيجية التفاوض بالكامل.
تقضي الإستراتيجية الجديدة بعدم الدخول مباشرة في مفاوضات المرحلة الثانية، وممارسة الضغط الأقصى على المقاومة في الموضوع الإنساني بتشديد الحصار، ومنع دخول المساعدات والغذاء والدواء، واستمرار عمليات القصف والتهجير وأوامر الإخلاء، لتأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة.
الشق الثاني في الإستراتيجية يشمل تقويض مقدرات المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حركة حماس على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية، وعلى وجه الخصوص تلك المرتبطة بالعمل الحكومي، في سعي واضح لشل إمكاناتها في إدارة شؤون الناس ومساعدتهم.
فقد شنّت طائرات الاحتلال مئات الغارات الجوية المتزامنة قتلت فيها مئات الفلسطينيين، في مقدمتهم رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي عصام الدعليس، ووكيل وزارة العدل المستشار أحمد الحتة، ووكيل وزارة الداخلية اللواء محمود أبو وطفة، والمدير العام لجهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان، فضلًا عن قيادات أخرى في المقاومة.
وأما الشق الثالث والأخير في الإستراتيجية، فهو سلوك متكرر يقضي بإشاعة أخبار كاذبة عن عروض مناسبة قدمت للمقاومة، وأن الحكومة “الإسرائيلية” قد وافقت عليها بانتظار موافقة حركة حماس، لزيادة الضغوط عليها، وإظهارها في موقف المتعنت.
وهو مسار سياسي – إعلامي تشارك الاحتلالَ فيه الإدارةُ الأميركية وبعض وسائل الإعلام العربية والدولية، وقد شهدنا نماذج متكررة له على مدى شهور الحرب.
ماذا تريد المقاومة؟
كأحد مسارات الضغط عليها، تثار في وجه المقاومة الفلسطينية وخصوصًا حركة حماس حزمة من الأكاذيب والإشاعات والاتهامات، تشارك فيها حكومة الاحتلال وبعض الأطراف الفلسطينية المحسوبة على السلطة، ووسائل إعلام عربية، وخصوصًا في وسائل التواصل الاجتماعي من شخصيات معروفة وحسابات وهمية على حد سواء.
من أوائل ما اتهمت به المقاومة أنها تسعى في الحرب والتفاوض لمصالح حزبية وفصائلية ضيقة ولا تكترث لمأساة الناس، وهو افتراء متهافت تهاوى أمام أسماء وأعداد قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية والأمنية لحركة حماس الذين استشهدوا مع عوائلهم في الحرب، فضلًا عن موافقتها وإصرارها على مقترح “لجنة الإسناد المجتمعي” لقطاع غزة بما يدحض الاتهام بتشبثها بإدارة القطاع.
كما تُتهم المقاومة بعدم مرونتها في التفاوض، وهو ما ثبت عكسه مرات عدة، حيث تجاوبت مع كل العروض الحقيقية التي قدمت لها وتعاملت معها بإيجابية، بينما تراجع الاحتلال أحيانًا عن نصوص وافق عليها الفلسطينيون، كان هو من اقترحها وقدمها للوسطاء ابتداءً.
أما الضغط الأخير الممارس على حماس، ومعها باقي فصائل المقاومة، فهو مطالبتها بتسليم كل ما لديها من أسرى وعرض (أو قبول عرض) تسليم سلاحها وخروج قياداتها من غزة لإيقاف المقتلة بحق سكانها.
هذا الطرح، الذي يردده للمفارقة مسؤولون “إسرائيليون” وآخرون في السلطة الفلسطينية، فضلًا عن حسابات تواصل اجتماعي وشخصيات عربية تتحدث في وسائل الإعلام، يتجاهل أو يغفل حقيقة باتت في حكم الثابت من البديهيات، وهو أن “إسرائيل” اليوم ليست نفسها ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
بفعل العملية التي وجهت ضربة قاسية لركائز نظريتها الأمنية وعمقت الشكوك بمؤسستها العسكرية وأثارت أسئلة حقيقية عن المستقبل، تخوض “إسرائيل” معركة وجود بالمعنى الحقيقي، ولا يخفي مسؤولوها وفي مقدمتهم نتنياهو أن جيشهم يسعى لاستعادة الأسرى، ثم استكمال الحرب بكل الأحوال.
وبعيدًا عن نماذج التاريخ التي تؤكد مصير من يتخلى عن أوراق قوته، وتلك التي تثبت تنصل دولة الاحتلال من أي اتفاقات، فضلًا عن المواثيق والأعراف الدولية (والحرب الأخيرة شاهد صريح على ذلك)، فإن تردد الاحتلال حتى اللحظة في ارتكاب إبادة كاملة بحق كل سكان القطاع، وتنفيذ تهجير شامل وسريع، هو بقاء أسراه في يد المقاومة وامتلاك الأخيرة بعض القدرات التي حالت دون جعل عمليات الاحتلال في القطاع بلا ثمنٍ وخسائر.
فهل يمكن تخيل كيفية تعامل الاحتلال مع أهل غزة في حال حصل على أسراه ولم يجد أمامه مقاومة قادرة على كبح بعض خططه، فيما هو أصلًا يحظى بدعم أميركي وصمت وعجز عربي وإسلامي؟
في ظل رغبة الاحتلال المعلنة والصريحة باستكمال حرب الإبادة حال الحصول على الأسرى، تكون المقاومة في الحقيقة متمسكة بالشيء الوحيد الساعي، وربما القادر على حقن دماء الفلسطينيين؛ اتفاق واضح لوقف إطلاق النار يشمل الانسحاب الكامل من القطاع، وإدخال المساعدات وعلاج الجرحى وإعادة الإعمار، وليس مجرد تبادل الأسرى كما يريد نتنياهو وشركاؤه.
هذا ما تفعله المقاومة، وهو ما تدركه حاضنتها الشعبية وشعبها في غزة، وقد جربوا الاحتلال في تنفيذ الاتفاق الأول، ولذلك يمكن ملاحظة وجود تفهم واسع للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها منهجية المقاومة التفاوضية، إذ إن الناس لا تريد “إعلانًا” لاتفاق تُستأنف بعده مقتلتهم، بل وقفًا حقيقيًا للنار لبدء مسار استعادة حياتهم الطبيعية.
من المفهوم والمنطقي أن المقاومة مطالَبة بإبداء المرونة في العملية التفاوضية لأنها “أم الولد” الحريصة على وقف العدوان، وهو ما تمارسه فيما يبدو حتى اللحظة، لكن المرونة لا تعني تقديم التنازلات المجانية ولا التخلي عن أساسيات التفاوض وثوابت المطالب الشعبية، لأن التنازل سيأتي بما هو أخطر، بينما الالتزام أجدى وأجدر أن يحقق مصالح الشعب بوقف العدوان ومنع التهجير وإعادة الإعمار.
من هذا المنظور، يتّضح أن الحرص على مصلحة الناس يدفع باتجاه تصليب موقف المقاومة التفاوضي (بما في ذلك النقد والتصويب)، لا مهاجمته وإضعافه، وتركيز الضغوط على الطرف المعتدي وغير الملتزم والمتنصل مرارًا وتكرارًا من التفاهمات وهو الاحتلال، والعكس بالعكس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.