في يوليو/تموز الماضي، طرح كاتب هذه السطور تساؤلًا في مقال له على الجزيرة نت عن أسباب عدم زيارة الرئيس الأميركي بايدن للقارة الأفريقية منذ وصوله للبيت الأبيض قبل قرابة 4 سنوات، لا سيما أنه أعلن خلال القمة الأميركية – الأفريقية الأخيرة التي عقدت في ديسمبر/كانون الأول 2022 عن تخطيطه لزيارة القارة، دون الإعلان عن موعد أو وجهة محدّدة لرحلته.
وكان سبب هذا الطرح حينها يرجع لتراجع النفوذ الأميركي في القارة لصالح النفوذ الروسي تحديدًا، لا سيما في منطقة الساحل، وخاصة في النيجر التي طالبت القوات الأميركية بالانسحاب منها، “أتمت انسحابها بالفعل قبل أيام”، ثم تشاد التي طالبت بمراجعة الاتفاقات العسكرية مع واشنطن، فضلًا عن استمرار بحثها عن قواعد عسكرية بديلة “ساحل العاج”، وكذلك البحث عن مقر أفريقي للقيادة الأميركية العسكرية في أفريقيا “الأفريكوم” بدلًا من مقرها الحالي بمدينة شتوتغارت الألمانية، علاوة على الانتقادات الأفريقية للدعم الأميركي لإسرائيل في حربها ضد غزة.
ومؤخرًا أعلنت مصادر أميركية عدة أن الرجل الذي يغادر البيت الأبيض بعد انسحابه من سباق الرئاسة يخطط لزيارة أنغولا في الأسابيع المقبلة؛ تنفيذًا لوعوده السابقة بأن يكون أوّل رئيس أميركي يزور أفريقيا جنوب الصحراء منذ زيارة سلفه باراك أوباما لها.
ورجحت المصادر أن تكون الزيارة بعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر، وقبيل انتخابات الرئاسة الأميركية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وقد تزامنت هذه التصريحات مع تصريحات أخرى للسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة التي قالت إن واشنطن تدعم إنشاء مقعدين دائمين في مجلس الأمن للدول الأفريقية، وهو نفس ما أكده بايدن في القمة الأميركية الأفريقية، حيث حرص خلالها على تأكيد اهتمامه بالقارة السمراء من خلال عدة أمور، منها ضرورة أن يكون لأفريقيا مقعد دائم في مجلس الأمن في إطار خطة إصلاح الأمم المتحدة.
وهنا نطرح السؤال الجديد “القديم”: لماذا أعلن بايدن زيارة القارة في مثل هذا التوقيت المتأخر؟ ولماذا البداية من أنغولا جنوب القارة، وليس من منطقة الساحل أو غرب أفريقيا التي تشهد رفضًا أفريقيًا ملحوظًا لواشنطن؟
أسباب الاهتمام الأميركي بأفريقيا
يمكن القول بوجود أهداف عدة لزيارة بايدن لأفريقيا، يمكن إجمالها فيما يلي:
- أولًا: تحسين الصورة الذهنية لواشنطن في القارة بعد اتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية تحت ذريعة الديمقراطية، عكس النهج الصيني والروسي.
وكان من نتيجة ذلك مطالبة قادة الانقلاب في النيجر بسحب القوات الأميركية، ومطالبة تشاد بمراجعة الاتفاق الأمني مع واشنطن، فضلًا عن اتهامها بالتعالي على الدول الأفريقية خلال حكم ترامب الذي لم يكتفِ بعدم زيارة أية دولة أفريقية، بل وصف هذه الدول “بالحثالة”، رافعًا شعار “أميركا أولًا”.
وبالتالي، أدار ظهره لدول القارة، تاركًا المجال لكل من روسيا والصين للتوغل فيها بصورة كبيرة، ولملء هذا الفراغ سواء عبر وسائل الدبلوماسية الناعمة “القروض أو المنح الصينية”، أو القوة الصلبة “التدخل الروسي من خلال فاغنر”.
- ثانيًا: محاولة الحصول على التأييد الأفريقي في المحافل الدولية، خاصة بعد حرب روسيا على أوكرانيا، والانقسام الأفريقي بشأن الموقف منها، بعدما تبين أن الولايات المتحدة لا تريد سوى مصالحها، في مقابل العرض الروسي بتصدير القمح مجانًا لأفريقيا، وهو ما انعكس على الموقف الأفريقي في الأمم المتحدة، حيث امتنعت قرابة نصف الدول الأفريقية عن التصويت، وكان من بينها تنزانيا التي زارتها نائبته كامالا هاريس في مارس/آذار 2023.
- ثالثًا: محاولة الحصول على دعم الدول الأفريقية للحرب على غزة، بعد الرفض الأفريقي الكبير لها، بل ودعم معظم دول القارة للحقوق الفلسطينية المشروعة في إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967.
- رابعًا: السعي للحصول على مزيد من أصوات الناخبين الأميركيين من أصول أفريقية في الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح كامالا هاريس، لا سيما بعدما أظهرت استطلاعات الرأي قبل تنحي بايدن عن سباق الرئاسة تراجع تأييد هذه الفئة له.
فوفقًا لهذه الاستطلاعات التي جرت في مايو/أيار الماضي، ورغم حصوله على أغلبية أصوات هؤلاء، سيخسر أصوات الشباب تحديدًا في بعض الولايات الحاسمة، ومن بينها جورجيا، وحتى ويسكونسن. وفي يوليو/تموز الماضي، بلغت نسبة تأييد السود له 64% مقابل 92% في انتخابات 2020، لذا أعلن البيت الأبيض في مايو/أيار الماضي تخصيص 16 مليار دولار لحوالي 100 جامعة تاريخية للسود في البلاد.
وربما هذا ما رفع أسهم كامالا هاريس التي حلت بدلًا منه في سباق الرئاسة. فوفقًا لمسح أجراه مركز “بيو” للأبحاث بين البالغين في الولايات المتحدة في أغسطس/آب الماضي “قبل انطلاق المؤتمر الوطني الديمقراطي”، فإن ثلاثة أرباع الناخبين السود (77٪) سيصوتون لهاريس. ومعروف أن الأميركيين السود يشكلون عادة العمود الفقري للحزب الديمقراطي.
- خامسًا: تنفيذ الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه القارة، التي تم الإعلان عنها قبل عامين، وتركز على نقاط عدة، منها ضرورة مواجهة الأنشطة الصينية “الضارة” في أفريقيا، وكذلك المعلومات “المضللة” الروسية، التي دفعت العديد من دول القارة لتصديق الرواية الروسية في تبرير حربها على أوكرانيا، واتخاذ بعض هذه الدول موقف عدم الانحياز في الأمم المتحدة عند طرح الموضوع للنقاش.
هذه المواجهة الأميركية لكل من روسيا والصين هي التي دفعت واشنطن قبل سنوات لإنشاء القيادة العسكرية الأميركية المعنية بالقارة الأفريقية “الأفريكوم”؛ لمواجهة التغلغل العسكري الروسي تحديدًا من خلال فاغنر، والفيلق الروسي الذي حل محلها أيضًا.
كما سعت واشنطن من ناحية أخرى لزيادة استثماراتها في مشاريع البنية التحتية على غرار الاستثمارات الصينية، على أمل زيادة شعبيتها لدى الشعوب الأفريقية عبر تقديم خدمات ملموسة لها بدلًا من السياسات التقليدية السابقة القائمة على تقديم مساعدات أو قروض للحكومات، قد لا تجد طريقها إلى هذه الشعوب؛ بسبب انتشار الفساد بصورة كبيرة.
وربما هذا ما دفعها للإعلان عن مبادرة الشراكة العالمية في مجال الاستثمار والبنية التحتية: “thePartnership for Global Infrastructure and Investment”، وأن تقوم منذ عام 2021 بإبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 47 دولة أفريقية من إجمالي 54 دولة، بقيمة إجمالية تقدّر بأكثر من 18 مليار دولار.
كما قامت مؤخرًا بعقد شراكة لبناء توسعة في ميناء برايا عاصمة الرأس الأخضر “كاب فيردي” بمبلغ 150 مليون دولار. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت واشنطن عن 550 اتفاقية تجارية واستثمارية جديدة مع الدول الأفريقية، بزيادة قدرها 67% عن الأعوام الماضية.
لماذا أنغولا؟
وإذا كانت هذه هي الأسباب العامة للزيارة، فإن السؤال الثاني الذي يطرح نفسه: لماذا أنغولا؟ ولماذا الاهتمام الأميركي بها؟
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن أنغولا “الدولة التابعة استعماريًا للبرتغال” كانت إحدى المحطات الهامة للزيارة الأولى لوزير الدفاع لويد أوستن للقارة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي زار أيضًا كلًا من كينيا وجيبوتي، وهي أول زيارة يقوم بها وزير دفاع أميركي لأنغولا منذ استقلالها عام 1975.
كما كانت أنغولا الدولة الوحيدة جنوب القارة التي زارها وزير الخارجية بلينكن في جولته الأخيرة للقارة أوائل هذا العام “شملت هذه الجولة 3 دول من غرب أفريقيا هي: الرأس الأخضر، نيجيريا، ساحل العاج”. وبالتالي، أصبح السؤال: لماذا التركيز الأميركي على أنغولا؟
هنا ينبغي الإشارة إلى عدة اعتبارات أميركية خاصة بأنغولا، منها:
- موقعها الإستراتيجي الهام على المحيط الأطلسي في الجنوب الأفريقي. فضلًا عن غناها بالثروات المعدنية، خاصة في إقليم كابيندا الذي لا يزال يشهد بعض التوترات. فاحتياطاتها النفطية تقدر بحوالي 9.1 مليارات برميل، فضلًا عن 11 تريليون قدم من الغاز الطبيعي، علاوة على معادن الألماس والذهب، والموارد النادرة مثل الكوبالت والكولتان، مما يجعلها محطة للصادرات التكنولوجية الأميركية القادمة لدول الجنوب والشرق والأوسط الأفريقي، أو محطة للواردات الخاصة بالموارد الطبيعية الثرية في هذه المنطقة، خاصة الكوبالت “الكونغو الديمقراطية” أو النحاس “زامبيا” أو الكولتان وغيرها، التي تعد أساس الصناعات التكنولوجية المتقدمة بشقيها المدني والعسكري.
- رغبة إدارة بايدن في سحب أنغولا ذات التوجهات الماركسية السابقة من أي نفوذ روسي. فأنغولا، ثالث أكبر منتج للنفط في أفريقيا، تمتعت بعلاقات وطيدة مع الاتحاد السوفياتي السابق، إذ دعمت موسكو الرئيس السابق دوس سانتوس خلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين عامي 1975 و2002، في مواجهة حركة يونيتا المعارضة المدعومة أميركيًا بقيادة جوناس سافيمبي. كما كانت موسكو سبّاقة في زيارة أنغولا، حيث زارها وزير خارجيتها سيرغي لافروف خلال جولته الثانية في القارة أوائل عام 2023، أي قبل زيارة أوستن لها بتسعة أشهر تقريبًا، وقبل زيارة بلينكن بحوالي عام.
- الرغبة في مواجهة النفوذ الصيني من خلال سحب أنغولا من مشروع الصين الإستراتيجي “الحزام والطريق”. تعد أنغولا بحكم موقعها الإستراتيجي البحري على المحيط الأطلسي، وكذلك موقعها البري، إحدى الدول المحورية الرئيسية فيه، كونها ممرًا للبضائع الصينية عبر السكك الحديدية التي أنشأتها الصين نحو أفريقيا.
كما تعد طريقًا للموارد النادرة من حزام الكوبالت والكولتان في زامبيا والكونغو الديمقراطية. وتتمتع أنغولا بعلاقات وطيدة مع بكين، إذ تعد من أكبر خمسة مورّدين للنفط إلى الصين، كما تعد أكبر شريك تجاري لها في القارة السمراء بحجم تجارة تجاوز 120 مليار دولار منذ عام 2010. تلعب الشركات الصينية (400 شركة) دورًا مهمًا في مجالات عدة في لواندا، لا سيما في مجال البنية التحتية، إذ غالبًا ما يحدث نوع من المبادلة التجارية بين الاستثمار الصيني في هذا القطاع مقابل النفط الأنغولي.
لذلك، لا غرابة في أن تسعى واشنطن لإيجاد موطئ قدم لها في لواندا من خلال استثمارات تقدر بنحو 250 مليون دولار في مشروع ممر لوبيتو الأطلسي للسكك الحديدية الذي يربط أنغولا بكل من مناجم الكوبالت في الكونغو الديمقراطية، وحزام النحاس في زامبيا.
بل سعت واشنطن مؤخرًا في أغسطس/آب الماضي لمد هذا الخط إلى المحيط الهندي عبر تنزانيا. ولعل هذا يفسر أسباب قيام كامالا هاريس في زيارتها الأولى للقارة في مارس/آذار 2023 بزيارة كل من تنزانيا وزامبيا في شرق وجنوب القارة، بالإضافة إلى غانا في الغرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.