ما أشبه مذابح الاحتلال الصهيوني في فلسطين بمذابح الاستعمار الغربي أينما حلّ. فليست جباليا وحدها في التاريخ. فهناك مجزرة الكُفرة في ليبيا 1931، ومذبحة تازركة في تونس 1952، ومجزرة الثامن من مايو/ أيار 1945 في الجزائر، والقائمة تطول.
مجازر نفذها الرجل الأبيض بدم بارد على امتداد العالم العربي. وفي فلسطين لم تكن الصهيونية إلا الامتداد الموضوعي للغرب المتوحش. فقتلت ودمرت وهجرت. وفي الحالتين كان للقتل عند الغرب الحضاري – منذ الإرث اليوناني حتى هابرماس – عقيدة مؤسِّسة أو عقل جاهز للتبرير.
تؤكد العديد من الشواهد التاريخية أنّ الحضارة الغربية هي حضارة صداميّة بالأساس. وأنّ العقل كان مسوّغًا للقوّة والعنف وادّعاء التفوّق. وقد كان لذلك الادعاء في المستوى الإنساني ضريبته الباهظة.
موراليس وصوت من العالم المقهور
فيكفي أن نسمع إيفو موراليس الرئيس البوليفي المنتخب الذي تتحدّر أصوله من الهنود الحمر، أولئك الذين مثلوا اختبارًا حقيقيًّا للأخلاقيّة الغربيّة اﻷنجلوساكسونيّة المهاجرة، وهو يعلن: “نهب اﻷميركيّون ثرواتنا وقتلوا منّا من شاؤوا، حققوا الثروات الطائلة، وتركوا اﻷحياء فقراء يطعمون النّفايات… ولكن اﻵن ثروات بوليفيا ﻷبنائها”.
ولو قدّر لزعيم أفريقي أن يتكلم كما تكلم موراليس، لقال: لقد نهب الغرب ثرواتنا، وقتّل شبابنا، وجوّع أطفالنا، وساقنا عبيدًا كي نبني بسواعدنا حضارة لن تكتب باسمنا، أو باسم آبائنا أو أبنائنا، في مزارع القطن في أميركا الشماليّة، أو حقول الكاكاو في البرازيل، أو صناعة السكر في كوبا.
وهناك في الجزء اﻵسيوي من العالم، حيث الهند الهولنديّة، كانت اﻹدارة الاستعماريّة تقدم أبشع صور الاستعباد والاستغلال، خاصة في إندونيسيا، تمامًا كما فعل اﻹنجليز في الهند التي كانت ترزح تحت المجاعة.
وهكذا قامت الحضارة الحديثة على محق الهنود، وصيد العبيد السّود، وشره استثنائي في امتصاص مقدّرات اﻷرض واﻹنسانيّة، ذلك المحرك الرّئيسي لدواليب الحضارة. إنّه محضر إدانة لعقود سوداء من الزمن، كان الغرب فيها أقلّ تسامحًا، وكانت الولايات المتّحدة اﻷميركيّة المتناسلة من صلبه، تُبْنَى على الجماجم.
باسكال بروكنر وعقيدة الاستعلاء
ولم يخفِ بعض المثقفين الغربيين تلك الحقائق. فتحت عنوان فرعي “الجرثومة اليانكية” تقول باسكال بروكنر: “ولكن أميركا محملة بكل الأمارات التي يعرف بها ذنب الغربي: فهي تجمع إلى الغني عدم المساواة، كما أنها مهيمنة، ومتعجرفة ومتلوثة، مؤسسة على جريمة مضاعفة قوامها إبادة الهنود الحمر واسترقاق السود، لا تزدهر إلا بتهديد المدافع، لا تهتم بالمؤسسات الدولية.. كما أنها متجهة بكاملها لعبادة الورقة الخضراء، ذلك الدين الوحيد في هذا البلد المادي”.
ويجد ذلك المحضر قرائن الإثبات التاريخي في تلك التّصورات الجنينيّة التي كوّنها اﻷميركيون اﻷوائل – أولئك “الأجداد المسافرون” – عن أنفسهم وعن العالم.
لقد كانوا أمناء أو ورثة لأصولهم البريطانيّة اﻷنجلوساكسونيّة. ومن ذلك الميراث ما أصدرته الجمعية البريطانيّة سنة 1703 في شكل قانون ينص على دفع مكافأة قدرها 40 جنيهًا عن كل أدمة رأس مسلوخة لهندي أحمر، أو عن كل أسير هندي.
وقررت الجمعيّة نفسها زيادة المكافأة عام 1774 إلى 100 جنيه عن كل رجل، و55 جنيهًا عن كلّ امرأة أو طفل من الهنود الحمر. فكأنّ قتل الذات البشريّة، قد أصبح مصدرًا للارتزاق ومدخلًا لاستيعاب العاطلين عن العمل.
وهناك على الأرض الجديدة، حين كانوا يصطدمون بسكانها الأصليين، كان اللاهوتيون الإسبان ينزعون عنهم صفتهم الإنسانية باعتبارهم غارقين في الخطيئة، وبالتالي لا يمكن أن تكون لهم سلطة على الأشياء، ولا حق لهم في الملكية، ولا في أن يكونوا أحرارًا. لقد اقتضت تلك الرؤية الإنجيلية تجريدهم من ملكياتهم، تمامًا كما اقتضت مصادرة حرياتهم واسترقاقهم.
إنّ الإنسان فوق الطبيعة، والراشدون فوق الأطفال، والمسيحيّون فوق غير المسيحييّن، والبيض فوق الملوّنين، والثقافة الغربيّة فوق الثقافات غير الغربيّة، وأميركا فوق بقيّة الأمم. فمن يجرؤ بعد ذلك على معارضة لوغوس العصر الجديد؟
يقول البروفيسور رونالد دافيس Ronald Davis وهو يكشف عن واحدة من فصول تلك المأساة: “لا نبالغ حين نقول إنّ الأرباح التي نتجت عن نظام وتجارة الرّقيق من 1600 وحتى 1860 قد ساهمت إلى حدّ كبير في بروز الغرب في غرب أوروبا والولايات المتّحدة كقوى مهيمنة على العالم”.
لقد بنيت أسطورة الغرب على الجماجم. وبنيت الحضارة الغربيّة على العنف والمنفعة واللذة. وأصبح القتل رسالة تنويريّة، والقتلة رسلًا للحرّيّة والتّحضر.
إنّه عين ما عبّر عنه الصحفي والكاتب اﻷميركي كيمان ألوت حين قال: “إنّ وظيفة الجنس اﻷنجلوساكسوني منح الحضارة لشعوب العالم غير المتحضرة، إننا ننكر على أي شعب بربري أن يبقى في حوزته أي جزء من اﻷرض”.
ويكتب روجيه غارودي ناقلًا لكلام جول فري Jules ferry: “إن تأسيس مستعمرة يعني إنشاء سوق”. ويضيف فري أمام البرلمان الفرنسي: “يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقًا عمليًا، على الأعراق السفلى…”. ثم يعلق روجيه غارودي بعد ذلك بالقول: “إن هذه الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة التي تستخدم منذ خمسة قرون كمبرر أيديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار، إنما تلعب مرة أخرى دورها اللعين في آخر المغامرات الاستعمارية في التاريخ “.
فكأن العنف والهيمنة في النهاية ليسا إلا مقاربة علمية، أو مصادرة فلسفية للعقلانية الغربية، وكأن العقل هو المؤسس للاستعمار والاستغلال. فهو الذي يصنع القاتل وهو الذي يصنع القتيل. خاصة وقد صاغ في كبريات الدوائر السياسية والأكاديمية ذلك الاعتقاد المقدس بالتميز والتفوق والنقاء.
تلك القيم المقابلة لقيم التخلف والتعصب والانحطاط على الضفة الأخرى. ولن يكون الاختلاف في هذه الحالة مقدمةً للتنوع والاعتراف، أو للتثاقف الحضاري والسلم الدولي، بل مبررًا للعلاقات الاستعمارية أو التبعية. إنها قوانين الغالب حين يجريها على المغلوب.
هنا يجد موقف موراليس مبرّراته. كما يجد مبررات أخرى في تلك الإعلانات الممجوجة عن تفوّق من نوع خاص يدّعيه الغرب عمومًا والأميركيّون خصوصًا لأنفسهم. وذلك التفوّق يبرّر حقّهم في الحكم والتّملك.
فمن هيرمان ملفيل إلى مادلين أولبرايت تنبري الدّيباجة نفسها، وإن اختلف عرضها البلاغي، هم اﻷقوى واﻷنقى واﻷحق بالحياة. فمع بداية القرن التاسع عشر، كان الروائي اﻷميركي هيرمان ملفيل يقول: “نحن رواد العالم وطلائعه، اختارَنا الرّبّ… والإنسانيّة تتطلع إلى سلالتنا وتنتظر منّا الكثير… لقد بات على أكثر اﻷمم أن تحتل المؤخرة، نحن الطليعة، ننطلق إلى البريّة لنقدّم ما لم يستطع أن يقدّمه اﻷوائل”. والمسألة عند السّيّاسيّين أكثر وضوحًا وأدقّ تفصيلًا.
لقد كان ثيودور روزفلت (1858-1911) يقول: “إنّ أمركة العالم مصير أمّتنا وقدرها”. وبعد الحرب العالميّة الثانيّة، كان ترومان يتفاخر بالقول: “العالم الآن في قبضة أيدينا”. وكما يقول جاك براسول: “إذا كان حجم الكعكة لا يزال هو نفسه في أذهان النّاس، فالحل الوحيد كي تضاعف من حصّتك هو أن تأخذ من (نصيب) الجيران”.
بعد هذا التنقيب المتواضع في تجليات الحضارة الغربية نظرًا وممارسة، تبدو لنا تلك الحضارة من خلال الشواهد التاريخيّة التي تستعصي على الإحصاء، حضارة تفكيكيّة بامتيّاز. وتبدو الخطورة أكثر في اعتماد ذلك المسلك مطبّقًا على اﻷشياء الحية، كاﻹنسان أو اﻷسرة أو اﻷمّة، ففي تلك الحالة سيؤدي حتمًا إلى استباحة الاستعباد والسيطرة.
وأيًّا كانت المسارات التي راكمتها الفلسفة الغربيّة، فقد وجدت تجلياتها النّهائيّة مثلما يرى أحمد داوود أوغلو في أزمة حضاريّة كاسحة، تبدّت من خلال “الاختلالات المفاهيميّة والمؤسسيّة التي انتابت علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة”، لتنعكس في بعدها السّيّاسي في ضيق أفق الدّولة القوميّة، وتنعكس في بعدها الإستراتيجي في انسداد أفق النّظام العالمي.
وإذا كان ضيق أفق المفهوم الغربي للدّولة القوميّة قد استبطن عقليّة الاحتراب بوصفها ضرورة وجودية لتشكل الدّولة، فكانت حروب فرنسا النابوليونية، وألمانيا الإمبراطوريّة أو ألمانيا الاشتراكية القوميّة، وكانت الصّهيونيّة، فإنّ ضيق أفق المفهوم الغربي للنّظام العالمي، قد تردّى في ممارسة الهيمنة والاستيلاء على مقدّرات الشعوب، والاستعمار على أوسع نطاق، خاصّة في صورته الأنجلو- أميركية.
وربّما بسبب ذلك، أصبح الاتّجاه العام للوجود الإنساني نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الجديد يجنح إلى تبني مفهوم أكثر جذريّة للرد على العجز البنيوي للحداثة الغربيّة في الفكر وفي الممارسة. في زمن لم تستطع فيه التيّارات النقديّة من داخل النّسق الحداثي الغربي نفسه، أن تتجاوز البعد الإصلاحي في نقدها. ولاشك في أنّ لتلك الفلسفة أثرها في توازنات العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.