عندما ضربت إسرائيل مركز قيادة تحت الأرض لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية (الضاحية) يوم الجمعة الماضي، مما أسفر عن مقتل الأمين العام للحزب منذ فترة طويلة حسن نصر الله، كانت الأضرار التي لحقت بحياة المدنيين كبيرة.
بحسب التقارير، أسقطت الطائرات الإسرائيلية أكثر من 80 قنبلة “مخترقة للتحصينات” وزنها 2000 رطل، والتي تبلغ مساحة تدميرها 35 مترًا (115 قدمًا) على الهدف. الهجوم الذي قتل نصر الله دمّر أيضًا ستة مبانٍ سكنية. وقد تسببت هجمات إسرائيلية مشابهة في الأسبوعين الماضيين في دمار هائل بالبنية التحتية المدنية في بيروت وجميع أنحاء لبنان. وبلغ عدد القتلى في لبنان الآن أكثر من 1000 شخص، فيما نزح مليون شخص عن منازلهم.
قادة إسرائيليون دعوا الشعب اللبناني إلى مغادرة المناطق الخطرة وألا يصبحوا “دروعًا بشرية” لحزب الله، مما يشير إلى أن قتل المدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية، هو نتيجة غير مقصودة للحرب الإسرائيلية.
لكن في الواقع، استهداف حياة المدنيين هو جزء من تكتيك معروف لدى القوات الإسرائيلية تحت مسمى: “عقيدة الضاحية”.
هذه العقيدة، التي تستمد اسمها من الضاحية الجنوبية في بيروت، تقوم على تدمير البنية التحتية المدنية بشكل واسع للضغط على الحكومة المعادية أو الجماعات المسلحة، وتمت صياغتها في سياق حرب إسرائيل على لبنان عام 2006.
في ذلك الوقت، شنّت القوات الإسرائيلية هجومًا مدمرًا على الضاحية المكتظة بالسكان وبقية أنحاء لبنان. وبحسب الصليب الأحمر، فقد أودت الحملة التي استمرّت 34 يومًا بحياة أكثر من 1,000 شخص، وأدت إلى نزوح 900 ألف شخص. وقد دمرت أو ألحقت أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية المدنية للبلاد، بما في ذلك المطارات، والمياه، ومحطات معالجة الصرف الصحي، ومحطات الطاقة، ومحطات الوقود، والمدارس، والمراكز الصحية والمستشفيات. بالإضافة إلى ذلك، دُمّر 30,000 منزل أو تعرض لأضرار بالغة.
أكد الخبراء أن هذه التكتيكات تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وأن استهداف البنية التحتية المدنية يعد جريمة حرب مهما كانت التبريرات المقدمة. لكن السلطات الإسرائيلية تصرّ على أن ذلك يمثل تكتيكًا مشروعًا في الحرب، ويساعد في ردع الهجمات المستقبلية على إسرائيل.
وبعد عامَين من الحملة المدمّرة عام 2006 على لبنان، أكد رئيس القيادة الشمالية الإسرائيلية، غادي آيزنكوت، أن إسرائيل ستواصل استخدام هذه الإستراتيجية في النزاعات المستقبلية.
وقال: “ما حدث في (الضاحية)، سيحدث في كل قرية تُطلق منها النار على إسرائيل”. وأضاف: “سنستخدم قوة غير متناسبة ونتسبب في أضرار ودمار كبير هناك. من وجهة نظرنا، هذه ليست قرى مدنية، بل قواعد عسكرية”.
وأكد آيزنكوت: “هذا ليس توصية، هذا خطة. وقد تمت الموافقة عليها”.
وقد تم بالفعل تنفيذ هذه الخطة مرارًا وتكرارًا، ليس فقط في لبنان، بل أيضًا في غزة.
على سبيل المثال، كانت هذه العقيدة واضحة أثناء عملية “الرصاص المصبوب” التي شنتها إسرائيل في عام 2008، وأسفرت عن مقتل 1,400 فلسطيني، بينهم 300 طفل، في غزة. ووجد تقرير غولدستون من بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بعد الحرب أن الجنود الإسرائيليين “تعمّدوا إخضاع المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، لمعاملة قاسية، لا إنسانية ومهينة؛ من أجل ترويعهم وترهيبهم وإذلالهم”.
وأشار التقرير إلى أنّ القوات الإسرائيلية دمرت بشكل منهجي البنية التحتية المدنية في غزة، بما في ذلك مطاحن الدقيق، والمزارع، ومحطات معالجة المياه العادمة، ومنشآت المياه، والمباني السكنية. وأوضح التقرير أن الجنود الإسرائيليين انخرطوا في “موجة من التدمير المنهجي للمباني المدنية”، خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من العملية، رغم أنهم كانوا “على علم بانسحابهم الوشيك”.
وفي عام 2012، استهدفت عملية “عمود السحاب” الإسرائيلية أيضًا البنية التحتية المدنية في غزة. فقد دمرت القوات الإسرائيلية أو ألحقت أضرارًا جسيمة بـ 382 مسكنًا مدنيًا. وشمل ذلك غارة جوية على منزل مكوّن من ثلاثة طوابق في حي النصر، أسفرت عن مقتل 12 شخصًا، من بينهم 5 أطفال. كما دمرت القوات الإسرائيلية أو ألحقت أضرارًا بالجسور، والمرافق الرياضية، والبنوك، والمستشفيات، والمكاتب الإعلامية، والمزارع، والمساجد.
وفي عام 2014، خلال عملية “الجرف الصامد”، قُتل أكثر من 2,000 فلسطيني – بمن في ذلك 1,400 مدني – في غزة. وتبع ذلك أيضًا عقيدة الضاحية. وبانتهاك للقانون الدولي، استهدفت الصواريخ وقذائف الهاون الإسرائيلية “المباني والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المدارس والمنازل، مما تسبب في أضرار مباشرة بالممتلكات المدنية بلغت قيمتها نحو 25 مليون دولار”.
وفي المجمل، تعرّضت 18,000 وحدة سكنية للتدمير أو لأضرار. كما استهدفت القوات الإسرائيلية البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء والرعاية الصحية في غزة كجزء من هذه العملية.
بالطبع، كانت أشد مظاهر عقيدة الضاحية وضوحًا خلال الحملة الإسرائيلية المستمرة ضد غزة. فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، أصبحت إستراتيجية إسرائيل التي تستهدف سكان غزة المدنيين والبنية التحتية، بهدف ردع حماس، كارثة تُقارن فقط بنكبة عام 1948. ففي غضون عام واحد، دمرت القوات الإسرائيلية بالكامل جميع قواعد البنية التحتية والمؤسساتية للحياة المدنية الفلسطينية في غزة.
والآن، في تطور مأساوي، عادت عقيدة الضاحية إلى الحي الذي وُلدت فيه: ضاحية بيروت. فإسرائيل لا تستمر فقط في غاراتها الجوية على الضاحية ولبنان الأوسع، بل شرعت في غزو بري. وقد قُتل أكثر من 1,000 شخص ودُمرت أحياء بأكملها، دون أي نهاية في الأفق لما تصفه القوات الإسرائيلية بأنه “عملية محدودة، محلية، وموجهة”. إسرائيل مرة أخرى تطبق عقيدة الضاحية، حيث تشنّ حربًا على السكان المدنيين بأكملهم، دون أي اعتبار للقانون الدولي أو حقوق الإنسان.
لقد سُمِح لإسرائيل بأن تتبع سياسة التدمير الشامل للحياة المدنية كهدف عسكري، أولًا في لبنان، ثم مرارًا وتكرارًا في غزة، ثم مرة أخرى في لبنان، دون أي عقاب، مما يشكل تذكيرًا قاتمًا لمدى تهميش شعوب المنطقة وإفقادهم إنسانيتهم.
يبدو أن حياتهم لا قيمة لها إلى درجة أنه بدلًا من إدانة هذه العقيدة كاعتداء صارخ على القانون الدولي والأخلاق، يبدو أن “عقيدة الضاحية” قد قُبلت من قبل قادة المجتمع العالمي- حلفاء وداعمي إسرائيل في الغرب – كسبيل مشروع لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
الغالبية العظمى من المجتمع الدولي تنتقد بشدة هجمات إسرائيل على البنية التحتية المدنية في غزة ولبنان. ومع ذلك، يواصل شركاء إسرائيل في الغرب دعم هذه الجهود ماديًا وأيديولوجيًا. وحتى عندما تدعي السلطات الإسرائيلية بشكل مدهش أنها “تصعد” من جهودها الحربية – أي تقتل وتجرح المدنيين وتحوّل بيئتهم إلى أماكن غير صالحة للسكن – بدعوى “نزع التصعيد”، تجد الموافقة من قادة هذه الدول.
إن استخدام إسرائيل عقيدةَ الضاحية، ضد شعوب مختلفة، مرارًا وتكرارًا، وعلنيًا على مدى عقدين من الزمن، دون مواجهة أي عقوبة رسمية، هو تأكيد آخر على أن نفس الدول والقادة الذين يتظاهرون بأنهم ضامنو النظام الليبرالي مذنبون بشكل صارخ في انتهاك المبادئ الأساسية لهذا النظام.
بشكل مأساوي، فإن نفاق قادة المجتمع الدولي يعني أنه لا يوجد أي حافز لإسرائيل – اليوم أو في المستقبل القريب – للتخلّي عن هذه الإستراتيجية الوحشية، غير القانونية، وغير الإنسانية.
وحتى ينهض الناس في جميع أنحاء العالم للضغط على قادتهم لوضع حد لتجاوزات إسرائيل العديدة، سيستمر المدنيون في لبنان وفلسطين وفي جميع أنحاء المنطقة في المعاناة والموت تحت وطأة عقيدة الضاحية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.