على أرض الواقع، لم تنجح الديمقراطية حتى الآن في بلادنا العربية، ولم تؤتِ ثمارها، بل بقيت البيئة السياسية العربية حالةً نشازًا غير قادرة على الإثمار. يرى البعضُ ويبرّر ذلك بأن الديمقراطية نظام غربي لا يناسب البيئة العربية، وأن التاريخ العربي قد أثبت أن ما يناسبنا هو الدكتاتور العادل، فهل هذا التوصيف صحيح؟
قد تكون فكرة الدكتاتور العادل منطقية للوهلة الأولى، إذ يقوم هذا الطرح على فكرة وجود الدكتاتور الحازم صاحبِ الرأي الثاقب، الذي يملك الحكمةَ والقوة والضمير الحي والحسّ الإنساني المرهف القادر على العدل والإنصاف، والقدرةَ على تجديد الفكر والبرامج والمشروع، لكن هذه الشخصية قد لا تكون سوى حالة طوباوية حالمة لا يمكن وجودها على أرض الواقع.
وفي الوقت ذاته، السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والدكتاتورية أول درجة في سُلم الظلم والفساد؛ فالدكتاتورية وحكم الفرد هما البيئة المثالية التي يعيش ويتفشّى ويتمدد فيها الظلم والفساد وسوء الإدارة والفوضى، والانهيار بعد ذلك، والتاريخ شاهد على كل ذلك.
نخبٌ أيديولوجية
عند البحث وتتبع التجارب العربية الحديثة في محاولة خلق حياة ديمقراطية حقيقية، وجدنا أسباب التعثر والفشل والانتكاس التي أصابت تلك التجارب العربية الحديثة محصورةً في كثير منها، بالتالي:
عدم وضوح الفكرة الديمقراطية في نفوس الشعوب التي تُعَد الركيزةَ الأساسية في العملية الديمقراطية، فالشعب هو أساس العملية الديمقراطية التي تعني حكمَ الشعبِ نفسَهُ.
عدمُ وضوح فكرة الديمقراطية في الحكم والتداول السلمي للسلطة زَهد الشعوب العربية في الديمقراطية والنضال من أجلها حتى وجدنا بعض الشعوب تهتف ضد المؤسسات والسلطات التي انتخبَتْها عندما حرضَتْها القوى المستبدة ضد المؤسسات الديمقراطية.
عدم وضوح فكرة الديمقراطية لدى النخب العربية التي تقود الشعوب، فالنخبُ العربية التي وُلدت في حقب الاستبداد العربي- في غالبها – نخبٌ أيديولوجية غير برامجية، مقسومةٌ بين نخبٍ عِلمانية ليبرالية، كل هدفها تعظيم الحريات الشخصية، وعلى رأسها الحريات الجنسية، ومحاربة البيئات المحافظة، ونخبٍ إسلامية لا تهتم بالحريات الشخصية، وتحاول فرض نمط محدد من السلوك الاجتماعي على حياة الناس ومعاشها.
ظلت هذه النخب لزمن طويل تنظر إلى الديمقراطية على أنها نوع من الغزو الثقافي الغربي الذي تجب مقاومته، وتتمسك بفكرة المتقابلات ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فيما تنظر نخب عربية يسارية إلى الديمقراطية بازدراء، وتُؤمِن بأن قوة الدبابة هي الوسيلة الأكثر أمانًا والطريق الأسهل للحكم والاستقرار.
أيضًا تَختزل هذه النخبُ الديمقراطيةَ بأنها الصندوقُ ونتائجه، وترفض فكرة أن الديمقراطية كما هي الصندوق وحكم الأغلبية، فهي أيضًا الانتخابات المبكرة في حالات الاستعصاء السياسي، والاستقالة والاعتذار المبكر في حالات الفشل.
وينظر معظم النخب العربية إلى بعضهم بعضًا على أنهم خصوم يدخلون فيما بينهم بصراع صفري، كل ما يهمهم هو كيف يُفشلون بعضهم بعضًا، حتى وصلوا إلى مرحلة من الاستعانة بالاستبداد على بعضهم.
أغرت هذه الحالة المتردية التي تعيشها النخب وعدم وضوح فكرة الديمقراطية وممارساتها الاستبدادَ العربي، ومكّنت له، ومنحته الفرصة الذهبيّة لإحكام سيطرته على مقاليد الحكم بعد الثورات العربية.
فقر سياسي
قابلية النخب السياسية للاستعمال: لم يعش كثير من النخب العربية حالة من النضال السياسي الحقيقي من أجل الديمقراطية والتضحية في سبيلها، فنجد كثيرًا من منتسبي الحركات الأيديولوجية يشاغبون بالفكر الديمقراطي من أجل لفت انتباه الحاكم لهم، وما أن يلوح المستبد لهم بالمشاركة معه في الحكم وتقاسم المغانم حتى ينقلبَ كثيرٌ منهم على فكرة الديمقراطية ويحاولوا أن يزينوا حالة الاستبداد ويبرروها بين أبناء الشعب بمسميات مختلفة مُبدينَ تفهمًا لها.
تخلّف الأنظمة الانتخابية في الدول العربية: بعد أن جاءت الشعوب العربية بالثورة، اتضح أن النخب السياسية والقانونية لا تملك تفاصيل ما تريد، فهي نخب تعلم ما لا تريد، لكنها لا تعلم ما تريد.
هذه الحالة نتيجة طبيعية لحالة الفقر السياسي الكبير الذي خلفته الأنظمة المستبِدة وأصاب كل طبقات المجتمع، فكل ما كانت تقوم به تلك الأنظمة المستبدة هو تجريف أي حالة وعي أو قيام حياة ديمقراطية مستقبلًا حتى بعد رحيلها، وقد نجحت في ذلك.
كانت هناك حالة فقر في إدراك وفهم أهم قواعد الحكم في الأنظمة الجمهورية، إذ تقوم فلسفة الأنظمة الجمهورية الديمقراطية على فكرة أن الرئيس مَن يباشر مهام الحكم بنفسه، وحتى يستطيع ذلك، لا بد من أن تنسجم كل مؤسسات الدولة العميقة معه في البرنامج والرؤية.
ركّزت الأنظمة الانتخابية التي جاءت بها قوى الثورة على كيفية الوصول برئيسٍ منتخَبٍ إلى الحكم، لكنها لم تكن تعي أهمية كيفية تمكين الرئيس المنتخب من الحكم الحقيقي، فلا حكمَ لرئيسٍ دون أن تكون الدولة العميقة تحت توجيهاته وقراراته وتعيينه وعزله لقادتها.
أما في أنظمة الحكم البرلماني العربي، فقد وجدنا كيف فُرغَت فلسفة الحكم البرلماني من جوهرها، تلك الفلسفة التي كانت تقوم على فكرة أن الأغلبية هي التي تحكم وتشرع وتحمي وتدعم خطة من يحكم، وأن الأقلية هي التي تراقب وتعارض، وكل هذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال نظام انتخابي يفرز أغلبية وأقلية داخل البرلمان.
اختطاف الديمقراطية
غابت هذه الحالة عن الأنظمة البرلمانية العربية التي أنتجت في معظمها برلمانات -معلقة بالمعنى السياسي- لا يملك فيها أي حزب أغلبية برلمانية، مما دفع القوى السياسية للذهاب إلى الحكومات الائتلافية وحكومات المحاصصة، فكانت نتائج التطبيق أبشع صورة للحكم البرلماني.
كل ذلك كان نتيجة خللٍ في التشريعات والنظم الانتخابية، وغيابِ العتبة الانتخابية أو نسبة الحسم المرتفعة في الأنظمة الانتخابية من الأساس، فوُلدت برلمانات أقليات سياسية مبعثرة غير قادرة على الحكم.
اختطاف التجارب الديمقراطية العربية من قبل الفئات المفسدة للعمل الديمقراطي، فلا يمكن للديمقراطية أن تعطي نتائج حقيقية إلا إذا كانت قائمة على حالة من التدافع بين مَن يقدم الأفضل لجمع المال العام وإدارته وإعادة توزيعه، وهذا لا يكون إلا بخطاب برامجي بعيدًا عن فئاتٍ أربع تفسد الديمقراطية والفلسفة التي قامت من أجلها الديمقراطية، وهي: “من يملك القوة الخشنة، ومن يملك الشوكة الروحية، ومن يملك نفوذ القبيلة ورابطة الدم، ومن يقدم الخطاب الشعبوي”.
يُفسد الديمقراطيةَ كل من يستطيع استخدام القوة الخشنة في حسم الصراع وحالة التدافع مع منافسه في السباق الديمقراطي، فكل من يملك القدرة على تسخير القوة الخشنة والبندقية في حسم صراعه مع خصومه، وحسم التنافس لصالحه وصالح مَن يدور في فلكه وتحالفه، سواء كان من خلفية عسكرية أو مدنية، سيُفسِد ديمقراطيته، فعندما تحضر البندقية والقوة الخشنة تغيب قوة البرنامج والطرح، وتفرغ الديمقراطية من قيمتها وفلسفتها.
معايير واضحة
أيضًا يمكن تعريف رجل الدين بأنه كل مَن يملك شوكة روحية في نفوس الجمهور، فمن يملك الشوكة الروحية في نفوس الأتباع، تكون منافسته مختلة ومحسومة لصالح القداسة والشوكة الروحية، وتغيب حالة التدافع على صلاحية البرنامج ومن يستطيع خدمة الناس، فوجدنا كيف سقطت الديمقراطية العراقية وفُرغَت من هدفها وغايتها.
حكم القبائل: القبائل مكونات اجتماعية هدفها التعاون والتعاضد الاجتماعي، وقد كان لتسخير رابطة الدم والقبلية في المعارك الانتخابية العربية ما يناقض فكرة الديمقراطية وفلسفتها؛ فاستعمال القبيلة لإثبات سطوة القبيلة ونفوذها وقوتها وبسط سيطرتها، وتحويلها من كيانات اجتماعية إلى كيانات سياسية موسمية في المعارك الانتخابية، أفقد العملية الديمقراطية علتها وأفسد مخرجاتها.
أيضًا كان لتنامي الشعبوية السياسية وتفشيها بين الشعوب العربية- ومحاولة تصوير الديمقراطية على أنها عصا سحرية لحل مشكلات الناس ومتطلباتها وما تطمح إليه سريعًا- أثرٌ في هدم العملية الديمقراطية برمتها، فوجدنا كيف استطاعت الشعبوية السياسية في حالات المد أن تصل ببعض شعوب الثورات العربية إلى أن تهتف ضد الديمقراطية، وتؤيد وتصفق لحكم الرجل الواحد، وتؤيد تفكيك مؤسسات الدولة لصالح حكم الفرد.
استطاعت الديمقراطية الغربية أن تضع معايير واضحة لإبعاد استخدام القوة ورجال الدين عن اختطاف العملية الديمقراطية، ولم تكن لديها مشكلة القبيلة نظرًا إلى التركيبة السكانية الغربية، لكنها لم تتمكن حتى الآن من تحييد المال وحماية نفسها من رجال الأعمال حمايةً فاصلةً، وإن كانت هناك محاولات تشريعية تلطّف الحالة، لكنها لم تقضِ على دور المال في إفساد العملية السياسية، فوُضِعت التشريعات التي تفرض حدًا معينًا للدعاية الانتخابية، مع إعلان مصادر التمويل، ومنع التمويل الخارجي للحملات الانتخابية، وتجريم شراء الذمم والمال السياسي الأسود… إلخ.
ولا تزال الشعبوية لدى الغرب تؤثر بين الحين والآخر في العملية الديمقراطية، وفي نتائج الانتخابات بنسب مختلفة، لكنْ بالتأكيد لم تصل الشعبوية لديهم إلى معاداة الديمقراطية وتقويضها كما حصل في الدول العربية، باستثناء محاولة ترامب التي وُوْجِهَت بحكم المؤسسات الراسخة وملاحقة القضاء.
لبناء حالة ديمقراطية عربية حقيقية ومؤثرة، نحتاج إلى تحويل الديمقراطية إلى ثقافة وسلوك حياتي من خلال نشر معارفها وعلومها في كل المراحل التعليمية المدرسية والجامعية، وإنضاج النخب السياسية العربية لتكون الديمقراطية لديهم المسار الإستراتيجي في التعبير عن أفكارهم ومشاريعهم.
وفي الوقت ذاته، نحتاج إلى وضع التشريعات والمبادئ السياسية الصارمة التي تحصن العملية الديمقراطية من مفسداتها الأربع: “استخدام القوة الخشنة، ورجال الدين، والقبيلة، والشعبوية السياسية الرخيصة”.