حدّد الكيان الصهيونيّ هدفَين للحرب التي يشنها على غزة، وهما: القضاء على حركة حماس، وتحرير الأسرى الذين تحتفظ بهم. وجاء ذلك في غمرة اندفاع وردة فعل على الهزيمة التي تلقاها الكيان في 7 أكتوبر، والتي وضعت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وأركان حكومته في مأزِق شديد، إنْ على الصعيد الداخلي باتهامها بالتقصير في توقع الهجمات والفشل الذريع في التصدي لها، أو على صعيد الكرامة الوطنية التي تعرضت لهزة عميقة، جعلت العديد من قادة الاحتلال يتحدثون عن أن المعركة هي معركة وجود، وليست معركة عادية.
وتحدثت الولايات المتحدة عما بعد الحرب، كما لو أنها بدت واثقة من إنجاز الاحتلال هدفَ القضاء على حماس، وذلك بالحديث عن سيطرة سلطة فلسطينية متجددة على قطاع غزة، الأمر الذي أثار خلافًا مع حكومة نتنياهو التي ترفض وجود سلطة واحدة في الضفة والقطاع، لأنها- أصلًا- لا تؤمن بكيانية فلسطينية في الضفة والقطاع.
فشل وخلافات ومراوغة
وكان واضحًا منذ البداية أن هدف القضاء على حركة حماس لم يكن عمليًا، وأنه استخدم من قِبل نتنياهو؛ لإطالة أمد الحرب ليتجنب سقوطه بمجرد توقفها؛ على اعتبار أنه سيتعرض للمحاكمة بتهم الفساد، وستتم محاسبته بسبب الفشل في توقع “طوفان الأقصى” أو التصدّي له.
أما هدف تحرير الأسرى، فقد تعرض للنقض مع تنفيذ الهدن الإنسانية بعد الحملة الشرسة والوحشية التي شنها الاحتلال في شمال غزة، دون أن ينجح في تحرير أي أسير بالقوة. ورغم أن نتنياهو حرص على التأكيد على أن الإفراج عن نحو 100 من النساء والأطفال الإسرائيليين تم تحت الضغط العسكري، فإن الواقع يقول؛ إن ذلك لم يكن ليتم لولا قبول الاحتلال بهدنة كاملة خلال تنفيذ عملية الإفراج، وأن الكيان دفع ثمن ذلك بالإفراج عن 3 من النساء والقصّر من الفلسطينيين، مقابل كل أسير إسرائيلي يطلق سراحه.
الأمر الآخر الذي تبين بعد إعلان كتائب القسام عن مقتل أسرى لديها جراء القصف الإسرائيلي، أنه لا يمكن تحقيق الهدفين معًا، في ظل استمرار إحكام المقاومة قبضتَها على الأسرى والمقاومة الضارية والعنيفة التي تمتعت بها، والتي جعلت استمرار القصف الإسرائيلي تهديدًا لحياة الأسرى.
ومع استمرار فشل الاحتلال في تحقيق أي إنجاز على الأرض، تصاعدت مطالبات أهالي الأسرى بضرورة عقد صفقة تبادل مع حماس، فيما علت أصوات رؤساء وزراء سابقين للاحتلال- مثل: إيهود باراك، وإيهود أولمرت، وغيرهما من القادة والسياسيين والأمنيين- بضرورة وضع الأولوية للإفراج عن الأسرى في ظل الفشل الذي يواجه الاحتلال في مهمته العسكرية ضد حماس.
لكن نتنياهو استمر بالمراوغة، بدءًا من استدعاء رئيس الموساد من الدوحة، ووقف الهدن الإنسانية، واستئناف الحرب هذه المرة بالتركيز على جنوب القطاع.
كنتيجة حتمية للفشل الصهيوني ميدانيًا، فإن الأمور بدأت تتجه لقبول الاحتلال- وراعيه الأميركي- بحقيقة عدم إمكانية إنهاء حماس، لا كتنظيم مقاوم فقط، ولكن أيضًا كحركة متجذرة في الأرض، ولها امتداداتها الواسعة فلسطينيًا وإقليميًا
ولكن بعد فشل الاحتلال في المرحلة الثانية من الحرب- وتلقي قوات الاحتلال خسائر فادحة في القوات والمعدات- متبوعًا بتصاعد الأصوات بالانتقال لمرحلة تبادل الأسرى، قام نتنياهو بإطلاق مبادرة لهدنة إنسانية عبر الوسطاء، تدعو لإطلاق 40 من الإسرائيليين لدى حماس، مقابل إطلاق إسرائيل عددًا من الأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية، وهو ما رفضته حماس سريعًا، مطالبة بوقف إطلاق النار قبل الحديث عن أي هدنة، فضلًا عن المطالبة بصفقة شاملة تشمل تبييض سجون الاحتلال من الأسرى.
تبع ذلك تقدّم مصر بمبادرة نسّقت فيها مع إسرائيل والولايات المتحدة، تضمنت المرحلة الأولى منها المبادرة الإسرائيلية، على أن تتبعها مرحلتان تنتهيان بإفراج حماس عن كل الأسرى الجنود لديها، على أن يتم التفاوض على الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم!
وتجنَّبت حماس انتقاد المبادرة المصرية التي انطوت على إشكاليات، أهمها؛ أنها لم تحدد عدد الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم، فيما تحدثت عن تشكيل حكومة تكنوقراط، هي بالأساس مهمة فلسطينية خالصة لا دخل لها بها.
ومع ذلك، فقد أكدت الحركة مرارًا مطالبتها بوقف العدوان قبل الشروع بأي مفاوضات لتبييض السجون، على أن تنطوي عملية المبادلة على انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة بالكامل، ووجود ضمانات محدّدة للإعمار، وعدم إعادة اعتقال الأسرى المفرج عنهم.
يبدو أنَّ نتنياهو بإعادة تفعيله الهدنَ الإنسانية- مع أنه هو الذي أفشلها في السابق- يريد تحقيق هدفَين؛ هما: إعادة ترتيب قواته وخطط جيشه للاستمرار في المعركة بعد تكبد الخسائر العالية فيها، وإرسال رسالة للشارع الإسرائيلي أنه جادّ في إطلاق الأسرى، وأن حركة حماس هي التي تعطل الصفقة بفرض شروط غير مقبولة لإنفاذها.
غير أن هذه التحركات وغيرها تؤشر على فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه في الحرب.
كما أنها لا تخفي حقيقة الخلافات بين أقطاب الحكومة: (نتنياهو- غالانت) و(غانتس- إيزنكوت)، والتي تتركز حول طبيعة المرحلة الثالثة من الحرب التي يفترض أن تبدأ نهاية الشهر الحالي: (التخفيف من استهداف المدنيين، والتركيز على استهداف مقاتلي المقاومة)، وخُطة ما بعد انتهاء الحرب، حيث يتماهى غانتس مع خُطة تمكين سلطة فلسطينية متجددة – (استبعاد أو تهميش عباس، وتمكين شخصيات متساوقة أكثر مع الاحتلال) – في غزة، على عكس نتنياهو.
في هذا السياق أيضًا، يأتي إطلاق ثنائي التطرف الصهيوني: (بن غفير- سموتريتش) تصريحاتٍ بدأت بالتهجير القسري، وانتهت بالتهجير الطوعي، والتي يبدو أنها تأتي بالتنسيق مع نتنياهو؛ بهدف التشويش على الخُطة المطلوبة إسرائيليًا لما بعد الحرب.
وفي حقيقة الأمر، ورغم خطورة هذا الطرح، فلا يمكن أن يحظى باستجابة فلسطينية، فضلًا عن معارضة الولايات المتحدة له، وإثارته الخلافاتِ داخل حكومة الاحتلال نفسها.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الطرح هو تعبير آخر عن فشل الحملة الإسرائيلية على غزة، واستمرار تمتع المقاومة بالأفضلية والصمود، ما يدفع الاحتلال للبحث عن حلول للاستفراد بها، وإفقادها حاضنتها الشعبية.
تراجع وقبول بالواقع
كنتيجة حتمية للفشل الصهيوني ميدانيًا، فإن الأمور بدأت تتجه لقبول الاحتلال- وراعيه الأميركي- بحقيقة عدم إمكانية إنهاء حماس، لا كتنظيم مقاوم فقط، ولكن أيضًا كحركة متجذرة في الأرض، ولها امتداداتها الواسعة فلسطينيًا وإقليميًا.
وقد أكد المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، أن بلاده “لا تؤمن بأن الهجوم العسكري الإسرائيلي سيقضي على فكر حماس، ونتقبل فكرة أن الحركة ستظل موجودة”.
كما اعترف بأن “حماس لا تزال لديها قدرات كبيرة في قطاع غزة”، الأمر الذي يجعل الحديث عن خطة ما بعد حماس فاقدًا لمعناه الحقيقي، خصوصًا إذا استمرت قوة وهيمنة حماس على غزة.
ثم جاء تصريح رئيس الموساد ديفيد برنياع، الذي قال فيه: إنه “ملتزم بتصفية الحسابات مع القتلة الذين وصلوا إلى غلاف غزة في 7 أكتوبر ومع قيادة حماس”، وهو الذي وإن بدا أنه مجرد تهديد، إلا أنه يشير إلى تراجع الاحتلال عن هدف تصفية حماس، أو إنهاء وجودها السياسي والعسكري، وتقزيمه إلى هدف ملاحقة منفذي هجوم 7 أكتوبر!يدلل التصريحان على تشكل قناعة أميركية- إسرائيلية بالفشل في تحقيق هدف القضاء على حركة حماس- وذلك بسبب المقاومة البطولية- والتأكيد على استمرار قوة وفاعلية هذه الحركة رغم كل الضربات التي سُددت لها باستخدام القوة المفرطة بالتكنولوجيا والأسلحة الأميركية.
يؤكد هذا أنه لا يمكن هزيمة شعب متجذر في أرضه ووطنه، ومتمسك بعقيدته، ولا يمكن كسر إرادته. وحتى لو نجح الاحتلال في تصفية رموز المقاومة، فلا يعني ذلك تصفية حركة مقاومة، ولا تصفية قضية.
إن حديث سموتريتش وبن غفير عن التهجير القسري ثم الطوعي هو إحدى علامات الفشل والهزيمة، والبحث عن حلول من الواضح أنه من الصعب تحقيقها، فضلًا عن أن فكرة إبعاد المقاومين وقياداتهم إلى خارج غزة عن طريق البحر- كما جرى لقيادة منظمة التحرير عام 1982 – لا يمكن أن تنجح؛ لأنَّ الكيان الصهيوني أدرك أنه يتعامل مع فئة مختلفة، وفي مرحلة مختلفة أيضًا.
واعترافًا بفشل الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة- ومن خلفهما الدول الشريكة في أوروبا، وعلى رأسها بريطانيا- في حسم المعركة ضد حركة حماس، جاءت مطالبة جوزيب بوريل- مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي من مدينة لشبونة الإسبانية- المجتمعَ الدولي، بفرض حل للصراع بين “إسرائيل”، وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)؛ لأن الطرفين المتحاربين غير قادرين على التوصل إلى اتفاق.
وتشكل دعوة بوريل- التي جاءت تعليقًا على اغتيال الشيخ صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس في بيروت- حثًا على التعامل مع حركة حماس بواقعية، باعتبارها قوة فاعلة تملك حاضنة صلبة ومشروعية على الأرض، وفي الإقليم.وفي هذا السياق أيضًا، حذَّر اللورد بيتر هين – وزير شؤون الشرق الأوسط ووزير أيرلندا الشمالية السابق – من أن السياسة الغربية تجاه غزة تمثل فشلًا ذريعًا للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولن تؤدي إلى القضاء الدائم على حماس، أو توفير الأمن لإسرائيل.
وطالب في مقال- نشره بصحيفة الغارديان البريطانية – بريطانيا بإعادة التفكير في النهج البريطاني تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، ورأى ضرورة إشراك حماس بطريقة أو بأخرى في الحكم المستقبلي لغزة (ما يعني الاعتراف بها)، موضحًا أن المحاولات الغربية لاختيار قادة ينوبون عن شعوبهم لها سجل سيّئ.
توقع هين، عدم قدرة إسرائيل على القضاء على حركة حماس، كما وعد قادتها في تل أبيب – حتى لو دمرت غزة.
وأضاف أنه “بالرغم من الضرر الذي أحدثته إسرائيل على قدرة حماس العسكرية، وربما بشكل مهم، حيث تم تدمير الكثير من الأنفاق، وهروب عدد من مقاتليها، فحماس، وفي عدد من المظاهر هي حركة وأيديولوجية، أدّى تطرف نتنياهو إلى صعودها”.
أحلام وأوهام
تدلل مسيرة معركة غزة أن الاحتلال ومعه حليفه الأميركي لن يكونا قادرين على فرض تصور لما بعد الحرب، إلا إذا تم هزيمة حماس، وهو أمر بعيد المنال حتى لو استمرّت الحرب سنوات عديدة، كما يسوق الاحتلال. فضلًا عن أن إطالة الحرب، هو أمر مستبعد، في ضوء التفاعلات التي تحدثها على الصعيد العالمي، وتضرر إدارة بايدن منها، واستمرار فشل الاحتلال في تحقيق أي صورة نصر بها، وتراجع الحماسة لها إسرائيليًا.
بل إنه من المتوقع أن تتمكن حركة حماس من تحديد طبيعة المرحلة القادمة، وسيكون لها دور مهم فيها، وربما تلجأ للدفع بحكومة تكنوقراط مؤقتة تشكلها على عينها، وتكون لها مهمات مدنية بحتة، ولا تتناقض مع المقاومة. وبعد ذلك، فمن المفترض أن يقرر الشعب الفلسطيني مساره السياسي، والأشكال الوطنية التي تحقق أهدافه في التحرير والعودة.
ومن هنا، فإن سعي الكيان لتقسيم غزة إلى مقاطعات، وإيكال إدارة كل منها لعائلة يحددها بنفسه، كأحد حلول ما بعد الحرب، ليس إلا تعبيرًا عن أوهام، إذ لن يجد فلسطينيًا واحدًا يتعامل معه، فقد وجهت العشائر والقبائل الفلسطينية في غزة رسالة رفض قوية ردًا على خطة للاحتلال لتسليمها غزة، والسعي للتهجير الطوعي للفلسطينيين.
واعتبرت في بيان موحد لها أن “إدارة غزة شأن فلسطيني يتم مناقشته على طاولة الكل الوطني”، داعية الشعب الفلسطيني “للاستمرار بحماية ظهر المقاومة وتأمين الجبهة الداخلية”.
وقال البيان: “لن تكون القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية إلا صمام أمان لشعبنا ومقاومتنا الباسلة”. وإن المقاومة ستكون لهذا المخطط بالمرصاد، ما دامت أنها قوية وفاعلة.
وردًّا على دعوات الاحتلال لتهجير الفلسطينيين، أكدت قبائل فلسطين وعشائرها على أن الفلسطينيين “لن يغادروا أرضهم مهما بلغت التضحيات وأن كل ثمن نقدمه لأجل فلسطين هو رخيص في سبيل هذه الأرض المقدسة”.