مع كون أن هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، وهي أن للصراع الذي يدور اليوم في السودان خلفيات تاريخية، وسياسية من حيث نشأة النزاعات المسلحة، واضطراب العلاقة بين القوى العسكرية، والسياسية، وكذلك دور الأنظمة السابقة المتعاقبة؛ فإن للقوى الدولية الكبرى، والإقليمية نصيبًا كبيرًا في تأجيج، واستمرار الحرب؛ إذ تنظر هذه القوى للسودان باعتباره بوابة إلى أفريقيا، ونقطة إستراتيجية رئيسة على البحر الأحمر.
كما أن لإسرائيل اهتمامًا كبيرًا جدًا بالسودان، ولعلنا نذكر ما كشفت عنه صحيفة “هآرتس” من أن مسؤولين في حكومة بنيامين نتنياهو، درسوا إمكانية التوصل إلى صفقة تفضي لإطلاق سراح الرهائن في غزة، وكانت هذه الصفقة تقترح إتاحة المجال للقائد الحمساوي الشهيد يحيى السنوار للانتقال إلى السودان.
كل هذه القضايا المتداخلة تضع السودان في قلب اهتمام دولي متزايد؛ فالأبعاد الجيوسياسية لهذه الحرب يؤثر عليها موقع السودان الإستراتيجي، وتأثيره على المنطقة. وبحكم الجغرافيا فإن هناك تداعيات خطيرة على المديين: القريب، والبعيد على الأمن الإقليمي؛ من انعكاسات على أمن القرن الأفريقي، وتأثر حركات التمرد في المنطقة بهذا الصراع، وتأثيرات النزوح واللاجئين، وكذلك انعكاسات الحرب على الأمن المائي، وملف سد النهضة. فضلًا عن إمكانية تشكل تحالفات جديدة، أو تغير موازين القوى في المنطقة.
جغرافيا الموقع الإستراتيجي
يتمتع السودان بجغرافيا إستراتيجية تجعل منه دولة ذات أهمية كبرى على المستويين: الإقليمي والدولي. وتمتد حدوده مع 7 دول عربية، وأفريقية. وربما كانت مشاطَأة السودان للبحر الأحمر من جهة الشرق من أكثر العوامل تأثيرًا في الأهمية الإستراتيجية لموقع البلاد الجغرافي.
فهذا الموقع الاستثنائي يمنح السودان أهمية جيوسياسية كبيرة لأسباب متعددة: فالبحر الأحمر ظل منذ زمن موغل في القدم، مسرحًا للصراع الدولي بين القوى العظمى في فترات تاريخية متعاقبة. ويمتلك السودان ساحلًا طويلًا على البحر الأحمر، مما يجعله جزءًا من الطريق التجاري العالمي الذي يمرُّ عبره النفط، والسلع الأساسية، ويمنح البلاد دورًا محوريًا في أمن الملاحة الدولية والتجارة البحرية.
ويعدّ السودان جسرًا يربط شمال أفريقيا العربي بأفريقيا جنوب الصحراء، ويعزّز هذا الموقع دوره باعتباره محورًا للتجارة، والنقل البري بين الدول العربية، والأفريقية. ويعد السودان مخزنًا ضخمًا للموارد الطبيعية، مثل: النفط، والذهب، والصمغ العربي، والزراعة، والثروة الحيوانية.
كذلك يمرُّ عبر السودان النيل الأزرق أحد أنشط الأنهار في العالم قاطعًا 650 كيلومترًا داخل أراضيه، وهو يرفد نهر النيل بنحو 85% من مياهه العذبة، مما جعل البلاد جزءًا أساسيًا من معادلة الأمن المائي في المنطقة.
ويعتبر السودان بموقعه الإستراتيجي في قلب أفريقيا وبالقرب من الأسواق الخليجية بوابة الاستثمار، والطرق التجارية، ويمثل نقطة عبور حيوية لشبكات النقل البري والبحري، مما يجعله مركزًا لوجيستيًا محتملًا لتصدير السلع الأفريقية إلى العالم.
دول الجوار.. بيوت الزجاج
لقد كشفت الحرب التي تدور في السودان بين الجيش الوطني، ومليشيا الدعم السريع المتمردة عليه، عورةَ التعاطي الرغائبي، والنظرة القاصرة البعيدة تمامًا عن التفكير الإستراتيجي لعدد من دول الجوار. فقد سخرت بعضها إمكاناتها اللوجيستية لخدمة المتمردين، والأطراف البعيدة التي تدعمهم، ولم تستوعب هذه الدول أن الاستقرار في السودان يعني استقرارًا لديها، والعكس صحيح.
إن تلك الأنظمة التي ارتضت أن تكون أدوات تنفيذية للمخططات الدولية التي لا تستهدف في المحصلة السودان وحده، وإنما كل دول المنطقة، ولا تدرك من ناحية أخرى أن أنظمتها الحاكمة تتدثر ببيوت من زجاج ستقصف يومًا بحجارة تحيلها إلى أنظمة سابقة.
إن هذه الدول تقوم بدور سلبي في المشهد الحالي للحرب في السودان، وتتباين مواقفها من الأسوأ إلى الأقل سوءًا، ورغم أن مواقفها تبدو تكتيكية، وغير إستراتيجية؛ فإنها تعكس في ذات الوقت ديناميكيات معقدة مرتبطة بالظروف المحلية، والإقليمية المحيطة بها، إذ تظن عبثًا أنها يمكن أن تلعب لعبة خطرة مع المليشيا المتمردة؛ توهمًا أنها قد تتمكن من التغلب على الجيش السوداني، عوضًا عن تبني نهج إستراتيجي طويل الأمد يؤثر إيجابًا، وبشكل جوهري في استقرار المنطقة بأكملها، وهذا ما يتعارض مع أهداف القوى الدولية المتربصة.
لقد ظل السودان طرفًا دائمًا في التوازنات الإقليمية في حال استقراره، وكذلك كان مصدرًا للنزاعات في حال اضطراب الأوضاع فيه. ولذا ظل على الدوام لاعبًا مهمًا في استقرار جواره، وبالضرورة جعله ذلك لاعبًا أساسيًا في استقرار القرن الأفريقي، ومنطقة الساحل والصحراء.
الاتحاد الأفريقي.. إخفاقات وتحديات
في الوقت الذي كان ينتظر من الاتحاد الأفريقي القيام بجهود كبيرة في حل الأزمة في السودان، لم يزد دوره عن كونه مؤسسة علاقات عامة يصبُّ رَيعها المادي لصالح المتنفذين فيه بحكم مواقعهم في مؤسساته المختلفة، بينما يصب ريعها السياسي لصالح دول بعينها بدت جزءًا من أو امتدادًا لقوى دولية ظلت تموّل أنشطة الاتحاد بعد غياب الزعيم الليبي معمر القذافي الذي تنسب له جهود تحويله من منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي، وتمويله بالكامل فيما بعد.
ولا تتوانى الحكومة السودانية في اتهام الاتحاد صراحة بانحيازه حتى أخمص قدميه إلى مليشيا الدعم السريع المتمردة عبر مواقف جاءت تتْرى منذ بدء هذه الحرب بل منذ ما قبل ذلك؛ إذ كان الاتحاد جزءًا من الإشكال السياسي الذي أشعل الحرب.
ولم يألُ هذا الاتحاد جهدًا في تسجيل فشل تلو فشل في أهم قضايا القارة التي تصدى لها، وليس آخرها الأزمة في النيجر. وكيف سارت الرياح بانحيازه المفضوح لطرف من الأطراف متماهيًا مع رؤية قوى دولية طامعة في ثروات النيجر.
ولعل الإشكالية الكبرى انعدام الثقة أو ربما الاحترام المتبادل بين السودان، والاتحاد بعد قيامه بتجميد عضوية السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 لأسباب اعتبرها السودان واهية اعتمدت معايير مزدوجة، وذلك بعد فضّ الشراكة السياسية التي كانت قائمة بين الجيش، وما عرف بقوى الحرية والتغيير (قحت) عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019.
بيد أن الاتحاد تبنى رواية (قحت) واعتبر ذلك انقلابًا عسكريًا يقتضي تجميد العضوية، وقد أشار مسؤول عسكري كبير بالاتحاد إلى أن القرار الذي اتخذه أمين عام مجلس السلم والأمن بالاتحاد وزير خارجية تشاد السابق موسى فكي جاء دون اتباع الخطوات المؤسسية. ولا يستطيع الاتحاد أن يجيب عن سؤال: لماذا تعترف الأمم المتحدة بسلطة البرهان، ويمثل بلاده في اجتماعات الجمعية العامة التي تمثل قمة لرؤساء العالم، ولا يعترف به الاتحاد الأفريقي؟
إن هذا التجميد أيًا كانت ملابساته، وحيثياته؛ فإنه يقف حجر عثرة أمام أي وساطة أو جهود يمكن أن يقوم بها الاتحاد الذي هو من الناحية النظرية الأقرب لفهم تعقيدات، وتقاطعات الأزمة.
في بداية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بالتزامن مع بدء رئاسة مصر لمجلس السلم والأمن، وهو الهيئة الرئيسة في الاتحاد، زار وفد منه السودان، غير أن الزيارة التي قبل بها السودان ربما بسبب رئاسة مصر الحالية، قد فشلت تمامًا لاستمرار قرار التجميد، الذي أعاق حرية نشاط الوفد.
ولم يصدر في نهاية الزيارة بيان مشترك كان يفترض أن يبين نقاط الاتفاق، والتوافق، وإنما صدر بيان صحفي من جانب وفد الاتحاد، بينما أطلق رئيس مجلس السيادة قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان تصريحات شديدة اللهجة ضد الاتحاد.
إن المواد القانونية الموجودة في ميثاق الأمم المتحدة أو البروتوكول أو النظام الأساسي للاتحاد الأفريقي، تتعارض مع التصورات الرغائبية لمسؤولي الاتحاد في شأن الأزمة، ومن يقف من خلفهم، وهذا ما يعضد موقف السودان؛ فالمادة 52 فقرة 3 تنص على أن مجلس الأمن يشجع الحل السلمي للمنازعات الإقليمية عن طريق هذه المنظمات الإقليمية، لكن يكون ذلك بطلب من الدول التي يعنيها الأمر، أو يحيل إليها مجلس الأمن الدولي ذلك.
ولذلك فإن ما صدر من تنسيقية (تقدم) برئاسة حمدوك بدعوة الاتحاد الأفريقي للتدخل بدعوى حماية المدنيين ليس صحيحًا، ولا قانونيًا، وقد تراجع المبعوث الأميركي عن ذلك، ونسب الأمر إلى (تقدم).
القوى الدولية.. مواقف وأطماع
إنّ الأطماع والمواقف الدولية تجاه السودان تعكس مزيجًا من المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، مما يجعله هدفًا مؤكدًا لتدخلات القوى الكبرى. فالولايات المتحدة عبر سياسة ما تسميه بالفوضى الخلاقة تريد سودانًا مفككًا، وفي أحسن الأحوال ضعيفًا لا يقدر على شيء ليسهل الاستحواذ على موارده، وتوظيفها لصالحها دون غيرها من الدول لا سيما روسيا، والصين.
وإن لم يكن ذلك عبر الحرب باعتبارها فرصة مواتية؛ فإن ذلك جرى في السابق عبر التدخلات الدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها في أوقات مختلفة.
أما الصين فلديها مصالح كبيرة في السودان، خاصة في مجال الطاقة، والبنية التحتية، وظلت أكبر شريك تجاري للسودان خلال العقدين الماضيين، حيث استثمرت بشكل كبير في قطاع النفط قبل، وبعد انفصال جنوب البلاد في 2011. غير أن الصين لم ترتبط مصالحها في السودان غالبًا بالتدخل لا سياسيًا، ولا عسكريًا.
وأما روسيا فتسعى لتعزيز نفوذها في السودان، خاصة في المجال العسكري، والأمني. وقد أبدت اهتمامًا ببناء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر، ما يعكس طموحاتها لتوسيع وجودها في أفريقيا عبر السودان، والحفاظ على موطئ قدم لها في المياه الدافئة.
نشير إلى أن روسيا دعمت السودان في المحافل الدولية، خاصة في مواجهة العقوبات الغربية، والحد من غلواء التدخل الأميركي، كل ذلك ساهم في تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات مثل التسلح، وأعطى السودان فرصة لخلق توازن في علاقاته مع المحاور الدولية.
مفاتيح السلام والاستقرار
إن أهم مفاتيح السلام، وعودة الاستقرار للسودان تتمثل في: تعضيد اللحمة الوطنية التي بدت في أفضل حالاتها في مواجهة تمرد مليشيا الدعم السريع. وكانت قمة الإسناد الشعبي للجيش في السودان عند نشأة ما عرف بالمقاومة الشعبية المسلحة، وقد ساهمت بشكل فعال في تحقيق الانتصارات الأخيرة للجيش، وعملت هذه الانتصارات كرافعة للتحركات الدبلوماسية إقليميًا، ودوليًا، وأحدثت تغيرًا ملحوظًا في الموقف الأميركي من الأزمة، وإن بدا موقفًا تكتيكيًا في الوقت الحاضر.
كما ينتظر من البرهان، ومساعديه العسكريين الإسراع بتشكيل حكومة مدنية انتقالية ذات مهام محددة تتمثل في بناء السلام، ومعالجة أزمة النازحين، واللاجئين، وإعادة الإعمار، ووضع خطط واضحة للانتقال السياسي، والإعداد لانتخابات حرة، ونزيهة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.