المشهد في ليبيا تغير تمامًا. في أيام قليلة حدث ما لم يحدث خلال خمس سنوات منذ عدوان قوات حفتر على طرابلس عام 2019، وما تلا ذلك من توقيع اتفاق جنيف وإقراره في 22 يوليو/تموز 2022.
في لحظة، أخرج مجلس النواب في طبرق السلطات في طرابلس، وألغى اتفاق جنيف بحجة انتهاء مدته، وقرّر أنه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية.
في المقابل، ردّ المجلس الرئاسي بشكل أكثر جذرية حين رفض القرار، واستعاد من عباءة الاتفاق السياسي الصلاحيات الرئاسية التي يملكها، وجمع كافة القوى العسكرية ظاهريًا تحت راية المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية؛ لتغيير رئيس المصرف المركزي السيد الصديق الكبير بحجة ميله في الإنفاق كل الميل نحو الشرق الليبي.
حدث كل ذلك بشكل سريع ودراماتيكي كاشفًا تناقضات كان كل طرف يحاول إخفاءها منذ زمن، لكنها انفجرت في لحظة واحدة. هذا الانفجار يخفي تحولات كبرى في المشهد الليبي قد تحدد مصير النظام السياسي والدولة الليبية.
تعدد السيادة
مصطلح “تعدد السيادة” وضعه عالم الاجتماع الأميركي تشارلز تيلر حين درس التحولات التي حدثت في أوروبا في القرن التاسع عشر. هذا المصطلح يظهر في الحالة الليبية، وهو ليس بجديد، فكل طرف يحاول أن يكون هو صاحب القرار والآمر الناهي، وبالطبع فإن كل طرف يملك الحجج القانونية لذلك، والتي في النهاية تفتقر لسلطة قضائية ودستور.
ونظرًا لغياب سلطة التأويل لنصّ غير موجود في الأساس وهو الدستور، فإنّ الأطراف تملك النص وتأويله، وصار الكل يتحدث عن اتفاق جنيف، ويمارس السلطات والقرارات في حدود سلطاته: مجلس النواب وتوابعه في الشرق، والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة وأنصارها في المنطقة الغربية.
هذه التعددية أدخلت الدولة الليبية في حالة فشل مستمر، بدءًا بالعنف الذي شهدته البلاد في نهاية عام 2022 بين المجموعات المسلحة في طرابلس، وانتهاءً بالخلل الهيكلي في مؤسسات الدولة الأساسية، وهي: مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، ومؤسسة ليبيا للاستثمار (الصندوق السيادي الليبي).
هذه المؤسسات دخلت في المعادلة السياسية، بدءًا بمؤسّسة الاستثمار التي تعاني من إشكالات هيكلية تغيرت وفقًا للسلطات الحاكمة، ثم المؤسسة الوطنية للنفط بعد اتفاق حكومة الوحدة الوطنية وخليفة حفتر على شخص فرحات بن قدارة، وانتهاءً بالاتفاق على تغيير رئيس مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، والذي لم يكن سهلًا ولا تزال بعض القوى تقاوم ذلك، ولكن يبدو أنها لن تنجح.
لماذا لن تنجح؟
لأن القوى المختلفة تطورت في أدائها عما كانت عليه قبل سنين، فهي الآن تملك من المصالح ما يجعلها أقدر على عقد صفقات فيما بينها. لذا، فإن الإنفاق السخي من المصرف المركزي على مشاريع الإعمار في بنغازي، والذي ظهر في مشاريع تنموية باتت حديث الزائرين للمدينة، جعل القوى في المنطقة الغربية ترفض هذا التمييز الذي يمنعها من الثروة التي يمكن من خلالها بناء مشاريع سياسية، تُستخدم في الدعاية السياسية وحشد الجماهير نحوها. في تحليل لمواقع التواصل الاجتماعي، كانت مشاريع بنغازي تحظى بتعليقات إيجابية وصلت إلى 70%، وهو رقم صعب في مثل الحالة الليبية.
هكذا، رغم تعدد السيادة، استمر الصراع حول الموارد ضرورة لكسب نقاط ضد الخصوم من خلال تمويل مشاريع لحشد أكثر عدد من الناس لطرف على حساب طرف آخر.
يبقى السؤال: هل هذا إيجابي؟
سلطات هشة تبحث عن شعبية
تعدد السيادة يخلق شرعيات هشة، لذا فإن كل طرف يبحث عن ظهير شعبي، وعن إعلام يطبل له، وعن مثقفين يثنون على السلطات، وعن تغيير في ميول الرأي العام يحسم الخلاف بطريقة بعيدة عن العنف.
هذا لم يحدث، والرأي العام رغم صعوبة دراسته كان حذرًا في التقلب من معسكر لآخر. التحولات بطيئة جدًا. في دراستنا (مركز بيان للدراسات) لمواقع التواصل الاجتماعي، وجدنا أن التغيرات تحدث بشكل دوري مع كل تحول في سلوك السلطات الحاكمة.
فعلى سبيل المثال، وجدنا ثلاثة منحنيات مهمة: الأول مع سيف القذافي أثناء الانتخابات، حيث كانت هناك نسب إيجابية لصالح ابن القذافي، الثاني كان مع صعود نجم عبد الحميد الدبيبة حيث انهالت عليه التعليقات والإعجابات والمشاركات من كل حدب وصوب، وكان هو الأول في المنطقة الغربية وكثير من المناطق الشرقية، واجتاحت شعبيته المنطقة الجنوبية. الثالث كان مع المشروعات التنموية التي قام بها ابن خليفة حفتر، بلقاسم، الذي تولى مشاريع إعادة الإعمار في مدينة درنة المنكوبة التي أغرقتها سيول مدمرة يومي 10 و11 سبتمبر/أيلول عام 2023.
هذا يعني أن الرأي العام ليس ساكنًا كما نعتقد، بل إن اتجاهاته وميوله تتحرك وفقًا للأحداث، وعندما يحصل الانسداد السياسي يصعب فهم هذا الرأي العام.
السلطات الهشة تسعى لكسب الشعبية من أجل تحقيق شرعية تستند إلى تأييد الشارع، لكن النخب، رغم أنها لا تصرح بذلك علنًا، لم تمنح أي طرف دعمًا مطلقًا. وباستثناء بعض الأصوات التي دأب الشارع الليبي على سماعها تروج للسلطات، نجد النخب الثقافية والفكرية تظل متعالية ورافضة تمامًا التعامل مع السلطات الحالية.
للأسف، تمارس هذه النخب نوعًا من المعارضة السلبية، حيث تركز على انتقاد السلطات دون تمييز، مما يجعلها أشبه بقوى خاملة يستمع إليها الشارع دون أن يعرف كيفية التفاعل معها، أو الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكه.
رفض كل شيء يعني أنك لا تملك رؤية ولا تريد الحركة. أنت تحمل قيمًا، لكنها ثقيلة تمنعك من الحركة وسرعان ما تتوقف بسبب ثقلها. السيناريو الذي تطرحه هذه النخب غير واقعي، فلا يمكن مثلًا إزاحة هذه السلطات من خلال قوة الشارع، إلا بانفجار هائل يبدو أقرب للأمنيات، فليبيا باقتصادها الحالي بعيدة عن الجوع القاتل والفقر المدقع، وبالتالي هي بعيدة عن ثورة الجياع.
حتى نختصر الأمر
تعدد السيادة خلق حاجة لظهير شعبي، ورغم انقسام الشارع بين مؤيد ومعارض، فإن النخب الليبية الحقيقية التي يستمع لها الناس في الإعلام ويعرفون وطنيتها وتجربتها لم تقر لأحد بالوصال، إلا أعدادًا معروفًا عنها المناصرة والانحياز المسبق. في مثل هذه الأوضاع، ما الذي سيحدث؟ وما الذي يجب على النخب الليبية فعله؟
تأثير الملكة الحمراء
في رواية “أليس في بلاد العجائب” للكاتب لويس كارول عام 1865، تقول أليس للملكة الحمراء: “إنني أجري، والدنيا لا تتحرك من حولي”، فترد عليها الملكة: “عليك أن تجري ضعف سرعتك حتى تبقي في مكانك.”
هذا يسمى في علوم السياسة “تأثير الملكة الحمراء”، أو كما كتب آينشتاين لابنه: “الحياة مثل الدراجة، لتحافظ على التوازن عليك أن تستمر في الحركة”. هذا ما يحدث في ليبيا، الحركة بطيئة، لكنها ضرورة للبقاء. المشهد يتغير في قفزات هائلة مع استمرار ذلك النمط من تعدد السيادة وهشاشة الشرعية.
بعد ثلاثة عشر عامًا، شهدت ليبيا تغيرات هامة، منها أن تشكلت سلطات أقوى من السابقة. حكومة الوحدة الوطنية تمتلك قوة لا يستهان بها، بما في ذلك قوات جوية، وحفتر كذلك أسس كتائب وقوات لا يمكن لعاقل أن يستهين بها. هذا كله والبلد منقسمة كما هي؛ لكن الأحداث خلقت تحولًا في تصور القوى الفاعلة، فهناك قدرة على إنفاذ الصفقات لم تكن متوفرة في السابق. وهناك خطاب أكثر حذرًا في التعامل مع الإعلام والمجتمع الدولي.
حفتر مثلًا يؤكد أن تحركاته في الجنوب، التي حذرت منها البعثة الأممية في الأسابيع السابقة، لم تكن إلا لحماية الحدود مع الجزائر. وبعد أن حاول عقيلة صالح رئيس مجلس النواب السيطرة على المشهد، سارعت القوى العسكرية في المنطقة الغربية بالاتفاق على نحو لم نرَه من قبل.
التغيرات في المشهد الليبي الآن
التغيرات في المشهد الليبي الآن تكمن في تصور إمكانية وجود صفقة جامعة. أبناء حفتر لا يمانعون في التعامل مع القوى في المنطقة الغربية كأنداد، ولم يعد يروق لهم موقف أبيهم المتصلب. كيف وقد انغمسوا في مشاريع الإعمار بمليارات الدولارات في بنغازي ودرنة؟ رئيس مجلس النواب يستبعد الحرب في طرابلس ويؤكد أنها لن تحدث، ويرسم هو وخالد المشري ملامح المرحلة القادمة وفق ما يحقق مصالحهما.
تطورت مصالح القوى العسكرية كذلك بصورة تجعل حسابات الحرب مرتفعة جدًا، وظاهر في ليبيا اهتمام السلطات بالرأي العام لردم هوة الشرعية الهشة.
من الضروري أن تتبنى النخب دورًا أكثر إيجابية في التعامل مع السلطات الحاكمة، كما اقترح ماركس ألبرتس في كتابه: “أنثروبولوجيا الديمقراطية”، وذلك بهدف تحقيق توازن بين سلطاتها ومتطلبات الشعب.
السلطة في العادة بما تملكه من نفوذ وموارد تكون أسرع في حركتها من المحكومين، وهي تحتاج لحركة النخبة من هؤلاء حتى لا يخرج الشعب من المعادلة. وفي ظل تشكل السلطة في ليبيا، فإن الانتظار والتردد في موازنة هذه السلطة ليسا هما الحل، بل لا بد من منازعتها لتنفيذ مطالب واحترام وثائق وطنية وحقوقية تفرضها النخب.
هذا النهج سيكون أكثر فاعلية من مجرد النقد، ويمكن أن يساعد في تحقيق الاستقرار للسلطات، ويشجع الناس على المشاركة السياسية، ويعيد للرأي العام دوره الفاعل، بدلًا من الاعتماد على مشاريع فردية لا تتحدى سلطة المال والنفوذ.
بالطبع لن تكون المعركة سهلة، والتنازل لن يكون نزهة وهبة من هذه السلطات، لكن تجارب التاريخ تبين أنها مرحلة حساسة وأن الجري بسرعة قد يكون مفصلًا هامًا من مفاصل التاريخ، فهو ضرورة للاستمرار ومدخل للتغيير. بالطبع البديل واضح للعيان، وما حال الدولتين اللتين تحيطان بليبيا عن يمين وشمال منا ببعيد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.