كشف الأكاديمي الفرنسي برتران بادي عن تجربته الاستثنائية في العيش بين ثقافتين متباينتين، مؤكدا أن الانتماء المزدوج للهوية الفرنسية والفارسية شكل مصدر قوة هائلة بعد معاناة طويلة من الإقصاء والتهميش.
وتجسدت هذه المعاناة المبكرة في تجربة بادي، المولود عام 1954 لأب إيراني وأم فرنسية، الذي واجه صعوبات جمة خلال مراحل نموه الأولى بسبب عدم تقبل المجتمع لهويته المزدوجة.
وعبر الباحث عن شعوره بالاختلاف الجذري عن أقرانه الذين ينتمون لهوية واحدة واضحة، بينما كان يعيش تجربة كونه فرنسيا 100% وفارسيا 100% في الوقت ذاته.
وفي هذا السياق، تناولت حلقة من برنامج “المقابلة” معاناة والد بادي الذي هاجر من إيران عام 1928 لدراسة الطب، ثم شارك في المقاومة الفرنسية ضد النازية وحصل على وسام جوقة الشرف.
ورغم تضحياته الجسيمة، واجه الوالد صدمة قاسية عندما طُلب منه العودة إلى بلده يوم التحرير رغم حصوله على الوسام، مما ترك جرحا عميقا في نفسه انعكس على تجربة الابن اللاحقة.
ومع ذلك، شكلت هذه التجربة القاسية نقطة انطلاق نحو التحول الإيجابي، حيث أوضح بادي كيف تغيرت نظرته للأمور بفعل حدثين مفصليين في حياته، حيث شكلت أحداث مايو/أيار 1968 في فرنسا نقطة تحول أساسية أدرك من خلالها انتماءه للعالم قبل انتمائه لبلد معين.
فهم الثقافة الفارسية
وبالتوازي مع ذلك، ساهم التحاقه بالتعليم العالي في فهمه أن الشخصية تُبنى يوما بعد يوم وليس بالوراثة أو الانتماء المحدد مسبقا.
واستطاع بادي الاستفادة من تجربة والده في فهم عمق الثقافة الفارسية، حيث كان الوالد يلقي عليه كل مساء شيئا من الشعر الفارسي ويطلعه على ما يسميه الحكمة الشرقية.
ومكنته هذه التجربة الثقافية المزدوجة من تطوير مقاربة علمية جديدة في دراسة العلاقات الدولية تقوم على فهم الذاتية الثقافية للشعوب بدلا من فرض رؤية واحدة عليها.
وبناء على هذا الأساس، طور الباحث نظرية مفادها أن فهم العلاقات الدولية لا يمر عبر النظريات الكبرى التقليدية، بل عبر المقاربة الذاتية التي تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في المسارات التاريخية للشعوب.
وأكد أن الصراع الروسي الأوكراني يحمل معنى مختلفا في فرنسا عن المعنى الذي يحمله في تشاد، وأن سكان الشرق الأوسط لا يستقبلون الصراعات بالطريقة نفسها التي يستقبلها بها الأوروبيون أو الأميركيون.
انطلاقا من هذا الفهم العميق، انتقد بادي العقل الغربي المقتنع بتفوقه لدرجة اعتباره أن السردية الغربية للأحداث تصلح لباقي العالم.
كيف يفكر الآخر؟
ودعا إلى ضرورة طرح 3 أسئلة أساسية تمثل تواضع العلم: كيف يفكر الآخر، كيف يراني هو، وكيف يعتقد أنني أراه، وأشار إلى أن الأوروبيين لا يسألون هذه الأسئلة، بل لديهم سؤال واحد فقط: كيف يجب أن يكون الآخر يشبهنا.
وفي إطار تحليله لديناميكيات الهوية المعاصرة، تطرق النقاش إلى مفهوم الهوية وتصنيفها إلى 3 مراحل: الهوية الطبيعية الضرورية لتموقع الإنسان في العالم، والهوية التحررية التي تتيح مقاومة أشكال الهيمنة المفروضة، والهوية الانغلاقية القاتلة التي تدفع للاعتقاد بالتفوق على الآخر والتي يجب محاربتها.
وتطبيقا لهذا التصنيف على الواقع المعاصر، حذر بادي من استخدام الهوية الدينية والعرقية كأدوات للهيمنة، مؤكدا ضرورة الحرية الحقيقية في الاختيار.
ودعا إلى حق المرأة الإيرانية التي تريد خلع الحجاب في ذلك، وحق المرأة الفرنسية التي تريد ارتداءه في ذلك أيضا، معتبرا هذا جوهر الحرية الحقيقية.
وعلى صعيد التطورات السياسية المعاصرة، ربط الأكاديمي بين صعود اليمين المتطرف والخوف من العولمة والآخر، مشيرا إلى أن الشعبوية تقوم على فرض الهوية وإغلاق المجتمع في وجه العالم.
وحدد الخوف من الاختلاف والعولمة واللجوء إلى انغلاق الهويات كبنية أساسية لليمين المتطرف الذي يجب مواجهته والتحرك ضده.
وخلص بادي إلى تأكيد نظريته المحورية بأن الإذلال يعد عاملا أساسيا في العلاقات الدولية، معتبرا إياه أعلى درجات الهيمنة وشكلها المطلق.
وأشار إلى أن جميع حروب المقاومة وحركات التحرر عبر التاريخ تشكل ردا منتصرا على الإذلال، مؤكدا أن القوة الاجتماعية في النهاية أقوى من القوة السياسية وأن الإنسان يبقى القيمة العليا في مواجهة كل أشكال القمع والهيمنة.