مرور سنة على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يطرح سؤالًا كبيرًا يتعلق بماذا بعد “طوفان الأقصى” وهل تغير الوضع الإستراتيجي في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل أو حماس؟ وهل حقّقت تل أبيب أهدافها؟
في الواقع، هناك صعوبة شديدة في الجواب عن هذا السؤال، وذلك بسبب غموض أهداف تل أبيب من جهة، ودواعي حماس للإقدام على خطوة مهينة للجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية داخل غلاف غزة وأسر عدد من الجنود واحتجاز عدد من الرهائن المدنيين، من جهة ثانية.
حماس تكتفي بالقول في خطابها السياسي بأن طوفان الأقصى هو رد استباقي على إستراتيجية صهيونية كان المراد منها تقويض بنية المقاومة وقدراتها العسكرية. وإسرائيل، تقول في الخطاب الرئيسي الأبرز لها إنها تريد أن تخلق واقعًا في منطقة لا تكرِّر فيه حدث طوفان الأقصى.
بين هذين الخطابين ثمة عدد كبير من الخطابات الفرعية التي تتحدث عن إستراتيجية حماس وأهدافها البعيدة من طوفان الأقصى.
وفي المقابل، تواتر عدد من الأهداف على مسار الحرب الصهيونية على غزة، آخرها حديث نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تحدث فيها عن إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط، ودور إسرائيل المركزي في هذه العمليّة.
فإذا كان قصد المقاومة أن تعيد القضية الفلسطينية إلى مسرح الأحداث، وتستنهض الضمير العالمي لحق الشعب الفلسطيني في الحرية ورفع الحصار وتقرير المصير، وتدفع المنظم الدولي للضغط على إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وحل الدولتين، فقد نجحت في ذلك بنسب متفاوتة.
لكن، ذلك تم أولًا بكلفة مدنية كبيرة وغير مسبوقة، وبتدمير ما يزيد عن 65 في المائة من مباني القطاع، وتبين أيضًا أن تحرك الضمير الإنساني ولو بشكل عالمي، لم يؤثر في القرار السياسي الأميركي والأوروبي إلا قليلًا، إذ أثبتت الوقائع أن واشنطن حركت بشكل ذكي لعبة الدبلوماسية: (مقترحات لوقف إطلاق النار وتحريك عجلة المفاوضات)، فأجلت ضربة إيران لحينٍ، وأكسبت تل أبيب مزيدًا من الزمن، وتخففت كثيرًا من الضغط الدولي.
إذا كان قصد المقاومة أن تعيد القضية الفلسطينية إلى مسرح الأحداث، وتستنهض الضمير العالمي، فقد نجحت في ذلك بنسب متفاوتة، لكن تم ذلك بكلفة مدنية كبيرة وغير مسبوقة
أما إذا كان قصد المقاومة أن تدفع إيران ومحاورها المختلفة في المنطقة إلى عمق المواجهة، وهو شيء محتمل، بحكم أن حماس طالما كانت في عهد رئيس المكتب السياسي الأسبق خالد مشعل تنتقد طهران على عدم انسجام أقوالها مع أفعالها.
فإذا كان القصد أن تغير إستراتيجية إيران من استثمار القضية الفلسطينية وكل أذرعها في المنطقة لتحسين موقعها التفاوضي؛ لرفع الحصار عنها وإبرام اتفاق نووي جديد، فقد نجحت في ذلك، وبينت الأحداث، لا سيما بعد الضربة الإيرانية، أن طهران غادرت بشكل كلي مربع “الصبر الإستراتيجي”، ودخلت مربعًا جديدًا محكومًا بمقولة: “إذا أردت أن تتجنب الحرب الشاملة، فينبغي التقدم خطوة إليها”.
لكن مع ذلك كله، لا نحكم على قصد حماس، وتوقعاتها لردود الفعل المرتقبة، فالمؤكد أنها كانت لديها توقعات أن رد فعل الكيان الإسرائيلي سيكون قاسيًا ومدمرًا، وكانت تعلم أيضًا أن أي صراع مع الكيان الإسرائيلي يعني أن الحرب بأسلوب الجيش الإسرائيلي ستعني استهداف المدنيين من الأطفال والنساء وتدمير البنى والتجهيزات المدنية واستهداف المستشفيات ودور العبادة، والمنظمات التي تشتغل لفائدة الأمم المتحدة، ووسائل الإعلام والصحفيين، لكن ما ليس مؤكدًا في توقعاتها، هو رد فعل محاور المقاومة من جهة، والشارع العربي من جهة ثانية.
لا ندري هل كانت حماس في توقعها لتداعيات الرد الإسرائيلي أن حراكًا عربيًا إقليميًا، على غرار الحراك العالمي، سيدفع الشارع العربي كله إلى الضغط على الأنظمة، لا سيما منها التي دخلت مربع التطبيع، لفك علاقتها بالكيان الصهيوني، والمساهمة في عزله دوليًا.
ولذلك، نكتفي ضمن تقييم إستراتيجيتها، أن نضع خطابها الأول والمركزي، في دائرة الاستشراف، أي طوفان الأقصى باعتباره حدثًا استباقيًا، يمنع إستراتيجية إسرائيلية لتغيير موازين القوى في المنطقة، بما في ذلك قواعد الاشتباك.
وفي المقابل، لا ندري على وجه التحديد ما هي الإستراتيجية الإسرائيلية، في ظل حديث المسؤولين الأميركيين أنفسهم عن أن تل أبيب ليس لها رؤية لما يسمى بـ “اليوم التالي”، أي ماذا بعد تدمير غزة، والدخول إلى رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا، لكن ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه التصريحات قد تلعب دورًا مشوشًا يصب في صالح تل أبيب، ومن ثَمَّ تخفي حقيقة ما تريده، خاصة إن كان القصد عملًا إباديًا تهجيريًا يجري وفق خطة مرسومة ومتدرجة.
عسكريًا، وبالنظر إلى الأهداف التي رفعتها تل أبيب، لا شيء تحقق بالمطلق، فلا هي قضت على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، ولا هي أعادت الرهائن ورفعت من مؤشرات الأمن في غلاف غزة ليتمكن سكان المستوطنات من الرجوع لمساكنهم.
إستراتيجيًا، ثمة غموض كبير في لعبة تل أبيب في المنطقة، فقد تحاشت منذ البدء أن تدخل في معركة شاملة، ورفضت السقوط في فخ تعدد الجبهات، واختارت أن تبدأ بغزة، ثم تتلوها بخطوة لبنان، لكنها اليوم في الواقع، تقاتل على واجهتين، بعد أن حركت فرقها العسكرية إلى جنوب لبنان (6 فرق)، وأبقت على فرقتين في قطاع غزة، وهي تواجه تحدي دخول إيران في المعركة الشاملة المفتوحة، لتجد نفسها في المحصلة أمام ست واجهات: الفلسطينية، واللبنانية، واليمنية، والسورية، والعراقية، والإيرانية.
إستراتيجيًا، ثمة غموض كبير في لعبة تل أبيب في المنطقة.. تقاتل على واجهتين، بعد أن حركت فرقها العسكرية إلى جنوب لبنان وأبقت على فرقتين في قطاع غزة
تل أبيب قررت أن تضرب إيران، ورفعت السقف عاليًا، وقالت إن البرنامج النووي الإيراني، ومحطات النفط، فضلًا عن بعض المواقع العسكرية، ستكون أهدافًا مشروعة، وقالت إن الرد سيكون بالضخامة التي تجعل رد إيران مستحيلًا، لكن ثمة مؤشرات تبين أن إسرائيل لا تتحمل اليوم دخول إيران إلى الجبهة، وتفضل أن تنتهي من لبنان، لتتجه ربما إلى سوريا، ومن ثمة بقية المحاور على أساس أن تكون إيران هي المحطة الأخيرة.
وفي هذه الحالة، ستكون تصريحات إسرائيل التهديدية بمثابة ابتزاز للإدارة الأميركية والأوروبيين، لتقديم مزيد من الدعم لإستراتيجية إسرائيلية يقودها اليمين المتطرف، ولا يدري أحد إلى أين تتجه.
وفي هذا السياق يمكن أن نقرأ كيف التقطت واشنطن الرسالة وعرضت تعويضات ودعمًا عسكريًا إضافيًا على تل أبيب للامتناع عن الرد على طهران، وكيف تم الرد بعنف شديد على الرئيس الفرنسي حين دعا إلى حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، قبل أن تصدر الرئاسة الفرنسية توضيحًا شبه اعتذاري، ويصحح ماكرون تصريحه مع ذكرى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ويكتب تغريدة بالعبرية يعتبر فيها ما حدث في طوفان الأقصى ليس فقط “ألمًا إسرائيليًا بل ألم الإنسانية جمعاء”.
عسكريًا، وهذه المرة في الجبهة اللبنانية، حققت تل أبيب انتصارًا تكتيكيًا كبيرًا بضربها قيادة حزب الله وتفجير أجهزة البيجر واغتيال عدد من مسؤولي حزب الله وقياداته العسكرية، لا سيما من “نخبة الرضوان”، لكن الوقائع العسكرية الميدانية تقول إن الجيش الإسرائيلي في اليوم السابع من محاولة الدخول إلى الأراضي اللبنانية، عجز عن اختراق دفاعات حزب الله، وأعلن بشكل رسمي عن حصيلة ضحايا قاسية، واتجهت الضربات الجوية بعدها بنفس طريقة غزة، إلى محو مربعات سكنية بشكل متتالٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت الحاضنة لحزب الله.
في ذكرى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وقع تحول مهم في إستراتيجية المقاومة لجهة رفع ورقة تحدي “الأمن الشخصي” داخل إسرائيل بالقيام بعمليات في كل من يافا وتل أبيب، فضلًا عن استهداف حيفا وتل أبيب بصواريخ خلفت قتلى وأكثر من عشر إصابات حسب التقييم الأوّلي للجيش الإسرائيلي، لتحرك المقاومة بذلك ذات الملف الذي استغله بنيامين نتنياهو وبن غفير للإطاحة بحكومة يائير لبيد.
في النظرة التحليلية التي تقرأ خطوط الإستراتيجيتين المتقابلتين، لا شيء يبشر بإمكان العودة السريعة إلى طاولة المفاوضات لوقف إطلاق النار، ولو ضمن جبهة لبنان، التي قبل الأمين العام لحزب الله قبل اغتياله مقترح واشنطن وباريس بوقف إطلاق النار لمدة مؤقتة من ثلاثة أسابيع، فكل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية أعلن مع ذكرى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ألا شيء رفض بالأمس سيكون محل قبول اليوم، وألا شيء عجز الاحتلال الإسرائيلي عن تحقيقه بالحرب يمكن أن يحققه بالمفاوضات، وأن طريق الحل يمر بالضرورة عبر وقف إطلاق النار، وانسحاب إسرائيل من كل قطاع غزة ورفع الحصار، وصفقة عادلة للإفراج عن الأسرى والرهائن.
في الجانب المقابل، توحي لغة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير دفاعه، بأن إسرائيل تحررت من عقيدتها العسكرية المبنية على الحرب الخاطفة أو الحرب قصيرة المدى، واختارت بدعم أميركي وأوروبي، أن تذهب لحرب طويلة حتى تقضي على التهديدات الأمنية التي تواجهها، وتعيد صياغة شرق أوسط بدون فلسطين بالمطلق، كما هي الصورة التي أظهرها بنيامين نتنياهو عند إلقائه كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
ونتيجة لذلك، نميل إلى أن إسرائيل لن تردّ على طهران في المدى القصير، وأنها ستستمر في ضرب جنوب لبنان كله؛ أي مبانيه السكنية وتجهيزاته العمرانية، بما في ذلك المؤسسات الاستشفائية، حتى تقضي على شروط عيش حاضنة حزب الله؛ تقديرًا منها أن ذلك أنسب طريق لفكّ ارتباط حزب الله عن بيئته وتأليب جزء من المجتمع السياسي اللبناني ضده، لا سيما المسيحي، وتنشر بذلك جوًا من الإحباط في إمكانية الانتصار مرة أخرى على إسرائيل كما حدث عام 2000، وعام 2006.
وبهذا تكون تل أبيب تستخدم نفس الوتيرة التي انتهجتها في قطاع غزة، في حين ستتجه المقاومة إلى استثمار ورقة “الأمن الشخصي”، عملًا بالمثل، حتى تتنامى مؤشرات الخوف في المجتمع الإسرائيلي، ويستعاد بذلك زخم التمرد على الحكومة، وتفكك الجبهة الداخلية بنحو أكثر شدة من المرحلة السابقة، ويمكن قراءة تصريحات رئيس بلدية حيفا، بعد الضربات التي تلقتها المدينة، بدعوته نتنياهو إلى المضي مباشرة إلى قبول صفقة تبادل الأسرى مع الفلسطينيين، ووقف إطلاق النار، كمؤشر أوّلي في هذا الاتجاه.
كل المؤشرات تؤكد أن إعادة صياغة الشرق الأوسط بالرؤية الإسرائيلية، هو هدف غير قابل للتحقق في ظل العجز الإسرائيلي عن حسم المعركة مع البنى العسكرية لفصائل المقاومة ومحاورها، وأن المعركة ستأخذ مزيدًا من الوقت، فتتدحرج الكرة، حتى تقف إستراتيجية المقاومة الاستنزافية على الضغط على الزناد لتفجير قضية “الأمن الشخصي” في كل مدن فلسطين المحتلة، وتلعب بنفس السلاح الذي تلعب به إسرائيل مع لبنان، أي تفجير الجبهة الداخلية، بحيث يكون الطرف القادر على الحسم هو صاحب النفس الطويل القادر على امتصاص الضربات.
وفي هذه الحالة من المؤكد أن تخسر إسرائيل حربها إن تحققت إصابات بليغة في وسط المدنيين أو حتى في المباني والتجهيزات المدنية.
والتقدير الأقرب للتوقع هو أنّها في غضون الأسابيع القليلة القادمة، لا سيما إن نجح الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية القادمة، ستتجه إلى طلب الدعم الأميركي لاقتراح مبادرة لوقف إطلاق النار، تقدم فيه إسرائيل بعض التنازلات لإنهاء الحرب، أو ينتج ضغط الجبهة الداخلية الإسرائيلية حراكًا سياسيًا ومجتمعيًا قويًا ينتهي بإسقاط حكومة نتنياهو، وتحميل المسؤولية لليمين المتطرف على إدخاله الدولة العبرية في سيناريوهات ستضر بشكل جوهري بموقعها وصورتها في المنطقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.