حظيت اليمن خلال الأسابيع الماضية باهتمام إعلامي عالمي غير مسبوق؛ جراء الهجمات العسكرية الحوثية ضد أهداف تجارية في البحر الأحمر، كادت أن تسبب خسائر فادحةً للاحتلال الإسرائيلي، قامَ على إثرها عدد من شركات الشحن البحري العالمية بتغيير مسار رحلاتها التجارية لتمر عبر جنوب أفريقيا؛ مما يزيد من تكلفة الشحن البحري، وإطالة فترة وصول البضائع والسلع التجارية إلى موانئها ومحطاتها الأخيرة.
أثار تصاعد وتيرة هذه الهجمات الحوثية مخاوف حقيقية على حركة التجارة العالمية في ظل صراعات عالمية مشتعلة في أوكرانيا وغزة، وغيرهما من التوترات السياسية الأخرى.
كما جاءت هذه الضربات المؤلمة للحركة التجارية الإسرائيلية في البحر الأحمر في وقت خذلت فيه معظم الأنظمة العربية والإسلامية الفلسطينيين في غزة، عاجزةً عن تقديم أدنى أنواع الدعم العسكري؛ مما يساعد في وقف هذه الحرب.
أدت هذه الهجمات الحوثية إلى زيادة شعبية جماعة “أنصار الله” زيادةً كبيرةً ملحوظةً خارج اليمن، حيث تظل القضية الفلسطينية محل إجماع في أوساط الشارع العربي ومؤسساته الشعبية، رغم التذمر الشعبي اليمني الواسع ضد ممارسات الحكم الخاطئة للحوثيين في اليمن وحرمان موظفي الدولة اليمنية وأرباب المعاشات وأسرهم من أرامل وأيتام من مرتباتهم الشهرية لعدة سنوات، وكذلك حصارهم المرير مدينةَ تعز منذ بداية الحرب اليمنية في مارس 2015م.
وسواء كانت هذه الهجمات الحوثية نتيجةً بإيعاز وتوجيه إيراني مباشر، أم كانت بإرادة حوثية خالصة، فإنها بلا شك سوف تُحقِّق الكثير من المكاسب السياسية للحوثيين إذا أحْسنُوا توظيفها.
إدراك الحوثيين السياسة الأميركيّة في المنطقة
استغلّ الحوثيون في هجماتهم البحرية العسكرية تراجع دور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ورغبتها في السيطرة على الحرب الدائرة في غزة، والحيلولة دون توسعها في المنطقة؛ مما سيؤثر سلبًا على الاستقرار الإقليمي والعالمي.
لقد عملت الولايات على تعزيز وجودها البحري العسكري لطمأنة إسرائيل من جهة، وتوجيه رسالة خاصة إلى إيران وحلفائها في المنطقة من مغبة المشاركة في الحرب عسكريًا لصالح حركة حماس من جهة أخرى.
لقد كان الرد الحوثي العسكري المتمثِّل في اختطاف بعض السفن التجارية ذات العلاقة مع إسرائيل- مثل سفينة الشحن “غالاكسي ليدر”- هو الرد العسكري القوي الوحيد من حلفاء إيران في المنطقة، مما أربك سياسة إدارة الرئيس الأميركي بايدن في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالصراع والأزمة الإنسانية في اليمن.
أمن البحر الأحمر
شكلت الولايات المتحدة تحالفًا عسكريًا بحريًا باسم “حارس الازدهار”؛ لحماية حركة الملاحة في منطقة البحر الأحمر؛ تلبيةً للضغوط الإسرائيلية التي هددت بالتدخل المباشر في منطقة البحر الأحمر، وتوجيه ضربات للحوثيين حال استمرار تعرُّض الجماعة الحوثية للسفن التجارية الإسرائيلية.
ومن المثير للانتباه غياب كل الدول المطلة على البحر الأحمر، عن هذا التحالف العسكري، مما يدل على رغبة الدول المطلة عليه في تهدئة الوضع الأمني في المنطقة، وتجنُّب الانزلاق لمواجهة عسكرية، قد تؤدي إلى توسع دائرة الصراع. كان غياب المملكة العربية السعودية- عن هذا التحالف- دلالةً واضحةً على رغبة المملكة في طي ملف الحرب في اليمن دون رجعة.
يعود الفضل إلى الرئيس اليمني الراحل المقدم إبراهيم الحمدي، في إدراك الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر، وضرورة بذل الدول المطلة عليه قصارى جهدها للعمل على تأمينه وتأمين مصالحها الإستراتيجية فيه.
عقد الرئيس الحمدي قمة رباعية قبيل اغتياله في أكتوبر عام 1977م، احتضنتها مدينة تعز اليمنية، مع كل من رئيس جمهورية السودان المشير جعفر محمد النميري، ورئيس الصومال سياد بري، ورئيس الشطر الجنوبي من اليمن الرئيس سالم ربيع علي؛ لبحث تأمين البحر الأحمر من خلال الدول العربية المطلة عليه، والعمل على إبعاد النفوذ الإسرائيلي المعادي للعرب في هذا الممر المائي الإستراتيجي.
لكن أدّت عملية اغتيال الرئيس الحمدي المأساوية، إلى اغتيال الحُلم اليمني في تشكيل تحالف من الدول المطلة على البحر الأحمر؛ لتأمين هذا الممر المائي الهام في التجارة الدولية.
هل ستهاجم أميركا وحلفاؤها اليمن؟
على الرغم من تسارع الأحداث في منطقة البحر الأحمر، فإنه يبقى احتمال الهجوم الأميركي -عبر تحالف “حارس الازدهار” نحو أهداف يمنية عسكرية- احتمالًا بعيدًا؛ نسبةً للأسباب التالية:
أولًا: لا يرغب كل من الحوثيين والإيرانيين والأميركيين في مواجهة عسكرية ضد بعضهم بعضًا، إذ استفادت إيران كثيرًا من التدخل العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط – وخصوصًا في حربها ضد العراق- لتقوية نفوذها في المنطقة العربية، بدءًا من العراق، ثم سوريا، واليمن بعد الربيع العربي.
ثانيًا: تقتضي المصلحة السياسية الخاصة للرئيس بايدن، خفض وتيرة الحرب الدائرة في غزة، وتجنُّب تصعيد النزاع خارج فلسطين؛ نتيجةً لحدة الضغوط الدولية، والضغط الشعبي خاصةً في أوساط الناخبين الشباب في الحزب الديمقراطي الأميركي، مما يُهدِّد فرص إعادة انتخاب الرئيس الأميركي سنة 2024م.
ثالثًا: لن تستطيع الولايات المتحدة غزو بلد يشبه كثيرًا دولة أفغانستان في تضاريسه الجغرافية، وتركيبته الاجتماعية، وتاريخه السياسي، حيث ظلّ اليمن- خاصة الشطر الشمالي الذي تسيطر عليه جماعة الحوثيين- عصيًا على الدوام، على القوى الغربية الاستعمارية، ومحافظًا على هُويته الإسلامية الثقافية.
أخيرًا؛ سيخسر الحوثيون كثيرًا من المواجهة العسكرية المباشرة ضد الولايات المتحدة الأميركية، في وقت استفادوا فيه كثيرًا من الوضع الحالي، حيث يستطيعون الحصول على المزيد من التنازلات من الحكومة الشرعية بقيادة العليمي التي لا تستطيع التنديد علانيةً بهجمات الحوثيين ضد المصالح الإسرائيلية التجارية في البحر الأحمر، كما لا تستطيع أيضًا في الوقت نفسه أن تبارك للحوثيين جرأتهم العسكرية ومناصرتهم إخوانهم في غزة.
ولكن لن يجد الرئيس الأميركي بايدن خيارًا آخرَ غير توجيه ضربات جوية ضد مواقع عسكرية حوثية في اليمن في حال تعرُّض جنوده وبوارجه البحرية في البحر الأحمر لهجوم عسكري مباشر، الأمر الذي تدركه جيدًا كلٌّ من إيران وجماعة الحوثي، وتسعيان حثيثًا لتجنبه.
ولكن يظل حدوث خطأ عسكري- في خضم هذه الحرب في البحر الأحمر- أمرًا محتملًا مما قد يشعل فتيل الأزمة مجددًا في اليمن، الأمر الذي لا يرغب أي طرف حاليًا في إشعاله.