في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، شكلت العلاقة بين العصبية والسلطة محورا أساسيا في صياغة مفهوم الشرعية السياسية. فقد ارتبطت السلطة غالبا بالانتماء القبلي أو العرقي، وتعزز ذلك بشرط “القُرشية” في تولي الرئاسة العامة، ما أفرز أنموذجا سياسيا تقليديا قائما على العصبية القبلية.
لكن هذا النموذج واجه من داخل التراث الإسلامي أصواتا معارضة، عبر تيارات فقهية متعددة، لم تكتفِ برفض هذا الشرط بل طرحت تصورات بديلة تستند إلى شرعية الإجماع العام والشورى ومشروعية الكفاءة والقابلية للمساءلة.
من بين رؤى هذه التيارات تميزت رؤية المتكلم والمفكر والفقيه المجتهد ضرار بن عمرو الغطفاني (100-200هـ) التي قوضت ارتباط العصبية بالسلطة، وفتحت آفاقا جديدة لفهم الشرعية السياسية.
في هذه السطور نستعرض هذه الرؤية، ونفكك آليات العلاقة بين العصبية والسلطة في الفقه السياسي الإسلامي، مع تسليط الضوء على أهمية إعادة الاعتبار لهذه الرؤية المغيبة من أجل بناء فقه سياسي إسلامي حديث يستجيب لتحديات الدولة المدنية الحديثة ويساعد على إنقاذ مسارات الانتقال الديمقراطي المتعثرة.
الفقه السياسي الإسلامي وشرط القُرشية
في الفقه التقليدي، كان شرط “القرشية” أحد أهم محددات الشرعية السياسية، حيث يشترط أن يكون الحاكم من قبيلة قريش، بناء على روايات قرشية الخلافة التي تم تأويلها خارج سياقتها المكانية والزمانية، مع تجاهل صيغها الإخبارية والتي لا تتضمن أي توجيهات أو أوامر، وهذا التأويل يعكس طبيعة الاجتماع السياسي القديم المبني على العصبية والولاء القبلي، وهو ما كانت تعتمده الدولة الإسلامية المبكرة لضمان الاستقرار.
ورغم شيوع هذا الشرط العصبوي، فقد رفضته عددٌ من الفرق الإسلامية- ومنها: المعتزلة أو أغلبيتهم على الأرجح، وجميع الخوارج، “وقوم من كل الفرق” – حسب تعبير البلخي في المقالات- وأجمع المخالفون على أن أهلية الحاكم يجب أن تستند إلى الفضل والكفاءة، وأن شرعيته تستمد من الشورى والإجماع ولا علاقة للعصبية بالأهلية ولا بالشرعية والمشروعية.
ضرار بن عمرو: تفكيك العصبية والتأسيس للمساءلة
ضرار بن عمرو، من أوائل المتكلمين في الإسلام الذين تميزوا برؤية وسطية بين مدارس المعتزلة وأهل الحديث رغم تعرضه للمضايقة من جميع هذه التيارات. ويُعد كتابه “التحريش” مصدرا هاما لفهم رؤاه، خاصة بعدما عُثر على هذا الكتاب مؤخرا في اليمن وأُعيد تحقيقه ونشره.
وتميز ضرار برأيه المبطل لتقليد الشرط القبلي العصبوي في الرئاسة العامة، ولم يتوقف كغيره عند رفضه شرط القرشية بل أعلن صراحة أن “غير القرشي بل وغير العربي أولى بها -أي تولي السلطة- لسهولة عزله متى احتيج إلى ذلك (البلخي، المقالات ص 449): “ولو توفرت الشروط في اثنين أحدهما قرشي له عصبية، والآخر غير قرشي وبدون عصبية فالأولى اختيار من لا عصبية له”.
لم تكن هذه الرؤية مجرد ملاحظة فقهية، بل رؤية سياسية متقدمة، تؤكد على أهمية فصل السلطة عن العصبية، وتضع مبدأ الكفاءة والعدل في مقدمة معايير الحكم.
تفكيك العلاقة بين العصبية والسلطة
إن تأكيد ضرار على أهمية تحرير الرئاسة العامة من العصبية، لتحويل موقع الحاكم إلى موقع قابل للتداول وخاضع للمساءلة، يشكل رؤية عميقة ومبكرة في تاريخنا العربي، وتتضمن هذه الرؤية ثلاثة تحولات جوهرية:
- تحرير موقع الحاكم الأعلى من هيمنة عنصرية النسب: لم يعد معيار اختيار الحاكم هو نسبه أو قبيلته، بل فضله وقدرته على تحقيق العدالة وحفظ المصلحة العامة. تتحول السلطة من حق وراثي أو قبلي إلى مسؤولية تكتسب بالجدارة.
- من القداسة إلى المساءلة: تجرّد السلطة من الهالة القدسية التي تمنحها العصبية والنسب، فيصبح الحاكم موظفا يخضع للمساءلة والعزل، مسؤولا أمام الأمة التي تخوله السلطة، وليس فوقها.
- من الاستقرار القسري إلى التداول السلمي: تتحول آليات تثبيت الحكم من القسر والعصبية إلى التداول السلمي عبر المؤسسات والآليات الديمقراطية التي تتيح مساءلة الحاكم وإزاحته بطريقة منظمة، بما يعزز استقرار الدولة ويرسخ حكم القانون.
العصبية في سياق الدولة الإسلامية المتوسعة
ومن منظور واقعي قد يمثل نموذج العصبية التقليدي غطاء سياسيا يمكن أن يحمي السلطة، لكنه في الوقت ذاته يجردها من وظائفها المرتبطة بالنفعية العامة، ويحولها إلى مجرد تسلط غير مشروع قد يحافظ على الاستقرار في حالة غياب العصبيات المنافسة، لكنه يهدد استقرار الدولة مع اتساع رقعتها وتنوع مكوناتها. وهذا ما أكده ابن خلدون في قوله: “لأن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ إن تستحكم فيها دولة”.
وإذا كان تعدد العصبيات والهويات هو واقع الكثير من المجتمعات المعاصرة، بالإضافة إلى ما أفرزته الحداثة والعولمة من طغيان الفردية، فإن كل ذلك يفرض ضرورة البحث عن آليات حكم جديدة لا ترتكز على العصبية الضيقة.
ولهذا لا نجد علم الاجتماع السياسي الحديث المرتبط بالدولة الوطنية والجماعة الوطنية يتشاءم من تعددية المكونات الجزئية للدولة، بل إن هذا التعدد يعزز الحاجة إلى الدولة، فكلما زاد عدد الفوارق بين المجموعات الصغيرة، زادت الحاجة إلى القانون العام، وتلتزم المؤسسات القانونية والسياسية بتأمين حقوق جميع مكونات المجتمع على قدم المساواة، وتخضع السلطة للمساءلة.
لماذا نحتاج إلى إعادة الاعتبار لرؤية ضرار؟
إعادة الاعتبار لرؤية ضرار لا تعني مجرد عودة رومانسية حرفية للتراث، بل استلهام جوهر الفكرة المحورية في الرؤية، وهي التأكيد على أهمية تفكيك العلاقة بين السلطة والعصبية، وإيجاد آليات تضمن قابلية السلطة للمساءلة والتداول السلمي. ووفقا لرؤيته فإن التخلص من الاعتماد على العصبية القبلية في بناء الدولة هو السبيل إلى ذلك.
هذه الرؤية تقدم فقها سياسيا قادرا على التفاعل مع متطلبات الدولة المدنية الحديثة. ومن الواضح أن هذه العقبة العصبوية كانت العقبة الكأداء أمام مشاريع التغيير وبناء الدولة الحديثة وتحقيق الانتقال الديمقراطي في كثير من الدول العربية.
وإعادة الاعتبار لهذه الرؤية هي دعوة صريحة للمجتمع الإسلامي لفحص تراثه السياسي بعين ناقدة ومنفتحة على الرؤى الإيجابية في جميع المدارس الفقهية والكلامية؛ لتعزيز القيم التي تحقق العدالة والحرية والمساواة والاستقرار والتنمية في عالم معقد ومتغير.
ومن وجهة نظرنا فإن استعادة رؤية ضرار بن عمرو ليست مجرد استحضار لأفكار منسية، بل دعوة لتفكيك الرواسب العصبَوية في فقهنا السياسي، والانطلاق نحو شرعية مدنية تستمد قوتها من الأمة لا من النسب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.