في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2024 كنا أمام مشهد معبّر؛ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقف أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي، استقبلوه فيها بحفاوة صاخبة، وقاطعوا خطابه بأكثر من خمسين تصفيقًا حارًا. ولم يكن هذا التصفيق العارم سوى تعبيرٍ عن تواطؤٍ صارخ مع الجلاد، لا سيما وقد جاء بعد أيام قليلة من حكم تاريخي أصدرته محكمة العدل الدولية، أكد أن إسرائيل ارتكبت “انتهاكات جسيمة للقانون الدولي” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحمّلها مسؤولية ممارسة الفصل العنصري للمرة الأولى.
عند إلقاء ذلك الخطاب، كانت حرب إسرائيل على غزة قد بلغت شهرها العاشر، وأفادت دراسة نشرتها مجلة “لانسيت” الطبية بأن القصف الإسرائيلي المستمر، وما رافقه من حصار وقيود على المساعدات والرعاية الصحية، قد يؤدي إلى مقتل أكثر من 186,000 فلسطيني. وكان العالم لا يزال يشهد المجازر، والمدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، كان قد طلب مذكرة توقيف بحق نتنياهو قبل شهرين.
ورغم كل ذلك، أصر نتنياهو على الوقوف أمام الكونغرس؛ ليُعيد تكرار الأكاذيب نفسها التي دُحضت مرارًا من قبل الصحفيين الاستقصائيين ووسائل إعلام أميركية وعالمية، بل وإسرائيلية مثل “الجزيرة” و”هآرتس”. كما كرّر زعمه أن حركة حماس “حرقت أطفالًا أحياء” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وروى قصة خيالية عن مقتل طفلين كانا مختبئين في علية منزل.
كلها ادعاءات تم تفنيدها، وكانت جزءًا من حملة دعائية مكشوفة، لدرجة أن الجيش الإسرائيلي نفسه نفى بعضًا منها. ومع ذلك، لم يبذل الإعلام الأميركي أي جهود تُذكر للتحقق من تلك الأكاذيب.
لم يكتفِ نتنياهو في خطابه بالكذب، بل عبّر عن غضبه تجاه المحكمة الجنائية الدولية، التي سعت إلى إصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين، واصفًا اتهامات المحكمة بأن إسرائيل تتعمّد تجويع الفلسطينيين بالـ “مخزية”، وواصفًا نيابتها بـ “معادية للسامية”.
ولمواجهة تهمة تنفيذ مجاعة مخطط لها، زعم أن إسرائيل “مكّنت” دخول 40,000 شاحنة مساعدات قدمت “أكثر من 3000 سعرة حرارية لكل رجل وامرأة وطفل في غزة”، وأن حماس هي سبب نقص الغذاء؛ لأنها “تسرق المساعدات”.
لكن الحقائق تكشف زيف هذا الادعاء، فالموثق أن إسرائيل منعت شاحنات المساعدات من الوصول، وعندما سيطرت على معبر رفح الحدودي مع مصر في مايو/أيار، لم تسمح لأكثر من 2835 شاحنة بالدخول.
الصحفي مهدي حسن قدم أيضًا معلومات أغفلها نتنياهو، مثل تقرير منظمة “أوكسفام” الذي أظهر أن سكان شمال غزة لم يجدوا من الغذاء أكثر من 245 سعرة حرارية يوميًا، وهو أقلّ من علبة فول، منذ يناير/كانون الثاني، وأن إجمالي شحنات الأغذية التي سمح بها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي بلغت في المتوسط 41% فقط من السعرات الحرارية اليومية اللازمة للشخص الواحد.
في الوقت الذي كان نتنياهو يلقي خطابه، كانت منصات التواصل الاجتماعي تمتلئ بمحتويات مضللة مشابهة، مثل فيديو نشرته مجموعة تُسمى “خدمة التقارير الصادقة”، ظهرت فيه امرأة قاسية، تدعي أنها عاملة إغاثة، تردد الأكاذيب ذاتها، وتقول إن “المجاعة ببساطة لا تحدث”؛ لأن إسرائيل تتعاون مع الوكالات الإنسانية لنقل المساعدات، وتكرّر الزعم أن حماس والعصابات المسلحة هي التي تسرق تلك المساعدات، وأن “المجاعة أسطورة” تروّج لها وسائل الإعلام ومسؤولون وخبراء.
لكن الكذب الأكثر فظاعة هو زعم نتنياهو أن القوات الإسرائيلية تبذل قصارى جهدها لحماية المدنيين الفلسطينيين، حيث وزعت “ملايين المنشورات، وأرسلت ملايين الرسائل النصية، وأجرت مئات الآلاف من المكالمات الهاتفية لتحذير المدنيين وإبعادهم عن الأذى”. بيدَ أن الحقيقة المؤلمة هي أن هذه التحذيرات تُستخدم أحيانًا بخبث لجمع المدنيين في مواقع محددة قبل قصفهم. ففي 22 يوليو/تموز، بدأ الجيش الإسرائيلي قصف خان يونس بعد دقائق من إصدار أمر إخلاء للمنطقة، التي كانت ملاذًا آمنًا لأكثر من 400 ألف فلسطيني.
يمكننا أن نطلق على هذه الادعاءات تزييفًا وأكاذيب، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” اختارت أن تصف خطاب نتنياهو بأنه “دفاع قوي عن إسرائيل استحق التصفيق في الكونغرس”. وفي المقابل، أبدى الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي رأيًا مختلفًا في مقابلة مصورة مع “الجزيرة”، حيث وصفها بـ “الجلسة الأكثر خزيًا في تاريخ الكونغرس الأميركي” التي شهدت تصفيقًا متواصلًا لرئيس وزراء كان يجب أن يُمنع من دخول أي عاصمة أخرى في العالم.
ورغم أن ما يقرب من نصف الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ تغيبوا عن خطاب نتنياهو، وفقًا لموقع “أكسيوس”، إلا أن ما قامت به المشرعة الفلسطينية الأميركية رشيدة طليب كان أكثر جرأة وشجاعة من مقاطعة الجلسة، فقد اختارت الحضور وهي ترفع لافتة صغيرة كتب عليها: “مرتكب إبادة جماعية” من جهة، و”مجرم حرب” من الجهة الأخرى.
كان لمشهد الخطاب الصادم تأثير قوي على زعيم دولي واحد، وهو رئيس الوزراء البريطاني المنتخب حديثًا كير ستارمر، الذي أعلن في اليوم التالي أن المملكة المتحدة لن تتدخل في طلب المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو. كان هذا انقلابًا واضحًا في السياسة البريطانية عن تلك التي انتهجها سلفه المحافظ الذي أطاحت به وبحزبه الانتخابات، كما أن ذلك ابتعاد جلي عن مواقف الحليف الأميركي.
ستارمر محامٍ سابق في مجال حقوق الإنسان، وهو يتعرض لضغوط من حزبه لاتخاذ موقف أكثر صرامة بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة مع تصاعد عدد القتلى والجرحى، وهو في نهاية الأمر، كما يرى نومي بار يعقوب، الزميل في مركز تشاتام هاوس البحثي اللندني، كان مضطرًا لهذا الموقف؛ لأنه لم يرَ نهاية للحرب في الأفق وينتابه القلق من أن تتّهم المملكة المتحدة بالتواطؤ فيما هو موجّه لإسرائيل.
كان خطاب نتنياهو لحظة كاشفة. كشفت – كما يرى الصحفي الأميركي جيفري سانت كلير – عن تواطؤ الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية في غزة، ودعم نظام الفصل العنصري في الأراضي المحتلة. لقد كانت “احتفالًا علنيًا لأولئك الذين قاموا بتمويل وتسليح هذه الجرائم”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.