كل أربع سنوات، يعقد الحزبان السياسيان الرئيسيان في الولايات المتحدة مؤتمرًا وطنيًا متلفزًا لاختيار مرشحيهما قبل الانتقال إلى المرحلة النهائية من الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني.
هذا العام، ومع وجود الكثير على المحك بعد تدهور القدرات العقلية لجو بايدن، ودعم الولايات المتحدة غير الشعبي لإسرائيل في حربها على غزة، وترشح أول امرأة من ذوي البشرة السوداء لرئاسة الولايات المتحدة، واحتمال عودة ترامب للرئاسة، اكتسب المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي أهمية سياسية كبيرة.
في السابق، كانت المؤتمرات تلعب دورًا سياسيًا حاسمًا، حيث كان يتم اختيار المرشحين بعد مناقشات مطولة على أرضية المؤتمر. أما الآن، فهي تحتفل بالمرشح المحدد مسبقًا، مما جعل بعض المحللين يرون فيها مجرد استعراضات مرئية موجهة للتلفزيون، حيث يتم تقييم المرشحين بناءً على مظهرهم وأدائهم وقدرتهم على إلقاء كلمات (مكتوبة لهم) بطريقة تبدو “رئاسية”.
لكننا هذا العام، تابعنا مؤتمر الحزب الديمقراطي آملين رؤية إشارات على أن القيادة الجديدة قد تؤدي إلى تغيير حقيقي، وكان من بين تلك الآمال وجود أدلة على الإرادة السياسية لمواجهة وتفكيك ما وصفته منظمات حقوق الإنسان العالمية بأنه “إبادة جماعية” في غزة.
قبل انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، من الاثنين 19 أغسطس/ آب إلى الخميس 22 أغسطس/ آب، كانت وسائل الإعلام مشغولة بتكهنات حول الاضطرابات المحتملة التي قد يتسبب بها المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين في شيكاغو. كانوا قلقين من أن يلوثوا صورة مرشحَي الحزب الجديدَين – كامالا هاريس لمنصب الرئيس وتيم والز، حاكم مينيسوتا، لمنصب نائب الرئيس – اللذين لا يزالان يتمتعان بزخم حماسي.
لكن يوم الاثنين، وبفضل جهود المحامين والحقوقيين في شيكاغو، لم تقم الشرطة باستعراض عنيف كما فعلت خلال احتجاجات “حياة السود مهمة”. تم عرض مشاهد التظاهرات على الشاشات الأميركية، وعبّر مذيعو الأخبار عن تسامحهم وقدّموا تأكيدات على أنّ حرية التعبير لا تزال حية في شيكاغو. ومع ذلك، تم تقييد حركة المتظاهرين أحيانًا خلف حواجز طويلة وصلبة جعلتهم غير مرئيين للوفود المتجهة إلى قاعة المؤتمر.
في صباح الثلاثاء، كان الكاتب بريم ثاكر يجلس في حافلة مع وفود الحزب وهم في طريقهم إلى مركز “يونايتد سنتر”، عندما سمع الوفود يهتفون، بينما كانت الشرطة تزيح المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين من طريق الحافلة. رغم أن بعض الوفود كانوا يدعمون هذه الاحتجاجات، فإن هذا لم يمنعهم من تشجيع الشرطة على المضي قدمًا في القمع.
قارن ثاكر بين مؤتمر الحزب الأخير والأحداث التي جرت في شيكاغو أيضًا على هامش مؤتمر آخر للحزب الديمقراطي عام 1968. شعر بخيبة أمل إذ احتفلت الوفود بقادة الحزب الذين دعموا الإبادة الجماعية في غزة، في حين كانت أمامهم الفرصة ليجعلوا من تلك الجريمة، مفترقَ طرق أخلاقيًا عميقًا، على غرار ما فعلوه عندما تصدت الشرطة بوحشية للاحتجاجات ضد حرب فيتنام عام 1968.
بدلًا من ذلك، رأى أن التعامل مع المطالبين بالعدالة للفلسطينيين في عام 2024 كان مجرد “إدارة للمضايقات”. كان لابد من إزاحة هؤلاء المتظاهرين المزعجين من الطريق حتى تتمكن الوفود من الوصول إلى قاعة المؤتمر، وتشجيع مرشحيهم تحت الأضواء الإعلامية، باعتبارها الفرصة الأخيرة قبل التصويت في نوفمبر/ تشرين الثاني.
كان الحادث في الحافلة واحدًا من عدة نقاط كشفت تناقضات سياسية في شيكاغو. من بينها التصفيق الحار للنائبة ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز التي شجعت كامالا هاريس على مواصلة العمل من أجل وقف إطلاق النار. ولكن هيلاري كلينتون لقيت نفس الترحيب، رغم أنها من دفع كوزيرة للخارجية بالرئيس باراك أوباما إلى تنفيذ “الحرب الإنسانية” ضد ليبيا التي أدت إلى مزيد من الدمار الدموي في المنطقة.
ينسى الأميركيون بسرعة تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، وهذا يخدم مصلحة السياسيين مثل كلينتون. والمفارقة أن كلينتون اتهمت الطلاب الذين احتجوا على الحرب على غزة بأنهم لا يعرفون “الكثير عن تاريخ الشرق الأوسط، أو عن التاريخ في العديد من مناطق العالم“. عندما صفق الوفود للدعوات لإنهاء الإبادة الجماعية، ثم صفقوا بنفس الحفاوة لشخص يسخر ممن قادوا تلك الدعوات، كانت تلك لحظة غاب فيها المنطق السياسي عن المؤتمر.
تشبه هذه الفوضى رسائل بايدن المتناقضة بشأن غزة. فهو ينتقد نتنياهو، ويتبع ذلك بتقديم المزيد من الأسلحة والذخائر التي يستخدمها نتنياهو لقتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين. وعندما أقر بايدن بأن لدى “أولئك المتظاهرين في الشارع، وجاهة في أحد مطالبهم، ثم مضى قائلًا إن هناك الكثير من الأبرياء يُقتلون، من كلا الجانبين”، (رغم أن الوفيات ليست متكافئة، حيث يُقتل 33 ضعفًا من الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول)، فهو لم يفعل شيئًا إلا مواصلة التضليل لإقناع الأميركيين بأنه يهتم، وبأن وقف إطلاق النار قريب جدًا.
في الشهر الماضي، قالت وزارة الخارجية الأميركية إنها كانت عند “خط الـ10 ياردات” من توقيع صفقة وقف إطلاق النار. وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تصرح ببيع أسلحة بقيمة 20 مليار دولار، وتعد بتقديم 6500 قنبلة لإسرائيل، إلى جانب 3.5 مليارات دولار لشراء المزيد من الأسلحة الأميركية، مما يزيل أي حافز قد يكون لدى نتنياهو للتفاوض.
“الحركة غير الملتزمة”
من بين 4000 مندوب في المؤتمر الوطني الديمقراطي تعهدوا بدعم هاريس، كان هناك ثلاثون مندوبًا “غير ملتزمين” بدعمها، وهؤلاء يمثلون مئات الآلاف من الناخبين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار، ووقف نقل الأسلحة إلى إسرائيل. تم انتخاب هؤلاء المندوبين من قبل الناخبين في الانتخابات التمهيدية في مينيسوتا وميشيغان وواشنطن، حيث وضعوا علامة “غير ملتزم” على بطاقاتهم الانتخابية، للاحتجاج على دور بايدن في تسليح إسرائيل.
منذ أن تنحّى بايدن، صور الديمقراطيون حملة هاريس- والز على أنها حملة للوحدة والمشاعر الطيبة، وهي عودة ضرورية عن الكراهية والغضب الصادرة عن دونالد ترامب. لكن المشكلة المركزية التي أثيرت خلال الانتخابات التمهيدية لا تزال قائمة؛ كيف سيتعامل الحزب مع جرائم الحرب الإسرائيلية؟
كما قال أحد منظمي الاحتجاجات؛ “الوحدة رائعة، لكنها يجب ألا تكون على حساب الأرواح الفلسطينية”. ناضل هؤلاء المنظمون مدة شهرين لجذب انتباه المندوبين ووسائل الإعلام خلال المؤتمر إلى الأوضاع في غزة، وردت شبكة CNN ببعض التغطية الجيدة. ودفع المنظمون قادة الحزب إلى تضمين متحدث فلسطيني على أرضية المؤتمر، متوسلين للحصول على فترة زمنية للدكتورة تانيا حاج حسن، وهي طبيبة في وحدة العناية المركزة للأطفال شاهدت المجازر التي خلفها الهجوم الإسرائيلي على غزة أثناء تطوعها في مستشفى شهداء الأقصى.
كان منظمو “الحركة غير الملتزمة” يأملون أن يقدموا “شهادة أخلاقية للمندوبين” في المؤتمر؛ لأن “إنهاء الحملة العسكرية هو السبيل الوحيد للحفاظ على الحياة البشرية”. وقد قدموا اسم متحدث بديل عن الدكتورة تانيا، وهي رؤى رومان، الأميركية من أصل فلسطيني والعضو الديمقراطي في مجلس نواب جورجيا. كان من الممكن للحزب أن يراجع خطابها، لكن هيئة تنظيم المؤتمر الوطني الديمقراطي لم تقدم إجابة حتى اليوم الأخير، ثم جاءت الإجابة بلا، بمثابة ضربة مدمرة. قالت رومان لمهدي حسن إنها لا تعرف ماذا تقول لمؤيديها في الوطن.
نجح منظمو “الحركة غير الملتزمة” في النهاية في عقد جلسة جانبية بعد ظهر اليوم الأول للمؤتمر، حيث تمكنت تانيا حاج حسن من تقديم شهادتها، جنبًا إلى جنب مع هالة حجازي، وهي واحدة من فريق تنظيم مؤتمر الحزب، فقدت حوالي 100 من أفراد عائلتها في غزة، وكان لهذا الحدث الجانبي أصداء جيدة، فقد ذكرت مجلة “ماذر جونز” أن “هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها وفد رسمي في المؤتمر الوطني الديمقراطي مخصص للدفاع عن حقوق الفلسطينيين”. ووصفت “الديمقراطية الآن” هذا العمل بأنه نضال “لاستعادة روح الحزب الديمقراطي”.
عمل المندوبون غير الملتزمين بجدّ ولكن دون جدوى لاختراق الدعاية والتشجيع المدفوع، ووضع واقع غزة على مائدة الحوار السياسي في المؤتمر الوطني الديمقراطي. استخدم مهدي حسن كلمة “محو”، مشيرًا إلى 740,000 ناخب غير ملتزم حُرموا من متحدثهم على أرضية المؤتمر. وعلّقت إلهان عمر على غياب المتحدث الفلسطيني بقولها: “عند اقتراب موعد 6 نوفمبر/ تشرين الثاني، إذا خسرنا هذه الانتخابات، فلن يكون لدينا أحد نلومه سوى أنفسنا”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.